حين وضع"شوفير"التاكسي حقائبي في صندوق سيارته، وانطلق بي الى مطار"رواسي"الباريسي، خلت ان لبنان بات قريباً. صرت اتفرج على شوارع باريس مودعاً اياها، سعيداً بكوني لم اذهب الى المطار بالمترو الذي لا نرى منه الا عتمة انفاقه تحت الارض. خلت ان لبنان بات قريباً وانا في طريقي الى المطار، و باريس بدت لي بعيدة وانا لا ازال فيها. باريس التي قضيت فيها سنتين والتي واجهت صعوبات وتعقيدات كثيرة حين قررت تركها. قالت لي موظفة شركة"اير فرانس"حين وضعت حقائبي على ميزانها ان معي وزناً زائداً. سألتها ما العمل فقالت، بعد ان اقامت حساباتها على الكومبيوتر الذي امامها، انني يجب ان ادفع 500 يورو كي تسمح لي بالصعود الى الطائرة. قالت ذلك ببساطة فائقة ونظرت اليّ كأنها تنتظر مني ان امد يدي الى جيبي وادفع لها المبلغ. لكن صوتي بدأ يرتجف وأنا أقول لها انني طالب لبناني، وانني انتهيت من الدراسة في باريس، وانني لا أملك مبلغاً كهذا. واردت ان اكمل بأنني لا بد ان اتخطى العشرين كيلو التي تسمح بها شركة الطيران الفرنسية، لأنني أحمل في حقائبي كل ما ملكته في باريس خلال السنتين اللتين قضيتهما فيها. لكن الموظفة سرعان ما قاطعتني بصوت ناشف وجازم قائلة إنّها لا تستطيع ان تفعل لي شيئاً، وانني اما ان ادفع المبلغ او ابقى في المطار. هذه السيدة لا تحب كثرة الكلام, ولم تقبل ان افسر لها لماذا لا استطيع ان ادفع. كانت تكلمني، ولا تنتظر مني جواباً، لا تريدني ان اتكلم، ولا ان افسر، كأنها للكلام فقط، وليس للسمع. وضعت امامي خيارين. اما ادفع 500 يورو، وأما آخذ حقائبي واعود من حيث جئت، تاركاً مكاني امام مكتبها الى الفتاة التي كانت خلفي تنتظر دورها، والتي بدأت موظفة"اير فرانس"تنظر اليها كأنها بذلك تلغيني، او تلغي وجودي الذي ما زال ماثلاً امامها، او، ولأكن طيب النية، تحثني على الاستعجال بأخذ القرار، على الاختيار بين الدفع والاختفاء. "لديك عشر دقائق"، قالت لي حين سألتها ان كنت استطيع ان افكر بما سأفعله. سألتها:"أين أجد تلفوناً لاتصل ببيروت؟"فدلتني على هاتف عمومي في آخر القاعة الواسعة كما هي قاعات المطارات. ثم قالت لي إنني يجب أن اشتري كارتاً هاتفياً من دكان المطار، لأن الهاتف العمومي الموجود في المطار هذا لا يعمل من دون كارت خصوصي."اركض"قالت لي، ولم تقبل ان اترك امتعتي قرب مكتبها. وانا صرت اركض، من اول قاعة المطار الى آخرها، ثم من آخرها الى اولها، مع امتعتي الثقيلة التي اضافة الى وزنها القانوني، هناك ما هو وزنه 500 يورو. على الهاتف، لم استطع ان اجد حلاً للمشكلة المكلفة التي لم اكن اتوقعها. رجعت الى مكتب الموظفة لأقول لها انني لن ادفع ثمن ثيابي مرة اخرى، وانني افضل رمي الوزن الزائد، لكنها رفضت هذه المرة ايضاً."ممنوع رمي الاغراض في المطار"، قالت لي على نحو ممنوع رمي الاوساخ، وذلك لاسباب امنية. ذكرتها بأنني طالب، وبأنني عائد الى بلدي بعد سنتي دراسة، وانني انا من يجب ان اقرر ان كنت اريد الاستغناء عن اغراضي التي وحدي يحق لي التعلق بها ايضاً. لكنها اصرت على تحذيري من رميها في المطار. طلبت منها ان تنادي رئيس القسم لاتكلم معه، فقالت ان ذلك لن يفيدني بشيء، لأن القانون هو القانون، ولأنه لم يتبق لي من الوقت الا دقائق قليلة لا تكفي للحوار والمجادلة. وبدأت كما في المرة الاولى تنظر خلف كتفي الى المسافر الذي ينتظر دوره، داعية اياي بذلك الى الابتعاد عن مكتبها مرة جديدة. لكنني أصررت على البقاء وأصررت على انتظار المسؤول الذي ذهبت لتناديه. لم يترك لي المسؤول حين جاء مجالاً للتفسير، فما اخبرته به الموظفة قبل أن يصل كان كافياً ليقول لي ما قالته هي. لم يضف الى الخيارين خياراً آخر ولم يرض هو ايضاً بأن أرمي الوزن الزائد. طلبت منه أن ينادي احد رجال الامن كي يرى إن كان في حقيبتي قنبلة او سلاح او اي شيء من هذا القبيل. لكنه قال لي انه لن يفعل ذلك لأن القانون هو القانون، ولأن رمي الاشياء ممنوع. كأنني أتكلم مع كومبيوتر لا يفهم الا ما برمج على فهمه، ولا يقول الا ما جرت برمجته على قوله. كان المسؤول واقفاً امامي ينظراليّ كأنه ينتظر مني جواباً ليقول للطائرة ان تقلع او ان تنتظرني دقيقة في حال قررت الدفع. لكنني قلت له انني لا استطيع ان ادفع المبلغ هذا، وسألته ان كنت استطيع ان ارمي اغراضي خارج المطار. اعطيهم الى"شوفير"تاكسي واطلب منه ان يرمي الأغراض او أن يأخذها. لكن حتى هذا ممنوع بحسب ما قال. ثم بدأ المسؤول كأنه فقد صبره هو ايضاً، او كأنه فقد امله بان ادفع المبلغ، فطلب مني ان افعل ما اريد وادار ظهره وذهب. كانت يداي ترتجفان حين اخرجت كل المال الذي في جيبي لاعده، وكان صوتي يرتجف حين رجعت الى مكتب الموظفة التي بدا على وجهها الملل والاستياء حين رأتني أتوجه اليها مرة اخرى. قلت لها ان معي 300 يورو، وهو كل ما استطيع دفعه. لكنها سرعان ما اجابتني انها لن تستطيع ان تفعل لي شيئاً الآن لانني ترددت كثيراً وأضعت وقتي بالتردد، وانها لن تأخذ حقائبي وان دفعت المبلغ المطلوب كله. قالت ذلك كأنها تعاتبني على عدم قبولي منذ البداية، ورفضي المتكرر حتى فوات الأوان. كأنها علمتني درساً لن انساه طيلة حياتي، وكأنني رأيت في عينيها عظة ينبغي لي ان اقبلها ممتناً. عظة اثارت غضبي، خصوصاً حين قالت لي ان بطاقة الطائرة التي معي لا تستبدل بأخرى."الآن بت مجبراً على دفع 500 يورو ثمن بطاقة جديدة"، قالت لي. موظفة أخرى سمعت صوتي وجاءت للاستفسار. تحدثت مع زميلتها بصوت منخفض لم اسمعه. ثم قالت لي انها ستسمح لي بالصعود الى الطائرة اذا دفعت المبلغ الذي في حوزتي. الأمر الذي فعلته من دون ان اتردد، مخافة ان ينقلب الحال بي الى جولة جديدة من انعدام الخيارات. حين وصلت الى بيروت، وقفت في الصف منتظراً دوري للمرور على مكتب الامن العام، رأيت شرطياً يلفظ اسم احد المسافرين من اجل التعرف الى صاحبه، كي يضعه في اول الصف بدلاً من ان يكون في وسطه او في آخره. هذه الفوضى حلوة، وهي اراحتني، بلا شك، اكثر مما اراحت صاحب الاسم. بلدنا جميل وسهل، والقانون الذي نسير وفقه يتواطأ معنا أحياناً، فيدفعنا مثلاً إلى تجاوز الشارة الحمراء، فيبدو كأنه يقول لمن هو وراء المقود منا: هيا، انطلق، لا احد هناك، في الجهة الأخرى، عند الإشارة الخضراء. الآن، وانا في المطار، قلت ان السنتين اللتين قضيتهما في باريس لن تتمكنا من جعلي فرنسياً. لن اكون مثل هيام التي، في الثالثة صباحاً، قالت لصديقتها التي اتت لتقلها من مطار بيروت: قفي، قفي، انها حمراء... مع ان الشارع آنذاك كان خالياً من السيارات، بل كانت اشارات المرور تبدل ألوانها هكذا، بلا فائدة.