منذ الثورة الفرنسية، أصبح مفهوم الديموقراطية مرتبطاً بفكرة الحرية الفردية والسيادة التي انتقلت من شخص الملك ذي السلطة المطلقة إلى رأس الأمة أو الشعب. وتتألف الحرية الفردية في شكل أساس مما يدعوه رجال القانون"الحريات العامة"، أي حرية الدين والفكر، وحرية التنقل الحر داخل الوطن وبين الوطن والبلدان الأخرى، فضلاً عن حرية الملكية والتجارة والشراكة. وكما نرى. صحيح أن هذه الحريات فردية إلا أنها تسمى الحريات العامة، لأن قيام أي نوع من التجمع بين المواطنين سواء على الصعيد الديني أو السياسي أو الاقتصادي يهمّ الدولة بصفتها موكَلة على صونَ استقرار المؤسسات وعلى محاربةَ أية محاولة لقلب النظام أو زعزعته أو المساس بالاقتصاد. هنا يكمن جوهر العلاقة بين الحرية والسيادة. فالسيادة مفهوم أساس في الديموقراطية. وهي تعني سيطرة الدولة على القوة الجماعية للأمة أو الشعب من دون أي رقابة أو تدخّل لقوة أخرى. وعلى هذا الأساس، هي وحدها القادرة على تأمين الحرية الفردية والجماعية للمواطنين، حرية هي ملك لهم. لكننا نقع أمام مشكلة هنا بسبب اختلاف التصوّرات حول طريقة الإمساك بزمام هذه السيادة وممارستها. ففي نظام السيادة الوطنية، تحيل"الأمة"مهمة قيادة الوطن إلى ممثلين يتمّ انتخابهم دورياً. وفي هذا النظام، يشكّل مفهوم فصل السلطات عنصراً أساسياً في حسن السير الديموقراطي للنظام ولحرية المواطنين. أما في نظام السيادة الشعبية فتلجأ الدولة إلى استشارة المواطنين في شكل مباشر ودوري في كل قرار مهم يطاول مصير الوطن عبر تنظيم استفتاءات شعبية حول عدد من المسائل الأساسية، مما يقيّد سلطة التمثيل النيابي في حياة كل وطن. وفي هذا النظام أيضاً، من غير الوارد أن تنبثق السلطة التنفيذية من التمثيل النيابي، بما أن رئيس الدولة يُنتخب من طريق الاقتراع العام فيستطيع بذلك أن يكون، عند الضرورة، الكفة التي ترجّح الميزان ضد النفوذ الكبير للتمثيل النيابي. السيادة الوطنية والسيادة الشعبية لطالما أُخذ على تصورات نظام السيادة النابعة من الشعب مأخذ مهم، وهو أنها تسبّب انسياقات غوغائية، ويمكن أن تؤدي إلى أشكال من الدكتاتورية. ولكن، قد نجد هذه الانسياقات أيضاً في الأنظمة القائمة على السيادة الوطنية، حيث يمكن أن تقع تفاوتات كبرى بين الرأي العام وممثليه من النواب. وهذا ما حدث أخيراً في أوروبا عندما حصلت الحكومات في إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا على موافقة البرلمان لخوض الحرب ضد العراق، في حين كان الشعور الشعبي معارضاً لهذا القرار في شكل واضح وكبير. في الواقع، يجمع الدستور الفرنسي للعام 1958 وتعديلاته، بين هذين النظامين جمعاً موفّقاً، وكذلك يكرّس الدستور السويسري ممارسة شائعة تقوم على اللجوء إلى استفتاء الرأي على صعيد الوطن كما على صعيد الكانتونات. فاستفتاء الرأي يشكل طريقة مفيدة تمنع ممثلي الشعب من مصادرة السيادة الوطنية طوال فترة ولايتهم النيابية. على هذا الأساس، إذا كانت حرية الرأي هي إحدى الحريات الرئيسة في النظام الديموقراطي، يبقى من الضروري أن يتمكّن هذا الرأي من ممارسة تأثيره في طريقة قيادة الوطن وحكمه. فالخطر الذي يهدّد الديموقراطية أكثر فأكثر، يكمن في أن عدداً كبيراً من المواطنين يشعرون بأن الديموقراطية لم تعد سوى مسرح للدمى، فيه تُخفى عنهم حقيقة السلطة ولا تمنحهم خياراتهم الانتخابية الدورية أدنى شعور بأن لصوتهم أي أهمية في إدارة البلاد. ويكمن السبيل إلى مواجهة هذا التطوّر السلبي عبر الأشكال المختلفة من الديموقراطية المحلية، ديموقراطية يستطيع المواطن فيها أن ينشط أكثر حتى يحصل على التغييرات التي يريدها على الصعيد المحلي. أما على المستوى الوطني فتزداد خيبة أمل المواطنين بالنسبة الى المحاسن المفترضة في النظام الديموقراطي. في الواقع، تخضع الديموقراطية لقيود قاسية من نوع جديد، مصدرها عوامل عدة مرتبطة بالتقدم التقني والمادي، والأشكال الجديدة للسلطة وتوزيعها على الساحة العالمية. فقد أوشكت السلطة الاقتصادية والإعلامية اليوم على السيطرة في شكل تام على السلطة السياسية، وبالتالي على انتزاع سيادة الأوطان وقدرة المواطن على الحصول على التغييرات داخل المجتمعات التي يعيش فيها. 1- القيود الإقليمية والدولية على لبنان: الدولة الحاجز ذات السيادة المحدودة إذا صحّ هذا بالنسبة إلى الديموقراطيات القديمة فهو يصحّ أكثر في الدول الناشئة التي لم تحصل على استقلالها إلا منذ بضعة عقود وشهد الكثير منها كل أنواع الديكتاتورية والحرمان من الحريات. أما بالنسبة إلى المشرق العربي والعالم العربي الذي يعيش لبنان فيه، فما يزيد المسألة تعقيداً هو حالات التوتر الجيوسياسي التي تعيشها المنطقة منذ قرنين. فوجود الثروات النفطية، وإقامة دولة إسرائيل كدولة يهودية توسّعية لا تنفك تستعمر الأراضي المحتلة، وقيام الحركات الإسلامية المتشددة وذات النزعة الجهادية، كلها عوامل أثّرت سلباً في استقرار لبنان وحرياته الأساسية. وقد جاء اجتياح الولاياتالمتحدة الأميركية للعراق ليزيد الطين بلّة، خصوصاً أن الولاياتالمتحدة ما زالت تدعم سياسة إسرائيل في توسيع استعمارها الاستيطاني. هل يعتبر لبنان ديموقراطية توافقية؟ في منطقتنا، يشكّل لبنان الذي يشهد منذ العام 1861 أشكالاً متنوعة من التمثيل على الأساس الطائفي، حالة أكثر تعقيداً. فالديموقراطية التوافقية القائمة على تمثيل الطوائف الدينية غير المحددة بأرض كونها المنتشرة على الأراضي اللبنانية كافة، أمر يصعب جداً تحقيقه في إطار إقليمي يشهد تزايداً مستمراً للعواطف الدينية والمذهبية والجيوسياسية. ففي الحالات النادرة للديموقراطية التوافقية في أوروبا، كما في بلجيكا وسويسرا، تجتمع الطوائف الإثنية في شكل واضح في مناطق جغرافية محددة. ولا ننسى أن المناخ الجيوسياسي في جوار هذين البلدين هو مناخ متجانس وهادئ، يسوده السلام التام والشامل منذ العام 1945. ولهذا السبب، لا يذوب الفرد تماماً، على الصعيد السياسي، في طائفته التي تملي عليه نمط تصرف اتباعياً جماعياً. ومن دون الدخول في تفاصيل الظروف التاريخية في النظام الإقليمي والدولي التي أدّت إلى نشوء الكيان اللبناني، ينبغي التذكير بطبيعة الدولة الحاجز Buffer State التي تمّ حبس لبنان فيها بسبب التنافس الفرنسي الإنكليزي على المشرق العربي في القرن التاسع عشر. فقد تحوّلت الطوائف الدينية في البلد في تلك الفترة إلى هيئات مركزية ذات أهمية بالغة من الحياة السياسية فيه، وذلك على أنقاض الإقطاعية الحاكمة عبر الطوائف المنهارة راجع في هذا الشأن مقالنا في"الحياة"في 14/6/2000 في عنوان"الخروج من وضع الدولة الحاجز". وبالتالي، أصبحت الطوائف محور الحياة السياسية في البلد، فتحوّلت كل منها إلى زبون سياسي لدولة استعمارية أوروبية أو للسلطنة العثمانية، كي تخدم أهدافها الجيوسياسية. وقد وفّق المؤرخون اللبنانيون كل التوفيق في وصف هذه العملية، في حين لم يهتم رجال القانون وصائغو الدستور كثيراً بطابع الأمور الغريب هذا الذي حوّل الديموقراطية اللبنانية إلى ديموقراطية سطحية لا ترضي المواطنين تماماً. ففي لبنان، تمارَس الأنظمة التمثيلية للأمة في شكل يمنع تأسيس السيادة التامة وغير المشروطة. في الواقع، لا يقوم النظام العام في لبنان على أساس الدولة بل على أساس الطائفة الدينية. فالقرار 60 للمفوّض السامي الفرنسي في العام 1936، الذي أسس الوجود القانوني للطوائف الپ14"التاريخية"، كرّس هذه الطوائف على أنها أساسُ النظام العام وجعلها هيئات من القانون العام الوسيطة قسراً بين المواطن والدولة استكمل هذا القرار بقرار يحمل الرقم 146 في العام 1938 أضاف طائفتين. ولهذا السبب، صارت ممارسة السيادة الكاملة من الدولة، مشروطة بموافقة السلطات المدنية والدينية في الطوائف التاريخية المختلفة أو على الأقل في أكبر تلك الطوائف. وصار عدم رضى إحدى تلك الطوائف الكبيرة كافياً لشلّ حسن سير الدولة، ما يفسح المجال لعقد الصفقات في ممارسة السلطة، صفقات لا تتناسب ومفهوم الدولة الكاملة السيادة. بالتالي، لا يمكن اعتبار نص الدستور النصَ الفعلي الذي يحدّد طبيعة الدولة في لبنان. فقرار العام 1936 هو الذي ينشئ النظام العام على الأساس الطائفي. إلا أن كل الاختصاصيين في القانون الدستوري يعرفون تمام المعرفة أن الدولة ذات السيادة هي الدولة التي لا تسمح بوجود أي هيئة وسيطة بين الدولة والمواطن. وهذا صحيح حتى في الدولة الفيديرالية. فالفارق الوحيد هو أنه في حالة الدولة الفيديرالية، يخضع المواطن مباشرة ومن دون وسيط لولاء مزدوج: ولاء للولاية العضو في الاتحاد الفيديرالي والذي يسكن فيها من جهة، وآخر للاتحاد الفدرالي الذي تنتمي إليه هذه الولاية العضو. إن وضع لبنان الخاص كدولة ذات سيادة مشروطة بموافقة الطوائف الدينية، هو الذي جعل رجال الاستقلال يتصوّرون صيغة الميثاق الوطني للعام 1943 الذي صار يعتبر"العقد الاجتماعي"، ليس بين المواطنين مهما كانت مذاهبهم، بل بين الطوائف الرئيسة. وما يزيد الأمور صعوبة هنا هو الالتباس السائد في استعمال كلمة"طائفة". فهل تشير هذه الكلمة إلى المجموعتين الدينيتين الكبيرتين في لبنان، أي المسيحية والإسلامية؟ أم أنها تعني، داخل كل من هاتين المجموعتين، الطوائف المختلفة السنة والشيعة والدروز لدى المسلمين، والعلويون الذين أضيفوا أخيراً إلى لائحة الطوائف المعترف بها، والموارنة والروم الأرثودكس والروم الكاثوليك والطوائف الأقلية لدى المسيحيين، من دون أن ننسى الطائفتين اليهوديتين المذكورتين في قرار المندوب السامي المشار اليه سابقاً؟ في الحالة الأولى، يكون الميثاق الوطني اتفاقاً بين المسيحيين والمسلمين، مهما كان تعدد المذاهب داخل كل مجموعة من الطوائف. أما في الحالة الثانية فليس الميثاق سوى اتفاق بين الموارنة والسنّة، بما أن كاتبيَ الميثاق هما ماروني بشارة الخوري وسنّي رياض الصلح. والفارق بين التفسيرين كبير، ولا يخلو من النتائج على التوافق الطائفي الذي تحتاج إليه الدولة لتكون موجودة فعلاً. ولكن تُطرح هنا مشكلة الصفة التمثيلية لهاتين الشخصيتين اللتين قررتا مستقبل طائفتيهما. لا شك في أن بشارة الخوري كان نائباً في البرلمان وهو صاحب كتلة نيابية واسعة، وكذلك رياض الصلح الذي كان زعيماً يحظى باحترام كبير في البلاد، ولكن هل كانت هذه الصفة التمثيلية كافية لمنحهما شرعية التحدث باسم"المسيحيين"و"المسلمين"، أم"الموارنة"و"السنّة"؟ هنا، في هذه النقطة الأساسية، يكمن أحد عيوب الميثاق الوطني. فلو أن الميثاق صيغ كتابياً في شكل واضح وأُخضع لاستفتاء شعبي، لكانت شرعيته اختلفت تماماً، ولكان مضمونه شكّل ديباجة جوهرية للدستور. لو أن الأمور تمّت على هذا الشكل لكنا تفادينا أي انزلاق لاحق، لا سيما في مجال السياسة الخارجية. فلم تحترم السياسة الخارجية هذا الميثاق أولاً في العام 1956 عندما سعى رئيس الجمهورية آنذاك إلى إدخال لبنان في فلك السياسة الأميركية، ثم في العام 1969 عندما أمال رئيس الوزراء الكفة لمصلحة الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان. وفي رأيي أنّ هذا هو السبب الذي دفع الرئيس بشير الجميّل إلى خرق الميثاق الوطني وتخطيه في آن معاً، سعياً الى إقامة دولة كاملة السيادة، مع أن اللجوء إلى دولة إسرائيل كان محفوفاً بالمخاطر، مع الإشارة الى أن لبنان، لا سيما المسيحيون فيه، قد دفع غالياً جداً ثمن هذه الخطوة. تجدر الإشارة هنا إلى أن اتفاق الطائف الذي يعتبر الميثاق الوطني الجديد، كان له حسنة كبرى وهي أنه أشرك علناً في وضعه نواب الطوائف كافة. فقد نُظر إلى الميثاق الوطني لعام 1943 على أنه اتفاق بين السنّة والموارنة. أما اتفاق الطائف فمن الواضح أن النواب من الطائفة الشيعية كانوا فريقاً أساسياً فيه، في حين لم يحصل الدروز والأرثوذكس منه على زيادة حصتهم في إدارة المؤسسات السياسية. لكن هذه الفكرة القائمة على تقاسم النفوذ في إدارة المؤسسات التي اعتُمدت منذ إنشاء الجمهورية الثانية، قد أفسحت المجال لعقد الصفقات المستمرة ولنظام المحاصصة الذي يستأثر به الزعماء المدنيون للطوائف، وهو أمر غير مقبول ومنافٍ للديموقراطية. على غرار ميثاق 1943، لم يخضع اتفاق الطائف لأي استفتاء شعبي، غير أن أحكامه الأساسية أُدخلت على الأقل في نص الدستور، وهذا ما لم يحصل مع الميثاق الوطني. أما الصفة التمثيلية للنواب الذين اجتمعوا خارج الأراضي اللبنانية فكانت ضعيفة"وحدها إرادة الولاياتالمتحدة وسورية والمملكة العربية السعودية، سمحت بجعل الاتفاق واقعاً. والجدير ذكره هنا هو أن مجلس الأمن في الأممالمتحدة وافق على هذا الاتفاق بموجب إعلانه في العام 1989، ما يؤكد تماماً وضع لبنان كدولة حاجز تُرك مصيرها بين أيدي القوى الأجنبية منذ العام 1840. والقرار 1559 لمجلس الأمن في أيلول سبتمبر من العام 2004، وما تبعه من تدخّل أميركي - فرنسي في شؤون لبنان، يعيد هذا الوضع ويكرّسه، إن كان الشك ما زال موجوداً. في الحقيقة، في ما عدا عهدي الرئيس بشارة الخوري 1943-1952 والجنرال فؤاد شهاب 1958-1964 اللذين أمّنا للبنان حيزاً كبيراً من الاستقلال والسيادة، خضع بلدنا منذ العام 1840 للإدارة المشتركة لقوى إقليمية ودولية، كان توزيعُ السلطة بين الطوائف المحرّكَ الأساس لرغبات هذه القوى ومصالحها. 2- القيود الداخلية للديموقراطية التمثيلية في لبنان يتّصف النظام السياسي اللبناني تاريخياً بقيود مختلفة تحول دون كونه بلداً ديموقراطياً سيّداً، يؤمن بتمثيل شعبه تمثيلاً كاملاً. فبسبب نظام الكوتا في المراكز الإدارية العليا أو النسبة الطائفية في توزيع المقاعد النيابية، صارت الطوائف هي الممثَّلة، أكثر من الأفراد. وبحكم منطق النظام، أصبح المرشح يسعى عبر المزايدات الطائفية - السياسية الى تأكيد صفته التمثيلية الرائعة. فهو لا يهتم بتمثيل الأمة كلها بل يسعى بالأحرى إلى الالتزام بالقواعد الصارمة التي تفرضها هوية طائفته، كما هي محددة سياسياً بالدور الإقليمي والدولي الذي يفترض بطائفته أن تؤدّيه في إطار وجود لبنان كدولة حاجز. أما النتيجة فهي: طائفة مرتبطة بالقوى الغربية بالنسبة إلى التفرعات المذهبية المسيحية المختلفة، وبالعرب أو المسلمين مثل مصر وسورية والسعودية وإيران بالنسبة إلى التفرعات المذهبية المسلمة المختلفة. إن النظام الانتخابي القائم على الاقتراع بالغالبية البسيطة في دورة واحدة، الذي اعتُمد منذ الانتداب الفرنسي، يقلّل أكثر فأكثر من الصفة التمثيلية الوطنية للمرشح المنتخَب. فمن الممكن أن يصير هذا المرشّح نائباً في دائرته بفضل 20 في المئة أو 30 في المئة فقط من الأصوات، وبالتالي بنسبة 10 في المئة أو 15 في المئة فقط من عدد الناخبين المشاركين. وغياب الدورة الثانية للحصول على 50 في المئة من أصوات المقترعين على الأقل للفوز بالمقعد النيابي يصبّ تماماً في مصلحة الزعماء التقليديين الذين يراهنون على تغليب صفة التمثيل الطائفي أو على الجاه العائلي المحلي الصرف. وفي هذا الإطار، ليس من المفاجئ ألا يقدّم المرشحون أي برنامج انتخابي، فنفوذهم العائلي المحلي والطائفي هو المهم، لا نظرتهم السياسية الوطنية. فعلى الأقل، سيجبر اعتماد الدورة الثانية المرشحين على بذل جهد جدي في التفكير لتقديم برنامج مناسب يسمح للناخبين بتمييز هذا المرشح عن ذاك، بغض النظر عن الجاه العائلي أو الطائفي. تجدر الإشارة هنا إلى أن عدم السماح للناخب بأن ينتخب في محل إقامته بل في مسقط رأسه، يزيد كثيراً ميل الانتخاب إلى إعطاء الأفضلية للزعماء المحليين أو للمرشحين ذوي الصبغة الطائفية القوية. وهذا عيب ثانٍ مهم من عيوب النظام الانتخابي في لبنان. إلى هذا، يمكننا إضافة عيب ثالث، وهو عدم وجود أي تمثيل للبنانيي المهجر الذين ما زالوا على علاقة ناشطة ووطيدة بوطنهم الأم. وبما أن عدد لبنانيي المهجر يساوي ضعفي عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان، فهذا العيب خطر جداً. فتمثيل المهاجرين لا يمكن أن ينتج إلا تحسين صفة المجلس النيابي التمثيلية أولاً وتوطيد الروابط بين المهاجرين داخل بلدان المهجر وبينهم وبين وطنهم الأم ثانياً. أضف إلى ذلك أن السماح بتكوين اللائحة الانتخابية على أساس ظرفي ومن دون الاستناد إلى نظام الأحزاب المتخطية للطوائف والمتجذّرة في الشعب، يدخل عنصراً جديداً يشوّه اللعبة الانتخابية. فقد يتمكن أشخاص لا يتمتعون بأي صفة تمثيلية فعلية من الوصول إلى المجلس النيابي لمجرد أنهم من حاشية رؤساء اللوائح. وهذه الممارسة قديمة جداً في لبنان، فقد كانت قبل الحرب مصدر تمويل للحملات الانتخابية من أشخاص أثرياء يدرَجون على اللائحة. أما الآن وقد انتهت الحرب وصار رؤساء اللوائح أنفسهم أثرياء جداً في الغالب، فباتت هذه الممارسة وسيلة للفوز بنواب ليس عندهم أي شخصية أو قاعدة شعبية خاصة بهم، ينتخبون تلقائياً مع رئيس اللائحة. أخيراً، كلنا يعرف خير معرفة أن عدم تساوي عدد النواب في الدوائر الانتخابية يشكّل تشويهاً كبيراً لروحية الديموقراطية. فأهمية صوت الناخب تختلف باختلاف الدائرة الانتخابية التي يصوّت فيها، في هذه الدائرة، يستطيع انتخاب 3 نواب، في حين ينتخب 10 أو 15 نائباً في تلك. أما النائب، فيحتاج إلى 40 ألف صوت ليفوز في دوائر معينة، في حين يحتاج إلى 15 ألف صوت فقط ليفوز في دوائر أخرى. ولطالما لعب المال دوراً مهماً في الحملات الانتخابية، لكنه بات مع الجمهورية الثانية، عاملاً أساسياً للفوز في الانتخابات وذلك لعوامل عدة من بينها: أولاً، إن بعض المغتربين اللبنانيين إلى إفريقيا أو الخليج العربي قد جنوا ثروات طائلة لا تتناسب مطلقاً مع الحجم المتواضع للاقتصاد اللبناني. فلا بد من أن تتشوّه أية معركة انتخابية إذا كان المرشح يملك مئات ملايين الدولارات، إن لم تكن البلايين منها. ففي شكل عام، تفتح مثل هذه الثروات أبوابَ وسائل الإعلام واسعة أمام المرشح وتتسلل إلى أقلام رؤساء التحرير. وغالباً ما تسمح لصاحبها بأن يملك قنوات تلفزيون وراديو وجرائد. طبعاً، لا نقول إن هذه الظاهرة تقتصر على لبنان، ويكفي أن نعطي مثال السيد برلوسكوني في إيطاليا. غير أن حجم الاقتصاد اللبناني الصغير جداً يمنح بعض الأشخاص في لبنان نفوذاً مفرطاً يتحوّل إلى كل أنواع عبادة الشخص، وهذه الظاهرة هي الأكثر إهانة لروحية الديموقراطية والأقل تجانساً معها. في شكل عام، يمكننا أن نعتبر أن روحية الديموقراطية في العالم - أو بالأحرى شكلها المحترم دوماً ظاهرياً - تخضع لتهديد جدي تمارسه سلطة المال ووسائل الإعلام المملوكة من كبار رجال المال. ففي الولاياتالمتحدة مثلاً، منارة الديموقراطية، يشكّل هذان العنصران عصبَي الانتخابات الرئاسية. فمن دون تمويل للحملات الانتخابية المكلفة ومن دون وصول كامل إلى وسائل الإعلام، لن يحظى أهم العباقرة السياسيين بأدنى فرصة للفوز. أما في فرنسا فقد رأينا الفضائح المتكررة التي أدّى إليها تمويل الأحزاب السياسية من جانب كبرى المؤسسات الخاصة أو مؤسسات الدولة. فالمجموعات الاقتصادية والمالية الخاصة الكبرى التي تضع يدها على وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، تشكّل خطراً كبيراً على الديموقراطية. ونحن أمام واقع خطر: أن يكون النفوذ الاقتصادي والإعلامي على المستوى الدولي مركّزاً بين أيدي بعض الثروات الكبرى والمجموعات الصناعية والمالية. وهذا ما يفرغ الديموقراطية أكثر فأكثر من محتواها كممارسة للمراقبة والنقد على السلطة القائمة فتصبح مجرد مسرح استعراضي شكلي يكوّن ملهاة للمواطنين الذين ما عادوا يكترثون. فهذا هو الشكل الجديد الذي ترتديه سياسة تسلية الشعب التي كان الأباطرة الرومان يمارسونها. لهذا السبب، تخسر الديموقراطية اليوم وظيفتها الحيوية المتمثلة في مشاركة المواطن في حياة بلده. ولن يتغيّر هذا الوضع إلا إذا صدرت قوانين انتخابية صارمة وفاعلة جداً، تمنع أي استعمال للمال في الحملات الانتخابية، فتأخذ الدولة على عاتقها هذا التمويل كما تؤمّن إمكانية وصول المرشحين المتساوية والمجانية إلى وسائل الإعلام المختلفة. لقد صارت الديموقراطية اليوم مسرحاً استعراضياً يشاهده المواطن المستكين الذي يخضع للطَرْق الإعلامي، وأداء المرشحين الإعلامي، فضلاً عن التأثير المهم لاستطلاعات الرأي السابقة للانتخابات، بالتأثير في قراره. * باحث لبناني، وزير سابق.