يملك المعرض الراهن للفنان النمسوي غوستاف كليمت جذباً جماهيرياً استثنائياً. يقصده محبوه من شتى العواصم الاوروبية، ينخرطون في صفوف انتظار طويلة امام شباك تذاكر"متحف مايول"، وسيستمر العرض لشهور عدة. تبدو أهمية المعرض من خلال اقتصاره على منتخبات من رسوم الحبر العاطفية على الورق، من اصل ما خلّفه من ميراث مدهش يتجاوز ثلاثة آلاف من هذه الرسوم توفى عام 1918 ومولود في فيينا 1872. هو اذاً معرض نخبوي انتقائي وبانورامي يعكس أشد ابداعاته تطهراً من هوس الزخرفي الذي سيطر على بداية القرن العشرين وذلك بتأثير طراز 1900. او ما يعرف"بالآرنوفو". يشاركه في هذه الصبوة عبقري معاصر آخر في برشلونة هو المهندس المعماري غاوودي. تختلط الحدود لدى الاثنين بين الفنون التشكيلية والفنون التطبيقية هوما يفسر دراسة كليمت في مدرسة الفنون التطبيقية في فيينا. لكن المعرض اصبح جزءاً من تظاهرة شاركت في عروضها اكثر من صالة مهمة، تعرض لوحاته الشهيرة والتي ثمنها ارقاماً خيالية في المزادات العلنية. ثم ان اعماله منتشرة جداً حتى بدت لوحة"القبلة"لا تقل انتشاراً عن الجوكندة الموناليزا. اذا انتشرت شهرة كليمت من لوحاته المطلوبة بكثرة لتزيين القصور البورجوازية، فان هذه اللوحات كانت تختلط بديكور"الاكسسوارات"والموبيليا والاثاث والعمارة الداخلية. لم تكن تخلو رمزيتها من تنميط لدرجة الاستهلاك والمحسنات البديعية على غرار فرط استخدامه للون الذهبي. لذلك بدت رسومه أشد نقاء والتصاقاً بموهبته الاستثنائية. تلك الموهبة التي اخرجت اللوحة النمسوية من عزلتها، خصوصاً وأنها ترتبط بمبدعات معمارية وموسيقية محلية من شتراوس الى شوبير تصوره احدى لوحاته يعزف على البيانو عام 1899، كذلك فان مواصفات الفانية الفتانة التي تمثل بطلة لوحاته الماجنة والتي تحتدم بالشبق الجنسي ما هي الا نسخة امينة عن نموذج مواطنه عالم النفس سيغموند فرويد. وهنا نقع على رمزية العلاقة بين الخصوبة والموت التي طبعت موضوعاته عموماً. هو ما يفسر منهج تكويناته الحلزونية الكونية او الفلسفية التي تتماهى في متاهتها دورة الحياة مع الموت. في هذه التكوينات العميقة يباركه النحات الفرنسي الانطباعي رودان، خصوصاً ان حركات الاجساد متقاربة من الناحية الملحمية او الرومانسية. دعونا نتأمل تحفة رودان"بوابة الجحيم"وما استقى منها كليمت في تصاوير افريز بيتهوفن عام 1902، هي التي كُلف بها من قبل"دار الاوبيرا"في فيينا، اختفاء بالسمفونية التاسعة. لذا تبدو الصور الجدارية معبرة عن الحركات الثلاث ثم الرابعة، المضافة وهم:"اشواق السعادة"ثم"مصائب وشرور المرض والجنون والموت"ثم"أنشودة الفرح"، وذلك قبل ان تقام الحفلة بقيادة غوستاف مالر الذي كان مسؤولاً عن ادارتها. وهنا ندرك كيف استغرق كليمت في موهبته الفذة في تزيين جدران وأثاث القصور البورجوازية. حتى اصبح مختصاً بتصاميم ديكورات وسينوغرافية الموسيقى والمسرح. لعل ابرز الجداريات هي التي لبّى فيها طلب صاحب الفيلاستوكلي في بروكسيل 1905 فبدت سطوحاً عجائبية من الفسيفساء. قد يكون احد اسباب تفوّق شهرته هو تكريس موهبته الفذّة في اغواء العين غير النخبوية. هي ضريبة التعثّر في ارهاقات العناصر الزخرفية -الرمزية المتأدبة. هو ما يجعل شاب اصغر منه اوجين ايشيل يتفوق بصدقيته التحريضية على الماحاته الحسية. واذا كان حساد كليمت اشاعوا حوله هذه النميمة فقد دفع الثاني ثمن جرأته"الفرويدية"عقوبة السجن والملاحقة، باعتبار لوحاته تمس الآداب العامة. وهكذا تفوق الثاني في تأثيره التعبيري اللاحق على كليمت. يملك الفنانون الكثير من المآخذ على تجربة كليمت على رغم نجوميته وشهرته، خصوصاً عندما نقارنه بتجارب رؤيوية تعبيرية معاصرة له مثل كائنات اوسكار كوكوشكا وبسلوك فرشاته ومنهج تدميره للالوان بنقائضها. سنقع في الانحياز نفسه الى اجساد رودان الذي مر ذكره عند مقارنته به. بل ان فن كليمت يعتمد على خلط الاستعارات من دون القدرة على استحواذها، نعثر في لوحة بورتريه فيرينزا المنجزة عام 1909 على مجانية مقاربتها مع قصّة شعر لوحة فيلاسكيس الاميرة الاسبانية عام 1622. يقفز في استعاراته من الاستامب الياباني الى مونيه، ومن تولوز لوتريك الى فان غوغ وادوار مونخ. وقائمة هذا الخليط المتنافر طويلة. ومما يزيد الطين بلة ان بعض نجوم الفن العربي يميلون الى تنميطاته وتطريباته الزخرفية كما في ميدان المناظر وباقات الزهور، متناسين ان هناك قرناً من الزمان بيننا وبين مودة طراز"ارابسك الآرنوفو". ولعل الذوق المتردي لمحدثي النعم يسوق لهذا الاتجاه. وبما يناقض الرهان الثقافي لعصر كليمت.