يمكن تصنيف رواية احمد خلف"حامل الهوى"دار المدى، 2005، ضمن الروايات السايكولوجية، فهي تفرد معظم صفحاتها لاستكناه الهواجس والرغبات والأفكار، المضمرة عميقاً، في دواخل شخصيات عانت الكثير من التهميش والقمع الاجتماعي والسياسي. تصطادهم في المنتصف من حياتهم، من دون ان تعير اهتماماً كبيراً لخلفيات بيئية او اجتماعية افرزت نمطاً كهذا من البشر. فطاهر مهرب، والبطل يعاني من الشيزوفرينيا، والطبيب نادر صالح مهووس بحب زوجته، ونيران خائنة، وزينب تقتل زوجها طاهر، وأحمد قداحة سمسار... وفي زمن الأوبئة يصعب العثور على اصحاء، خصوصاً في مدينة ملتبسة منذ عقود اسمها بغداد. من هنا ظل المسكوت عنه في رواية احمد خلف ذا هامش كبير، يمكن الوصول اليه من خارج النص، لا من بواطنه. واستبعاد الوسط، او البيئة الاجتماعية بكل ما تضم من سياسة وثقافة واقتصاد وحوامل حضارية، تم عبر رقيب روائي بالغ الذكاء، وعبر حنكة لغوية جاءت واضحة في بنية السرد، وحركة الأحداث، وانتقالات الذهن من طريق الفلاشباك، وتيار الوعي، والقفز على الزمان والمكان باستيهامات سينمائية، لم تعر كبير اهتمام لفن كتابة الرواية. بدت اللغة صافية ومنتقاة، وذات بعد تحليلي سايكولوجي، استخدم فيها خلف اسلوب توليد الجمل بعضها من بعض، للاستفاضة بالوصف الخارجي، او رصد ما تفكر به الشخصيات. ومع اختلاف اسلوب السرد في الفصول الأخيرة، حيث تتسلم مسؤولية القص اخت البطل زينب، الا ان تلك اللغة لم تتغير، لا في مستوياتها الدلالية ولا في طريقة طرحها للأفكار او زاوية الرؤية في وصف العالم الخارجي. لغة مثقفة، ترفوها البلاغة، ويستر ثغرات صنعها الفصل الحاد بين اللغة والواقع. وكأن البطل وأخته يحملان الذهنية الروائية نفسها، وطريقة الابصار عينها الى العالم. بل جرى الأمر ان ذكّر الكاتب، بعض الشيء، طريقة تفكير زينب في عرضها للأحداث، اي علاقتها بزوجها طاهر الذي قتلته في نهاية الرواية لأنه راح يسمسر على جسدها، من دون ان يتمكن الكاتب من وضع حدود فاصلة بين معالم الأنثى، وهي تنظر الى الآخرين، ومعالم الذكر. فالحساسية تختلف بلا شك، ويصعب اسقاط واحدة على أخرى، وتلك معضلة روائية ليس من السهولة تجاوزها، اذا اراد الكاتب نحت دور فاعل وملموس للمرأة، يتلخص بفلسفة أوسع من عملية الكتابة، ولها علاقة باختلاف لا ينكر في ردود فعل الأنثى وسلوكها تجاه وقائع معينة، كالحب والجنس والعلاقات الانسانية. ومدارات الرواية تتموضع اساسا في بغداد، على صعيد المكان، لكنّ الراوي اي البطل ذاته، تجاهل المكان الغني والحيوي لمدينة متجذرة في التاريخ وتفرض ثقلها على قاطنيها، فلم تأت في الفصول الا من طريق تسميات عابرة، مثل ساحة التحرير وسط بغداد، ونهر دجلة، وجدارية جواد سليم، مستثنياً الحارات والمناطق البغدادية، وشواخص التراث والمعالم التي نفذت عميقاً في صلب لغة البغداديين وأمثالهم وحواراتهم، وصاغت بقدر معين طرائق التفكير والسلوك لديهم. انغمر البطل الذي جرده الكاتب من الاسم، في رصد التفاصيل الغائمة التي أغنت الرواية، وعكست دواخل الشخصيات الا انها"شبّحت"المكان الروائي، فلم تتشكل صورة للنص ذات هوية. ولو قيض حذف الأسماء المكانية القليلة لقلنا ان الرواية يمكنها ان تجرى في اي مكان، في بيروت او القاهرة او البحرين او اية بيئة شرقية مشابهة. فالأحداث لم تتسم بروح المكان، ولم تحمل رائحته او هواءه. استبعاد المكان اسمياً، مع حضوره تفصيليا، خلّص الروائي من اشكالية تقديم شهادة واعية على مدينة عانت ما عانت، طوال عشرات السنين من حروب وأزمات ومؤامرات وتخريب بيئي، بعدما انصرفت دولة يعيش فيها البطل وتوابعه الى حروب خارجية وداخلية، هشمّت المكان، ولم ينج اي فرد يعيش فيه من التهشيم. اننا امام رواية أفراد لا رواية جو شامل، مقتطع في لحظة نادرة. قصصها لا تؤطر في زمان، فهي كما يستشف القارئ جرت بعد حروب العراق مع ايران والكويت، وقبل سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق. وهذا التأطير الزمني، وان لم يركز عليه الكاتب، الا انه يظهر في شذرات ينقّطها الكاتب في هذا الفصل او ذاك، مثل اصابة بطل الرواية بشظية في رأسه نتيجة قصف طائرة ما، او التلميح الى وجود قضية اسر، وما شابه من التماعات. ولا نستنتج شيئاً في شكل مؤكد، وهذا ربما ما سعى اليه احمد خلف، فهو استبعد المكان والزمان لكي يمتلك حرية في التوغل سايكولوجيا في كهوف ناسه المختارين، والذين ولدوا على الورق محبطين، قساة، مشوهين، مثالهم نموذج البطل ذاته، الذي يعيش انفصالاً وتشظياً روحياً، جعله يمزج الأزمان والوقائع، ويكون الحاضر والغائب في الوقت نفسه. يحس انه ميت أمام الجميع، لكنه يتحرك ويحاور ويشارك في ديمومة مجتمع لفظه كونه حملاً لا يصلح سوى للذبح. في الجوهر يصبح كل من حضر في الرواية بطلاً، فالأزمة سمة الجميع، ولا يحد من أن يكونوا نماذج روائية سوى المساحة المتروكة لهم. شخصيات معدودة في الرواية، ويبني الكاتب تحليلاته النفسية لها عبر احداث ليست واسعة، وأحياناً يحجب بعضها، لكنه يرويها عبر تحليل او استرجاع في مكان آخر. قلة الشخصيات، مع اتساع التحليل النفسي والاجتماعي، جعل الرواية تنوء بكثافة اللغة، اذ وقفت في مواضع معينة عائقاً أمام جريان الأحداث أو الحوارات. فشخصية الراوي، وهو البطل ذاته، كانت هي المحور، وعلقت بوشائج حياتية مع صديقه الطبيب نادر صالح وزوجته نيران، مما أوصل الأزمة الروحية الى ذروتها. وعلى رغم حديث نادر صالح عن حبه لزوجته، وكيف اختطفها من أهلها، ودعة البيت وأناقته، يتبين للقارئ ان تلك الزوجة تنتظر الفرصة لخيانة زوجها العاشق، ومع صديقه الوحيد بطل الرواية. الطبيب النفسي الذي افترض انه سيجد حلاً للأزمة هو مريض ايضاً، وسكير، يتحرك في المباءة ذاتها، فأين يكمن العلاج اذاً؟ تلك واحدة من الخطوط المأسوية في بيئة"حامل الهوى"، المثقلة بالأحلام والكوابيس والاستيهامات، حين تضيع الفواصل ما بين المتخيل والواقع، بين ما يجري حقيقة والرغبات الدفينة. استخدم الكاتب تقنية ضمير الأنا في كل فصول الرواية، ووزع سرد الأحداث بين البطل وأخته التي تسلمت خيط الرواية في الفصول الأخيرة. لم يظهر الراوي تحت اي اسم وظل مجهولاً، لكنه من خلال عيون الآخرين اطلق عليه اسم غاندي، تعبيراً عن روحه المسالمة وغير العنيفة، وهذا ما صنع ربما مفارقات الأحداث، ودراميتها. ففي مجتمع تسوده الأنانية وغياب الأخلاق والتآمر والتواطؤات، لا يمكن ان ننتظر أفراداً افضل من هؤلاء. عائلة تتكون من أب وأم وشقيقين وأخت. الأخت زينب طالبة في السادس الاعدادي، والأخ اسماعيل المتزوج، والبطل الذي اكتشف انه لقيط فحرمته العائلة من الميراث. والأب قبل موته سجل للبطل قطعة أرض في مدينة الديوانية، المدينة الجنوبية التي تنتسب اليها العائلة، ولكنه يكتشف بعد رحلة الى مسقط رأس الأب الديوانية ان اخاه زوّر أوراقاً بموته واستولى على قطعة الأرض تلك، ثم تواطأ مع امه ليخرجاه من البيت، اذ وجد نفسه لاحقاً في الشارع. هذه العائلة المهترئة اخلاقياً، وقيمياً، كيف وصلت الى ما هي عليه؟ كيف انحدرت زوجة نادر صالح المسماة نيران الى هذا الدرك من الخداع والتضليل؟ ومن يقف وراء تشوه النفوس في بغداد الهائمة على ضفاف دجلة؟ الكاتب لا يجيب على ذلك، وكان ان جلب تلك الشخصيات المأزومة جاهزة الى المسرح، متغاضياً عن الجو الذي صنعها وصنع أمراضها النفسية. الرواية العراقية اليوم يصعب عليها سرد أحداث ورصد شخصيات ووصف أمكنة خارج التاريخ الواقعي الذي مر به العراق. فكل فرد ولو كان نموذجاً فنياً ضمن رواية تبنى من اللغة أساساً، لا بد من ان يكون مر في احدى الوقائع الكبرى التي صنعت العراق الحديث، وأوصلته الى ما هو عليه. وتجاهل تلك الوقائع يفرغ أي عمل روائي من مضمون اجتماعي ومعرفي يثري أي نص، ومن موقف معين لا غنى عنه، والسكوت عن جعل الشخصيات منحازة او تتخذ موقفاً من حياتها، لا سياسياً فقط انما انسانياً، يصنع منها شخصيات احادية التكوين. هذا مع افتراض، او تأكيد استحالة وجود شخصيات كهذه، فقصدية الكاتب باخراجها في هذه الصورة يهمش حقائق الواقع ومجرياته. فالفرد صنيع واقع في الأساس، والرواية لا يمكن ان تحجب التاريخ، او تهوله او تلغيه، مهما توغلت في عالم الرمز او الفانتازيا. ولمعالجة هذا الخلل فنياً في رواية"حامل الهوى"، جلب الكاتب شخوصه جاهزين، وبدأ يسبر أغوارهم وهواجسهم قليلاً قليلاً، على رغم ان ذلك السبر لم يتطرق بوضوح الى الظروف الموضوعية التي جعلتهم هكذا.