هل بدأت إسرائيل عملية "تسميم" بطيء للرئيس الفلسطيني محمود عباس، على غرار ما يُعتقد أنها فعلت مع الرئيس الراحل ياسر عرفات؟ لقاء"القمة"الذي عقد الثلثاء الماضي في مكتب ارييل شارون لم يكن خيبة أمل ل"أبو مازن"وحكومته فحسب، بل لكل من اعتقد ولا يزال يعتقد أن هناك"فرصة للسلام". المذهل أن الهيئة الرباعية الدولية التي اجتمعت في لندن، أول من أمس، لم تشر إلى أنها أخذت علماً بما حصل في اللقاء الفلسطيني الإسرائيلي. وحتى وزيرة الخارجية الأميركية لم تبدِ أي قلق من"السلوك"الشاروني الذي يناقض كل ما تروج له الديبلوماسية الأميركية. لم تقل إن شارون مطالب أيضاً بتغيير سلوكه، مثلما شددت على النظام السوري بأن يغير سلوكه. الأطراف الدولية مهتمة بإنجاح خطوة الانسحاب من غزة، وهي ليست مخطئة في اعتبارها اختراقاً استراتيجياً يمكن البناء عليه. لذلك تحرص هذه الأطراف على عدم انتقاد شارون أو استفزازه، وتسكت على كل الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها على أمل أن يتم الانسحاب بهدوء. وقد يكون في ظن أعضاء"الرباعية"أنه سيكون لها حساب آخر وكلام آخر مع إسرائيل بعد هذا الانسحاب، لكنهم ارتكبوا خطأ لا يزالون مصرين عليه، وهو عدم الخوض في"اليوم التالي"للانسحاب. صحيح أنهم قالوا ويقولون إن اخلاء غزة من الاحتلال سيكون جزءاً من"خريطة الطريق"، لكن الأصح أن"خطة الفصل"كما رسمها الإسرائيليون تنطوي على كثير من الأفخاخ، ومن أهمها ابتلاع المزيد من أراضي الضفة الغربية. ثم إن شارون يتصرف على أساس أن ما يعتزمه في غزة أو في الضفة مجرد اجراءات تخص"الشأن الداخلي"الإسرائيلي وليس تطوراً"ايجابياً"في حل نزاع اقليمي دولي. من الواضح أن شارون تعمد، بعد يومين من لقائه مع كوندوليزا رايس، أن يعقد مع"أبو مازن"اجتماعاً قرر مسبقاً أن يجعله فاشلاً. هنا يصح التساؤل عما سمعه من الوزيرة رايس، خصوصاً أنه أعلن بعد لقائه معها أن السياسة الأميركية ازاء إسرائيل لم تتغير. إذاً، لا إجحاف في استنتاج أن رايس شجعته على التشدد، ولا مبالغة في القول إن رايس عادت الى التفكير كما كانت تفعل قبل سنتين، أي عادت الى وجهة النظر الشارونية القائلة إن شيئاً لن يتغير قبل استئصال الإرهاب وتفكيكه في الجانب الفلسطيني. ومثل هذا التفكير أفضل وصفة لافشال"أبو مازن"، الرئيس المنتخب الذي راهنت عليه الإدارة الأميركية وخذلته يوم كان رئيساً للوزراء، وليس مستبعداً أن تخذله ثانية على رغم كل الجهد الذي بذله لتغيير المناخ السياسي الفلسطيني. ليس معروفاً الى أي حد كانت الصحف العبرية دقيقة في نقل بعض ما دار في لقاء عباس شارون. فالتسريبات جاءت منتقاة من مكتب الأخير. أما في الجانب الفلسطيني فلم يجد أحد أن هناك ضرورة لتسريب الوقائع، ربما لأنها"غير مشرّفة"، أو لأن الشخص المخوّل الموافقة على التسريب لم يجد في ذلك مصلحة فلسطينية. لكن الضرر وقع، في أي حال، ولم يعجز الجمهور الفلسطيني والعربي عن فهم ما حصل واختزاله في أن اهانة قد وجهت للوفد الفلسطيني، وفي مكتب مجرم الحرب الملطخة يداه بدماء الفلسطينيين الذين تنازلوا بالموافقة على التقائه في مكتبه المسروق في القدس. تعمّد شارون أن يكون ديكتاتوراً لأنه لم يجد أمامه سوى"رعايا"ضعفاء ومستضعفين يراهنون على مساعدته هو كي"ينجحوا"في مهمتهم، وإذا به يبلغهم أن نجاحهم يعتمد على ما يستطيعونه من البطش بأهلهم. أما هو فيعتبر أن كل عملية اغتيال يأمر بها هي المساعدة التي يمكن أن يقدمها اليهم. ما لم يقله شارون انهم كانوا مخدوعين، ولعلهم خدعوا أنفسهم، عندما صدقوا وعوده ووعود الأميركيين وبعض العرب. فلا شيء تغير في غياب عرفات كما في وجوده. كل ما في الأمر أن شارون بات أكثر اطمئناناً الى أن خططه تسير بلا أي ازعاج. لم يكن شارون ليكون على هذه الوقاحة لو أنه اعتبر أن"ضيوفه"في مكتبه هم شركاء، ولو لم يكن لديه في الجانب الفلسطيني من يشجعه على هذه الوقاحة سواء بالتقليل من شأن القيادة الحالية أو بالتلويح بإمكان أو بضرورة استبدالها. وإذ لا يملك شارون سبباً أو ذريعة لسجن الرئيس الفلسطيني الحالي أو محاصرته، فإنه لم يتردد في اضعافه أو استضعافه بشكل علني ليجعل منه سجين ضعفه، لعله يقرر من تلقائه التنحي أو المغادرة، وهذا في حد ذاته"تسميم"معلن ل"أبو مازن". لكن تنبغي الاشارة الى أن خلافات الأشخاص والأجهزة وفلتان المسلحين والصراع الخفي بين القريبين من"ابو مازن"على خلافة مبكرة له... شرعت أيضاً في تسميمه. هناك حاجة الى إعادة نظر سريعة وشاملة وإلا فإن شارون سيتحرك لينصّب عملاءه المباشرين ليُشعلوا نزاعاً أهلياً يعفي إسرائيل من أي مطلب دولي.