كرس مجلس الوزراء الإسرائيلي جلسته الأحد الماضي لمناقشة احداث العنف وجرائم القتل التي تصاعدت في شكل واضح في الفترة الأخيرة - الأسبوع الأخير من شهر ايار مايو تحديداً. مصطلحات مثل الآفة، الأمر الفظيع الذي يحصل يومياً، مواجهة هذا الكابوس قبل فوات الأوان، طرح القضية على رأس جدول الأعمال الوطني - استخدمت بغزارة خلال جلسة الحكومة الإسرائيلية حيث تم تشكيل لجنة لمناقشة المشكلة ورفع التوصيات للحكومة لإقرارها المشروع بتنفيذها فيما بعد وخلال هذه الفترة ستنشغل اسرائيل كعادتها في مناقشة قضايا امنية وسياسية عدة - خطة فك الارتباط تحديداً، وسيتم إلقاء التوصيات في سلة المهملات. قبل مناقشة الظاهرة وأسبابها وكيفية تعاطي الساحة السياسية والحزبية والقضائية الإسرائيلية معها من الضرورة إلقاء نظرة على ما جرى في الأيام الأخيرة لإظهار حجم العنف غير المسبوق المستشري الآن في المجتمع الإسرائيلي. صباح الخميس الثاني من حزيران يونيو قتلت شابة اسرائيلية هي الثانية خلال اسبوع، الشابة رينات روعنيس قتلت على مقربة من منزلها اثناء عودتها من عملها في مدينة تل ابيب، وقبل ذلك بأيام قتلت الشابتان معيان سبير 16عاماً ونادية قتاييب وابنة اختها لينا 4 سنوات وأربعة من المشردين الذين كانوا ضحية عمليات قتل مروعة في حيفا على يد سفاح عاطل من العمل يدعى نيكولا بوند 32 عاماً. المعطيات السابقة هي قمة جبل الجليد فقط، وبحسب احصاءات الشرطة الإسرائيلية فإن عدد الملفات الجنائية التي تم فتحها خلال العام 2004 وصل الى 58588 ملفاً بارتفاع نسبته 3.2 في المئة عن العام 2003، بحسب الشرطة الإسرائيلية ايضاً فقد وقعت جريمة قتل كل يومين في العام الماضي حيث قتل 174 شخصاً. اما منذ بداية هذا العام فقد قتل 57 شخصاً أي بارتفاع نسبته 20 في المئة. كذلك، والإحصاءات دائماً للشرطة الإسرائيلية، تقع جريمة اغتصاب كل سبع ساعات حيث وقعت في العام الماضي، 306 جرائم اغتصاب بارتفاع نسبته 16 في المئة عن العام 2003. كذلك تم فتح 41232 ملفاً في العام 2003 لمراهقين تحت 18 سنة. اللافت ايضاً في احصاءات الشرطة الإسرائيلية الإشارة الى ان في اسرائيل 2.6 رجل شرطة لكل الف مواطن في مقابل اربعة رجال وأكثر في دول اوروبا. وتزامناً مع موجة العنف في اسرائيل طغت ايضاً على الساحة قضايا فساد تورط فيها عدد من السياسيين والاقتصاديين والأمنيين، احدى اهم تلك القضايا كانت فضيحة التجسس بين كبريات الشركات الإسرائيلية والتي تورط فيها عدد من كبار مديري الشركات ومسؤولي الأمن وخبراء المعلوماتية الذين تورطوا في سرقة المعلومات والإحصائية من اجهزة الكومبيوتر التابعة للشركات المنافسة. احد المتورطين وهو من المسؤولين السابقين الكبار في جهاز"الشاباك"حاول الانتحار عبر إلقاء نفسه من الطابق الثاني حيث كان رهن التوقيف على خلفية الفضيحة. في الفترة نفسها، اواخر ايار وأوائل حزيران يونيو تم نشر تقرير المراقب العام للدولة في اسرائيل رئيس المحكمة العليا الذي قدم تقريره السنوي للرئيس موشيه كتساف عن واقع الأحوال اليوم في اسرائيل، تقرير القاضي اليعازر غولدبرغ يشيع اجواء اليأس والإحباط بحسب افتتاحية"هآرتس"13/5 حيث يوجد ميل واضح للسوء في مستوى الإدارة وتتزايد الظواهر السلبية وتحتدم. احد ابرز مظاهر الفساد هو التعيينات السياسية التي جرت بحسب تقرير المراقب خلافاً للقانون والنظام وانطلاقاً من اعتبارات غريبة، تلك التعيينات المرفوضة ومظاهر المحسوبية والخوة تسود تحت رعاية الوزراء بالذات وفي محيطهم القريب، بل انها وصلت الى جهاز ادارة المحاكم. ويختتم غولدبرغ تقريره بالقول:"الفساد السلطوي هو الخطر الأكبر على دولة اسرائيل اكثر من أي خطر آخر". الفساد لا يقتصر على المستويات السياسية بل انه امتد الى درة التاج الإسرائيلية وقوس الأقداس الى المؤسسة العسكرية، فرئيس الأركان المنتهية ولايته موشيه يعلون اعترف بانتقال ثقافة الفساد الى صفوف الجيش وقال لصحيفة معاريف 11/5/2005 ما يلي:"ثقافة دنيا مخالفة للقانون، هكذا اسميها، عدم شرعية، هذا هو احد الأشياء التي تقلقني اكثر من غيرها في دولة اسرائيل. يوجد المعلن عنه ويوجد الموجود، يوجد ما فوق المائدة وما تحت المائدة، وفي الأساس تدور الحياة الحقيقية تحت المائدة، عندما يتغلغل ذلك الى الجيش فإن ذلك يعني ان هناك اوامر وتوجيهات وأن واقعاً بإزاء ذلك، ليس تلك شرعية، انها تدخل من الخارج من المجتمع الى الجيش لأن الجيش الإسرائيلي هو جيش الشعب". القراءة الإسرائيلية لمظاهر الفساد لا تختلف في جوهرها على رغم الاختلاف في تغليب احدى زوايا النظر على الأخرى وتجمع على ان حرب الاستنزاف المرهقة التي تخوضها اسرائيل في مواجهة الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي الباهظ الثمن اقتصادياً وأمنياً ونفسياً هي الاسباب والجذور المنطقية التي يجب البحث فيها عن خلفيات العنف والفساد في اسرائيل. عميد كلية الاجتماع في جامعة حيفا البروفسور اريه وطنر اعتبر ان ثمة عوامل عدة وراء جرائم العنف مثل الضائقة الاقتصادية التي تضرب المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، حيث ان البطالة التي تعتبر ظاهرة مرتبطة بتفاقم العنف تتسبب في حصول ازمة لدى العاطل من العمل وأفراد عائلته ومحيطه ما يؤدي الى زيادة الإحباط وتراكم الغضب والضغوط التي لا بد ان تنفجر". الغريب ان التقويم نفسه لعميد كلية الاجتماع في جامعة حيفا يتبناه وزير الدفاع شاؤول موفاز الذي يتحدث عن الفروق الاجتماعية في اسرائيل وتفشي ظاهرة العصر وازدياد الفجوات بين الطبقات كأحد عوامل الانفجار والأخطار الاستراتيجية التي تواجهها اسرائيل. موفاز قال لصحيفة يديعوت احرونوت 11/5/2005"الفروق الاجتماعية في دولة اسرائيل لا تقل خطراً عن الإرهاب الذي نواجهه، هذه الفروق قد تحلل المجتمع الإسرائيلي". ليس الفقر فقط هو الذي سيحلل المجتمع الإسرائيلي بل الفساد ايضاً وفكرة ان الفساد سيؤدي الى تفكك دولة اسرائيل في النهاية لا ترد فقط على لسان المراقب العام للدولة، بل ان القاضية المتقاعدة الشهيرة دالية كوهين تتبنى المقاربة نفسها وتقول:"ان الربط بين المال والسلطة هو اللعنة التي تلاحق الدول التي كانت سبباً في فناء دول كبيرة، والتاريخ مملوء بمثل هذه الأمثلة، وفي اسرائيل في اللحظة التي تم الربط فيها بين المال والسلطة والقوة عندها بدأ اساس الحياة العامة بالتزعزع". غير ان اسباباً اخرى للعنف والفساد، وربما السبب الحقيقي لكل مشكلات اسرائيل، يجب البحث عنها في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث يخوض جيش الاحتلال حرب استنزاف صعبة وقاسية في مواجهة المقاومة الفلسطينية وحيث يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في مواجهة الشعب الفلسطيني الأعزل. بيئة العنف هذه لا بد من ان تنتقل الى اسرائيل، فجنود الاحتلال ينقلون معهم هذه الثقافة عند العودة الى بيوتهم ومستوطناتهم. ويقول البروفسور اريه رطنو"ان جزءاً مما يعيشه ويجربه الجنود في خدمتهم العسكرية ينتقل الى الحياة المدنية، انهم ينقلون انماطاً سلوكية عنيفة من ساحة المعركة الى بيوتهم، اذ اعتادوا على كل المشكلات بالعنف وهذا ما يتم تصديره للمجتمع... هذا ما حصل للمجتمع الأميركي إبان الحرب في فيتنام". شيء مماثل نجده في تقويم الإعلامي رافي غنات الذي كتب في يديعوت احرونوت 31/5/2005 بثمن دبابة واحدة يمكن ان ننشر في شوارعنا افراد الشرطة لمحاربة العنف وبدل دعم موقع استيطاني واحد غير مرخص يمكننا توفير الأموال اللازمة ليشعر المواطن انه يعيش في دولة طبيعية تهتم به، على الحكومة ان تعيد ترتيب اولوياتها ليكون الموضوع الداخلي اول تلك الأولويات وليس ما هو خلف الخط الأخضر". في العام 1969 توقع الفيلسوف الإسرائيلي يشيعاهو ليبوفيتش ان يؤدي احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة الى تدمير دولة اسرائيل وتفككها وانهيارها من الداخل، ولا غرابة ان يتردد اسم ليبوفيتش كثيراً هذه الأيام في الصحف الإسرائيلية، نبوءته السوداء تتحقق كل يوم والاحتلال البشع والبغيض هو السبب المباشر لكل المشكلات والأزمات التي تتعرض لها اسرائيل أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً. * مدير مكتب شرق المتوسط للخدمات الصحافية والإعلامية - بيروت