لا عجب ان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ينزلق في استطلاعات الرأي العام الأميركي، فهو يرفض الإقرار بالأخطاء الصغيرة والكبيرة ويسمح لعناده بأن يسيطر على سياساته بدلاً من توجيه المسؤولين الكبار عن السياسات الفاشلة الى التصحيح والاستدراك. لا عجب ان الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان يتزحلق هبوطاً في الرأي العام العالمي كما في رأي أكثرية الديبلوماسيين، فمتاعبه الشخصية انهكته فكرياً لدرجة شل قدرته على حسم الخلافات بين كبار موظفيه. ومتاعبه السياسية أعمته عن التفكير العميق في أكثر من ملف ومناسبة. الفارق الرئيسي بين الرجلين ان بوش ليس مهدداً بخسارة منصبه، أما انان فيواجه إمكان الاضطرار للتخلي عن منصبه. العراق قسم مشترك في متاعب الرجلين وإن من ناحيتين مختلفتين، وملف لبنان وسورية يشكل لكل منهما فرصة فريدة وخطيرة لكنها تتأرجح بين الانقاذ والغرق. مزاج الإدارة الاميركية هذه الايام مزاج عناد عندما يتعلق الأمر بسياساتها نحو العراق ومعتقل غوانتانامو وما يُعرف بقانون"بتريوت آكت"، فهي ترفض التقدم باستراتيجية واضحة من العراق برغم ازدياد مؤشرات الانزلاق في مستنقع يشبه فيتنام. وهي تتجاهل الدعوات المتزايدة الى اغلاق غوانتانامو برغم العيب الذي تلحقه أساليب الاعتقال بلا محاكمات والاستنطاق بوسائل استفزازية للدين الاسلامي تخدم في حشد الكراهية والعداء لكل ما هو اميركي وهي تغض النظر عمداً عن التقويض المضرّ لجهود ارساء الديموقراطية في المنطقة العربية والاسلامية الذي يسفر عن التمسك بقانون"باتريوت آكت"الذي يسمح للسلطات الأميركية بتجاوز الحقوق المدينة بالذات للعرب والمسلمين. إضافة الى ذلك وعلى رغم ان مرشحها لمنصب السفير الأميركي لدى الأممالمتحدة، جون بولتون، اصبح عملياً بضاعة فاسدة، تمضي ادارة جورج دبليو بوش بعنادها في الاصرار على بقائه المرشح للمنصب، فالانتصار في"التناطح"بين الجمهوريين والديموقراطيين بات أهم للإدارة الجمهورية من تعيين شخصية ملائمة لمنصب السفير الأميركي لدى المنظمة الدولية في مرحلة تزعم فيها انها تود مخاطبة العالم بود لإقناعه بحسن النيات الأميركية وبالالتزام الصادق بمسيرة الشعوب الى الديموقراطية والحرية. لكن بولتون ليس ودوداً ولا يحب سوى المحافظين الجدد المتشددين والصقور المتزمتين. وكما بينت عملية ترشيحه في الكونغرس فإنه ليس ديموقراطياً ابداً في تعامله مع موظفيه ومع الذين يختلفون معه سياسياً ويرفضون تحوير الحقائق لتلائم السياسة التي يريدها. قد يكون بولتون مفيداً في اصلاح الأممالمتحدة بمنطق ضرورة كسرها وتهشيمها كأساس لاصلاحها. قد يكون هذا تماماً ما تستحقه المنظمة الدولية. لكن بولتون ليس الرجل الذي يولد الثقة ببناء منظمة أفضل، أولاً، نظراً لكرهه فكرة الاممالمتحدة نفسها، وثانياً لأنه سيبني على طريقته، وثالثاً لأن الاسرة الدولية ما زالت تراقب بقلق كيف"يبني"المحافظون الجدد العراق الجديد عبر تدميره بسياسات مدهشة بدهائها أو بغبائها. المذكرات الرسمية البريطانية التي طغت أخيراً، رسمت صورة واضحة لإدارة اميركية عازمة على الاسراع في"انجاز"شن حرب على العراق باستهتار كامل للمشاكل الناتجة عن حرب متسرعة بلا استراتيجية ضرورية لما بعد الغزو والاحتلال. أوضحت المذكرات ايضاً ان ادارة بوش التي سيطر عليها صقور وزارة الدفاع البنتاغون بتحالف مع مكتب نائب الرئيس ديك تشيني صيف عام 2002 اتخذت قرار الحرب ذلك الصيف، بينما ادعت انها تبحث عن حلول لتجنب الحرب. هذه المذكرات تثبت ان حرب العراق اتت نتيجة استراتيجية اميركية بريطانية اساسها التضليل. الاعلام الاميركي، بمعظمة، أغمض عيونه وسار مُخيراً ومسيراً باستراتيجية اعلامية تضليلية للبنتاغون بهدف تعبئة القومية الوطنية مع الحرب. اليوم، يستفيق الرأي العام الاميركي بين الحين والآخر الى واقع التضليل كسياسة، والى التسرع الى الحرب كقرار مسبق وليس كآخر خيار، والى"مفاجأة"صعوبات ما بعد غزو العراق واحتلاله باسم تحريره وجعله نموذج اطلاق الديموقراطية في المنطقة العربية، يستفيق قليلاً ثم يغمض عينيه لئلا يشعر بالذنب، وهو يزعم الوطنية فاميركا تعيش اليوم حالة انفصام ملفتة تأتي في اعقاب الانقسام الذي تريد التغلب عليه. انها تحاول ان تتناسى كي لا تواجه استحقاقات الاعتراف بأنها تخوض حرباً، بقواتها وبخسارة يومية بالأرواح الأميركية. معظم الاميركيين يتظاهر، كما يريد رئيسه له ان يظن، ان العراق أخذ حرب الارهاب بعيداً عن المدن الاميركية بقرار مسبق. لكن الأكثرية الأميركية تدرك في صميمها ان حرب العراق أججت حرب الارهاب، على رغم الادعاءات بعكس ذلك، وان هذه الحرب قد تتحول الى فيتنام للأميركيين وقد تضطر بإدارة بوش الى فرض التجنيد الاجباري، وهذا سبب من أسباب انحسار الرضى الشعبي على بوش بصورة ملحوظة ومقلقة للحزب الجمهوري. عراق كوفي انان غير عراق جورج بوش على رغم تراوح العراق لكلاهما بين موقع قدم الانزلاق وبين سلم التسلق الى المجد. فالأمين العام بدأ علاقته بالعراق بزيارة تاريخية الى بغداد لدفع شبح الحرب بعيداً عنها، عاد منها منتصراً الى حين"انتحاره"سياسياً في خضم الاحتفاء به"بطلاً". كان ذلك عندما قال في مؤتمر صحافي لدى عودته من بغداد، في اشارة الى صدام حسين"في وسعي ان أتعامل معه". وجاءت تلك الجملة المؤلفة من خمس كلمات لتدحض كل ما حرص كوفي انان على التنسيق في شأنه مع الادارة الاميركية. فهو تناسى بجملته الشهيرة ان السياسة الاميركية الأساسية كانت"شيطنة"صدام حسين وليس التعامل معه، ودفع ثمناً غالياً. خطأ كوفي انان الجوهري ليس في زلة لسان هنا أو هناك. أنه خطأ استراتيجي وتكويني، إذ ان هذا الأمين العام تبنى خلال كامل تاريخه المهني في المناصب العليا مبدأ الإبحار بحذر مفرط بدلاً من الإقدام بشجاعة كجزء من الابحار الجريء. ارتكب اكثر من خطأ في أكثر من ملف. سمح لاحتفاء به كشخصية نجومية ان يغلب على الاحتفاء بنفسه كرجل في منصب القيادة الاخلاقية. كوفي انان رجل طيب بالأساس، معدنه ليس عاطلاً. ما حدث له هو ما يحدث للرجال في السلطة: انهم يفقدون البوصلة. لا توجد أدلة قاطعة على تورطه في مزاعم الفساد في برنامج الأممالمتحدة"النفط للغذاء"في العراق. توجد ادعاءات على تورطه وهي أقوى في ما يخص مزاعم تورط ابنه كوجو انان الذي وجدت لجنة التحقق التي يترأسها بول فولكر أدلة كافية ضده لتبقيه في قفص الاتهام بدلاً من تبرئته، تطورات هذا الاسبوع أعادت كوفي انان ايضاً الى قفص الاتهام وأطلقت تكهنات استقالته أو إقالته. بعض الكلام يُهمس في اروقة الأممالمتحدة بشماتة وبعضه يهمس بغضب، انما لا استغراب في ما يتردد عن احتمال الاستقالة او الإقالة التي سيحضرها حوالى 150 قائد دولي في شهر ايلول سبتمبر. يقال ان تأخير لجنة التحقق لاستنتاجاتها الى شهر آب اغسطس سيتبعه تأجيل آخر الى أواخر ايلول كي لا تعطل القمة وكي يُعطى انان فرصة المبادرة الى الاستقالة من المنصب. يقال ان الادارة الاميركية أقل حماسة لإقالة انان، اذ ان"البطة العرجاء"في منصب الامين العام تناسبها في هذا المنعطف أكثر من أمين عام ناشط وحيوي. علاقة كوفي انان بالرئيس السوري بشار الاسد علاقة مثيرة لفضول الادارة الاميركية كما لكثيرين في الاسرة الدولية. فهو أسرع الى أكثر من استنتاج وموقف مساند للرئيس السوري ومنقذ له من الاحراج. وهو في الآونة الأخيرة اضطر الى التراجع عن تسرع تحت الضغوط من داخل صفوف الأمانة العامة ومجلس الأمن، لكنه أرفق ذلك بتصريحات اعتبرت محاولة طمأنة لا علاقة له بها على الاطلاق. هناك من يعزو هذا التصرف الى نصائح متضاربة من مستشاري كوفي انان ورؤساء الدائرات مثل دائرة حفظ السلام، معارك التنافس والخلاف والشخصيات المتضاربة مستعرة في الأمانة العامة هذه الأيام. يضاف اليها توتر كوفي انان وضياعه فضلاً"غيرته"من نفوذ لمستشارين له أو مبعوثين عنه يفوق نفوذه. انان ليس المفكر الاستراتيجي وانما الرجل الذي أتقن الإبحار الى السلطة وهو يخشى طموحات آخرين على حسابه. مثال على المزيج من النصائح المتضاربة وقراره المستقل تعلق بتقرير انسحاب القوات والاستخبارات السورية من لبنان طبقاً للقرار 1559 الذي طالب بانسحاب جميع القوات الأجنبية وحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، والكف عن التدخل في الشؤون اللبنانية مع الاحترام الكامل للسيادة اللبنانية. كوفي انان اضطر الى التراجع عن اعلانه بأن سورية أكملت انسحابها على رغم ما تضمنه التقرير بأن لجنة التحقق لم تتمكن من التأكد من انسحاب العناصر الاستخبارية. ولذلك أوفد مرة اخرى فريق التحقق من الانسحابات بعدما ووجه بمعلومات اثبتت له انه تسرع بالقول ان سورية سحبت كامل استخباراتها. أحياناً، ليس واضحاً ان كان كوفي انان يزاحم مبعوثه الخاص المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559 او ان كان يراقبه عن كثب خوفاً منه. ليس واضحاً من بين مستشاري كوفي انان سبب اصراره على الاسراع في اعلان امتثال سورية للقرار 1559 على رغم نصائح آخرين، غير لارسن، بأن التبرئة تستلزم التأكد وان الديبلوماسية الاميركية - الاوروبية تستغرب هذا التصرف والاندفاع. الإدارة الأميركية ليست راضية عن أنان ولا على لارسن نتيجة اللقاء الأخير بين الأسد ولارسن هذا الأسبوع. الأممالمتحدة ترفض التعليق على"جوهر"المحادثات أو الكشف عن الجوهر، وهي تكتفي بالتعبير عن"شعورها"ب"التشجيع"نتيجة محادثات"بناءة ومساعدة"، حسب بيان للناطق باسم الأمين العام. الإدارة الأميركية لا تهمها تعابير مثل"التشجيع"و"البناءة". ما أزعجها هو ما تضمنه البيان من كلام عن استمرار الحوار وعن عزم لارسن"أن يستمر العمل"مع الأسد والحكومة السورية من أجل التنفيذ الكامل للقرار 1559. وهنا جوهر الخلاف. أوساط الأمانة العامة المقربة من لارسن فرحت بأن المحادثات الانفرادية التي دامت ساعتين اسفرت عن"حوار"بين الطرفين يهدف الى"الاستمرار بصورة بناءة". فرحت من دون أن تحتفي، فرود لارسن سياسي مخضرم ومحنك في فن التواصل والتفاهم، وهو أوصل الى الأسد تفاصيل المطلوب منه دولياً، إذا شاء اصلاح العلاقة مع الاسرة الدولية وإذا أراد للأمم المتحدة أن تساعده. الإدارة الأميركية تريد أكثر من ذلك، ولا يعجبها نمط الحوار والترغيب والتعاون. ارادت وتريد من الأممالمتحدة ابلاغ رسالة الحزم وليس التفاوض على التنفيذ. فالأمور واضحة في نظرها وعلى دمشق ان تدرك تماماً ما عليها أن تفعله. ولذلك إنفهيها تصر على الأممالمتحدة بأن تكون حازمة وألاّ تتبنى اسلوب إغراء دمشق للتنفيذ. في نهاية المطاف، أن لبنان وسورية مجرد مركب في محيط التطورات الدولية، لكنه مركب مهم لأنه صدف وتلاقى الآن مع سفن تعصف بها رياح ومع رجال جعلوا من الابحار بأنواعه متعة ومغامرة مصيرية.