يجبل الكاتب الليبي محمد الأصفر السيرة الذاتيّة بسيرة الفضاء طرابلسوبنغازي بخاصّة في روايته"نَواحُ الريق"نشر خاص. وفي الآن نفسه تطمح الرواية إلى الخروج من جلدها تجنيسها، إذ يدعوها الكاتب نصّاً وحياة ورقيّة وهراءً ومدوّنة، ولكنّه يدعوها أيضاً وأيضاً رواية. ومناط هذا القلق في التجنيس هو المروق على السائد والمغامرة في المختلف. فالكاتب المتوحد مع الراوي يقول:"لا أريد أن أحوّل نصّي هذا إلى مدوّنة سيرة، فالسيرة تقول الحياة... وأنا أقول ما يقوله الموت..."، ويقول:"لا أريد أن أحوّل نصّي هذا إلى أنموذج... إلى قالب خاضع لمشارط الفقهاء...". وفي موضع ثالث يؤكّد الكاتب أنّه يعرف كيف يجعل نصّه رواية بلزاكيّة أو كونديريّة أو غيرها، ويعرف الحبكة وجلد الشخصيّات إلى مصيرها، لكنّه لن يفعل. وفي موضع رابع ينفي الكاتب أن يكون فوضويّاً أو اشتراكيّاً أو لا منتمياً أو شاعراً أو رسّاماً، ويقول:"لست روائيّاً ولا قاصّاً". ولعلَّ ما يضيء مشروع المروق والاختلاف في"نَواحُ الريق"يتركّز بخاصّة في ما يحدّث به الكاتب المتوحّد بالراوي عن نفسه وعن الكتّاب. فهو يرى نجاحه في فشله ويرى العمق ادّعاءً وسطحيّة، والبلاغة كامنة في الطفو. وهو يحب الحضيض المحضض، ومتشبّع بأنفاس فلاسفة الأسلاف من الليبيين والإغريق، وقد أفرغ رأسه من المفاهيم والمسلّمات. وممّا يرسم به نفسه قوله:"أنا هو... أنتم... هي... هم... أنت"و"ثوابتي بخار"و"متغيراتي أسرار"و"جذوري خراب"و"أنا شيء تائه". بهذا القلق المقلِق ابتدأ الأصفر روايته متغنّياً بالأفكار الطريّة الفطريّة، واصماً الأفكار الملحّة بالأهرام الأنانيّة، أمّا أرقى الأفكار فهي الهشّة الخفيفة القصيرة العمر. وكرّر هذه البداية بعد سبعين صفحة، مثلما كرّر طوال الرواية إلحاحه على التلقائية. فهذا الذي يصف نفسه بسُطير أعمى، والذي يكره أن يكون كاتباً، لا يدري ماذا سيكتب. بل إن الأمر يشتبه بالعبث حين يتحدث عما جاء في الرواية من شعره:"أعرف أنه ليس شعراً، لكن وأنا أكتب الرواية في هذا الموضع كنت في مقهى أنترنيت وحدث خلل في الجهاز... صارت السطور قصيرة... المتن قصير والهامش متسع". وتتعزز هذه الصورة للذات بما يتعلق بالكتّاب، وأولهم محمد شكري الذي يعده الأصفر كاتباً عالمياً، ويروي أنه لو دخل إلى مقهى ورأى شكري و"دكتورنا أحمد إبراهيم الفقيه"فسيجالس شكري لأن حديثه شيق وغير مفيد. ولأن الأصفر يدرك قبل سواه ما تنادي به روايته من روائية محمد شكري في السيرية واللغة والرؤية، فهو يشدد على ما يميزه، كأن يعد أدب شكري قائماً في معظمه على الفلسفة الوجودية، فضلاً عن اهتمامه بالنجاح والتميز، أما الأصفر ففيه الفشل. ومن ذلك أيضاً أن كاتبة صديقة تطلب شطب اسمها من"نواح الريق"لأنها كاتبة غادة سمانية جبرانية نزارية منفلوطية محفوظية بلزاكية أكاديمية،"وأنت يا محمد تلبس جلباب شكري". وكأنْ لم تكف الكاتب سخريته من الكاتبة، فاحتضنها وقبّلها عنوة ليريها الفرق بينه وبين محمد شكري! إلى ذلك، تنهض السيرة في"نواحُ الريق"بالرحلة، ابتداءً من رحلة الأسرة من ظهرة طرابلس إلى بنغازي الملقبة بپ"رباية الذائح"والتي أهديت الرواية إليها. وفي بنغازي التي تاريخها فسيفساء متبعثرة، تأتي الرحلة أيضاً من أول المقام إلى حي المحيشي الذي توليه الرواية عنايتها الكبرى، حيث لكل شاب حكاية مختلفة في هذا الحي الذي تكوّن في بداية السبعينات من القرن الماضي، ولم تجلب السلطة له إلا جهاز مكافحة المخدرات والزندقة والسجن الكبير، فيما الحي مثابر على حضور جلسات المؤتمرات الشعبية الأساسية، ولا يخشى في الحق لومة لائم، كما بدا في تساؤل الأستاذ جويدة عن أموال البترول التي لا يصرف منها حتى القليل على الحي. ولئن كانت الذاكرة السيرية تتقد في الرواية كلها، فهي في ما يخصّ حي المحِيشي وبنغازي تتضاعف اتقاداً، فتحيي قيامة ثورة الفاتح وإقفال الماخور وقدوم رئيس الحي ليعلن قيام الثورة وطرد الزعيم هاتفاً:"يا أبناء الحلاليق... لا مظلوم بعد اليوم". وسرعان ما تتفجر أو تشتبك ذكريات كرة القدم والأعراس والسينما والنوادي الرياضية والمدرسة الابتدائية واختفاء شقيق الراوي واعتقاله ووالده جراء ذلك. وفي مثل هذا الفعل للذاكرة سيتكرر طي السنين ليبلغ هدم سجن الحي وإبداله بحديقة وإعادة جوازات سفر الممنوعين من السفر وعودة الهاربين ومنهم شقيق الراوي الذي سيعاد اعتقاله بعد سنة. وفي مثل هذا الفعل للذاكرة، سيتكرر سرد القصص الفرعية لشخصيات شتى ما وسم نشأة الراوي، مثل قصة زواج الاستاذ عبدالوهاب واعتقاله أو قصة الحلاق السوري أو قصة عمر جحا الذي هاجر إلى المجر وعبارته تدوّم:"ملح بنغازي ما يتبدل أبداً". يمضي فعل الرحلة بالرواية وبالسيرة إلى الخارج مراكشتايلاند.... وهنا، كما في صدد طرابلسوبنغازي تسطع علامة النسيان الذي يصنع الذاكرة، وعلامة الذاكرة قديد الحياة الطري. وعبر كل ذلك ينجلي نظر الرواية والرواية للزمن وللمكان. فالزمن مخلوق له كيانه ويعيش فينا مثلما نعيش فيه. وإذا كان الماضي ينادي الراوي فالحاضر يبكي والمستقبل يرمي له"منشفة مشكوكاً في نظافتها". أما المكان فلعل كتابة الرواية له هي امتيازها الأكبر، وأول ذلك هو أنسنة المدينة. فللمدينة سرتها التي يلوب الراوي على معرفة من يقطعها؟ وكيف هي ذروة لذتها؟ ومن أبوها ومن أمها؟ ومن المدينة ما هو يتيم النسب، ومنها ما هو سفاح رحمها تائه. وفي أنسنة المدينة تتوالى مخاطبتها للراوي كما يتوالى وجده بها، وبخاصة حين تكون بنغازي التي يقول فيها:"مستعمرتي مملكتي جمهوريتي جماهيريتي مجهولتي فاضلتي فضيلتي". إنها جماده ومعشوقته وجثته ومومس المدن وجرة ملحه كما تقول له ظهرة طرابلس. وبنغازي سنام بعير تمرغ عليه الطوارق والزنوج والبربر والعرب والفرنجة والغزاة. والراوي يرسم تفاصيل بنغازي منذ ستينات القرن الماضي حتى زمن الكتابة 2004 كما يحدد المتن. ويفرد الرسم للحياة الثقافية في المدينة حيزاً خاصاً، شأنه مع طرابلسومراكش. واللافت هنا أن الراوي يسرد في كل حيّز عشرات الأسماء ممّن يقدر وممن لا يقدر، من الكتاب والمثقفين والفنانين الليبيين وغير الليبيين، إلا أنه لا يذكر إبراهيم الكوني بحرف. وقد يكون للقراءة أن ترى في ذلك إشارة مبطنة / معلنة إلى مفارقة محمد الأصفر في كتابة الرواية لما انتهجه الكوني والفقيه. وسواء صحّ ذلك أم لا، فالإشارة تمضي على كتبة جارحة هاتكة، لا تأبه بمحرم جنسي أو ديني أو سياسي، حتى ليعجب المرء أن تظهر"نواحُ الريق"في بلد عربي، فكيف في ليبيا! ومن تلك الإشارة أن الأصفر يعلن روايته خليطاً من الشعر والقصة القصيرة والذكريات والرحلات. ففي الرواية أول قصة نشرها الكاتب، وقصة أخرى له، ومتناصات شعرية له ولسواه وغنائية. والأصفر يعلن خياره في"السرد البسيط المشبع بالدلالة غير المتكلفة... السرد القريب من الأرض والناس". ولا يفوته أن بعضهم سيأخذ على الرواية ازدحامها بما ذكرنا من عشرات الكتاب والفنانين، فيعلن أن كل من يذكره عزيز عليه، وهم مثل محمد شكري"بهار شهي لن يفسد طبختي"، ويؤكد أنه سيصفهم دائماً"ولتخرب الرواية فهم أهم من كل خربشاتي". انبنت"نواحُ الريق"بالابتداء بسيرة الفضاء التي تتفتق منها سيرة الإنسان الراوي نفسه أو شخصية ما. وفي موضع مبكر وعد الراوي بألاّ يسرد كيف سافر للمرة الأولى وكيف دخل المدرسة وكيف سُجن، لأنه يرى ذلك"تقليعات قديمة... لذلك سأبدأ من الآخر، فأنا إنسان نسي بداياته". لكنه لن يفي بهذا الوعد، إذْ ان هذا الذي يشتري نسيانه بينما العالم يشتري ذاكرته سيسرد بداياته في الختان والمدرسة وو... غير أن الأهم هو ما يبدو من حين إلى حين من دفع الراوي للسيرية عن الرواية، فهل هي التقية حين يقول:"أنا خائف من تطابق الأسماء والأحداث... التاريخ يطابق نفسه... مغناطيس يضاجع مغناطيساً وأنا برادة طين هشة"أو حين يذيّل الرواية بملاحظة تنفي القصد عن مطابقة بعض الأسماء مع الواقع؟ أم هو التخييل، ليكون على القراءة أن تصدق أن ما رواه الراوي عن قلعة السراغنة أو درنة أو شبرا القاهرة"محض خيال ومحض خُبال"؟ وكذلك أن حكايات الأستاذ عبدالوهاب وعمر جحا والمحقق الذي يأمر الراوي بأن يكتب ما يشاءه هو... أن كل ذلك"متخيلات آنيّة دونتها في هذا البراح؟". للقراءة أن تصدّق وأن تكذّب كما تشاء. ولكن لپ"نواحُ الريق"أيضاً وأولاً وأخيراً أن تزهو بجنونها وهي تجبل سيرة الكاتب بسيرة المدينة وتخرج من جلدها وتعد بانعطاف الرواية في ليبيا إلى أفق مختلف يلوّح بالوداع والتجاوز لما سبق إليه آخرون على رأسهم إبراهيم الكوني.