في روايته الجديدة (بوح ونواح) الصادرة عن (دار مدارك) للنشر ببيروت عام 1432ه يرى الدكتور شاهر النهاري ضرورة الفصل والتمييز بين الحدث الماضي (الذي كان ومضى) وبين الحدث الآني الذي ما زال امتدادا لذلك الماضي بكافة جوانبه، وأبعادها الاجتماعية والدينية والتاريخية والنفسية والواقعية والمتخيلة، إلى جانب ضرورة التمييز – في الوقت ذاته – بين شهود هذا الحدث، وانقسامهم على أنفسهم إلى ثلاث شخصيات أساسية، ذات فاعلية عالية في الحدث السردي وتوجيهه: هي (الكاتب، والراوي، وراوي الراوي) حسب ما تفرضه طبيعة الأحداث وتناولها، وآلية سردها، وتنوعه فيما بين (الذاتي) و(اللاذاتي) كما وصفه كاتب الرواية نفسه في أكثر من موضع من الرواية نفسها. ومن يقرأ الرواية يجد أن هناك شبه اندماج، أو تداخلا بين هذه الشخصيات لدرجة ذوبانها في بعضها البعض، بحيث يصعب - أحيانا - على القارئ التمييز فيما بينها، ومعرفة الحد الفاصل بين كل شخصية وأخرى، نتيجة الاسترسال السردي الموغل في تفاصيله، والتماهي الشديد بين الشخصيات المذكورة، إذا لم يكن القارئ متنبها لمسألة الفصل بين الحدث وكاتبه، وراويه، أي بين (الذاتية واللاذاتية) منذ الأسطر الأولى للرواية حتى نهايتها. ففي الفصول الثلاثة الأولى من الرواية يظهر شخص الكاتب بشكل واضح، وتعامله المباشر مع الحدث السردي، وتأثره وتأثيره فيه، لكنه في الفصل الرابع يبدأ بالتنحي قليلا، وبشكل تدريجي حتى يختفي تماما، أو يكاد فيما تلا ذلك من الفصول، لدرجة اندماجه براويه، الذي أطلق عليه اسم (محمد علي) وهو الاسم الحقيقي للراوي، لكن الكاتب لم يلبث أن استعار له اسما آخر هو (عامر). ثم يكتشف القارئ في الفصل الأخير اندماج شخص الراوي (محمد علي) أو (عامر) في شخص آخر، هو الدكتور (عثمان) الذي يتضح أخيرا أنه هو الراوي الأساسي لهذه (الحكاية الضادية) كلها، بلسانه، وبقلم الكاتب، ولقصة محمد علي الشخصية المحورية في الرواية، المريض المتنوم في أحد المستشفيات، والذي يقوم الدكتور عثمان نفسه بعلاجه كطبيب مختص، وبمتابعة حالته الصحية. إن هذا التماهي الموغل في حدوده وتفاصيلها هو ما جعل القارئ يقع في إشكالية صعوبة التمييز بين الكاتب والراوي وراوي الراوي، أو فيما بين (الذاتية) و(اللاذاتية)، أو لنقل بمعنى آخر أكثر وضوحا: ما بين (الأنا) وال (هو) وال (الآخر). ولا أشك أبدا في أن الكاتب يدرك مدى هذا التماهي إدراكا تاما، بدليل إشارته إلى ضرورة الفصل بين (السيرة الذاتية) التي تخصه هو بنفسه، وبين (السيرة اللاذاتية) التي تخص غيره، في أكثر من موضع من الرواية، إذ يقول في أحد المواضع: (وقد تسألوني كيف أني لم أذكر لكم قصتها. وكيف تم الزواج في غفلة من الراوي الهمام الذي وعدكم بالتحدث عن تفاصيل سيرته اللاذاتية بالتفصيل الممل. ولكن الراوي للسيرة الذاتية لا بد أن يكون مسيطرا بفكره وحيثياته على جميع الأوضاع ذات الدلالة). الرواية: ص168. وفي موضع آخر يقول أيضا: (ثم اني لا أريد أن أشغل القارئ بما لا يهمه خصوصا وأنا أكتب سيرة لا ذاتية لها من الإسقاطات مثل ما لها من نتاج البوح والنواح). الرواية: ص281. وهذا كله – بالتالي – يعني أن الكاتب قد أوغل في عمله هذا باستنساخ شخصية الراوي في عدة مواضع من روايته، بحيث ظهر فيها بصور متعددة أيضا، تختلف كل منها عن الأخرى صوريا أو ظاهريا، لكنها تكاد تكون كلها متفقة جوهريا. وهذا ما يعيد ذاكرتنا مجددا للعنوان الفرعي للرواية، على غلافها الخارجي، ألا وهو (في حكاية ضادية). أي أن الكاتب في هذه الحالة قد استثمر حرف (الضاد) كرمز للمجتمع العربي المحافظ، الذي يقدس عاداته وتقاليده وأعرافه أكثر من تقديسه لأي شيء آخر، لدرجة تحرم على أي فرد من أفراده المساس بهذه العادات والأعراف، بل قد تبلغ أحيانا درجة التجريم والمروق، والنفي من المجتمع، بحجة تمرده عليه، أو خروجه عن حدود السائد، وما تم التعارف عليه اجتماعيا، وبغض النظر عما إذا كان موافقا للشرع أو الأخلاق، أم لا. ولأن حرف (الضاد) حرف مميز للغة العربية، وللعرب أنفسهم عن سائر اللغات والشعوب الأخرى فقد وظفه الكاتب هنا توظيفا رمزيا سليما، للدلالة على (خصوصية) المجتمع الذي تدور فيه أحداث (سيرته الذاتية، واللاذاتية) أو (حكايته الضادية) وحساسيته المفرطة - كمجتمع عربي تقليدي محافظ – تجاه كل ما يثير حفيظته أو نعرته، أو يحاول الخروج عليه من قول أو فعل أو تفكير. ولذلك كانت (الضادية) هي لغة البوح والمكاشفة، بروحها المتمردة على ما يحيط بها من عادات وتقاليد صارمة، وأعراف اجتماعية ذات صفات (طوطمية) تحرم على أفرادها ما تشاء، وتحل لهم ما تشاء أيضا، دون أن يكون لهم حق الاختيار فيما يحبونه وما يكرهونه، أو حتى مجرد التفكير في سبب حرمة هذا الشيء وحلاله من عدمها، من منظور اجتماعي صرف، حتى وإن تعارض في شيء من الشرع أو الأخلاق، أو العقل والمنطق. وبهذا الأسلوب السردي المعقد في تقنياته، الذي اعتمده الكاتب، بل تعمده، والمتمثل – أساسا – في تعدد الرواة، وتذويب شخصياتهم في بعضها استطاع أن يخلص شخوصه من (الإسقاطات) أو الاحتمالات التي يتأولها بعض القراء حول واقعيتها، أو مدى حقيقتها، وتساؤلهم بين الحين والآخر حول مدى علاقة ما يقرأونه بالواقع من حولهم: هل هو واقع؟ أم خيال؟ أم أنه مزيج من الاثنين معا؟. خاتمة: إن في هذا العمل السردي استقراء موغلا في تفاصيله لتاريخ العرب الحديث بوجه عام، والمجتمع السعودي بوجه خاص، ولتلك المراحل التي مر بها هذا المجتمع خلال نصف القرن الماضي من الزمن تحديدا، ابتداء من تشكل النواة الأولى له، ومرورا بعصر الطفرة الاقتصادية التي شهدتها منطقة (الخليج العربي) في أواخر السبعينيات الميلادية حتى أوائل الثمانينيات، وظهور عصر الصحوة حتى الفترات المتأخرة التي كانت أكثر انفتاحا على الآخر. كانت لغة الكاتب خلال ذلك كله لغة مبهرة جدا، وغاية في الروعة والجمال، ومؤثرة أيضا، وذلك لكونها لا تكتفي بمشاهدة الحدث أو تتبعه من الخارج، بل إنها تندمج فيه، وتنسجم مع مجرياته، وكأنها جزء لا يتجزأ منه.