حين غنّى رشيد طه في لبنان قبل سنوات، تعالت هنا وهناك تعليقات ساخرة على طريقة ادائه أغاني فريد الأطرش، ووعلى بعض مطربي المشرق العربي ممن غامر في فترة من الفترات وأعاد تقديمها على طريقته الخاصة جدّاً. لكنّ هؤلاء المنتقدين لم يفطنوا غالباً الى خصوصيّة تجربة ذلك المغنّي الفرنسي - الجزائري الأصل - الذي عاش في فرنسا، وحقق نجاحه فيها مخاطباً شريحة شبابية واسعة متحدّرة من الهجرة العربيّة، ومتعطّشة إلى استعادة الصلة ب"جذورها"، ومتحمّسة لكلّ ما يرتبط بتلك الجذور، أو يذكّر بها من قريب أو بعيد. واليوم، نستعيد النقاش القديم، حول الاشكال الممكنة لاعادة تقديم الأعمال الكلاسيكية، إذ يعود طه إلى بيروت، لإحياء حفلة هذا المساء في قاعة ال"ميوزيكهول"بدعوة من المركز الثقافي قي بيروت. فرنسا الأخرى "حبينا... حبينا، حبيناكِ حبينا"... فريد الأطرش إذاً، وإنّما على طريقة ابن وهران الذي يجمع بين الشعبي الجزائري والروك اند رول، بصوته الأجش، وطلّته البوهيميّة، ونزعته إلى التنشيز كلّما اقترب من تراث ذلك المشرق العربي البعيد. تجربة رشيد طه تعكس معاناة أبناء الضواحي المهاجرين، هؤلاء الممزقين بين ارث ثقيل و"هويّة"غامضة يسعون سدىً الى اعادة امتلاكها، وواقع جديد هو واقعهم الفرنسي، وتجاربهم اليوميّة الآن وهنا، بعد أن غزت"موسيقى العالم"تلك القرية الكونيّة، وصارت جزءاً من مكوّناتها وحياتها الليليّة، ومن مقوّمات الموضة والرواج... الايقاعات العربيّة، والمراجع المغاربيّة، والميلوديات الشرقيّة... هي من العناصر التي قامت عليها تجربة رشيد طه، من خلالها صرخ غضبه، وأعلن تمرّده. وإذا كان هذا المغنّي الوسيم الذي جمع بين شارل ترينيه والحراشي والشيخ العنقة، يبدو استفزازياً في أحيان كثيرة... فهو قبل كلّ شيء رمز لفرنسا أخرى... فرنسا القائمة على التمازج والاختلاط. حين أسس، خلال ثمانينات القرن الماضي، فرقة متحدرة من أوساط المهاجرين العرب، برزت في باريس بإسم Cartes de Sejour إذن إقامة، كان مانيفستو تلك الفرقة أغنية شارل ترينيه أب الأغنية الفرنسية، والثقافة الفرنسيّة الصرفة"فرنسا الطيبة"Douce France. أعاد هؤلاء توزيع الأغنية بايقاعات جديدة، ونبرة شرقيّة: "فرنسا الطيبة... بلد طفولتي الحبيب...". وجاءت الأغنية تجاهر بانتماء هذا الجيل الى فرنسا، إنما على طريقته. جاءت الفرقة تطالب بحقّ الجيل الثاني والثالث للهجرة في الهويّة الفرنسيّة، وبحصّته من ذلك الميراث. كان أفراد"كارت دو سيجور" يكتبون ويلحِّنون أغانيهم بالعربية والفرنسية. وكان معظمها مستوحى من الواقع الذي تعيشه الجاليات العربية المهاجرة في فرنسا. وقد عرفت الفرقة نجاحاً كبيراً، واعتبرت مفترق طرق في مسار الاغنية الجديدة. "يالرايح وين مسافر؟..." وذات يوم قرر رشيد طه العودة الى التراث الغنائي العربي. وكان أن حقق نجاحاً منقطع النظير، العام 1998، حين أدّى"يا الرايح"، وهي في الأصل أغنية قديمة للمطرب الشعبي الجزائري الراحل دحمان الحراشي، بعد أن أدخل عليها آلات موسيقية جديدة وايقاعات راقصة."يالرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي... شحال ندموا العباد الغافلين قبلك وقبلي". وتعكس هذه الأغنية، مذاق اللون"الشعبي"، كما تختصر معاناة الهجرة والاغتراب، والانقطاع عن الوطن. وفي العام التالي شارك في حفلة ضخمة إلى جانب الشاب خالد وفوديل، وسجّلت الحفلة في أسطوانة حققت أكبر المبيعات في فرنسا يومذاك، وكان عنوانها"1، 2، 3 : شمس". ومن يومها تنوّعت أساليبه بتنوّع أسطواناته ولم يبق في دائرة حصريّة... ذات لون واحد. زاوج رشيد طه بين النغمة العربية والآلة الغربية، وتتعايش في أغنيته مراجع مختلفة متباعدة من"الشعبي"و"الغرناطي"إلى الروك مروراً بمدرسة"الأغنية الفرنسيّة"التي تحتلّ فيها الكلمة، والكلمة الملتزمة، مكانة أساسيّة. ويمكن أن نتحدّث مع تجربة رشيد طه، عن"روك إند رول"عربي، من جهة القوّة والتماسك والخصوصيّة، والتعاطي مع الايقاع والآلات المكهربة من غيتار وبايس، إلى جوار الدربوكة والندير والعود والأورغ ذي النبرة العربية. كلمات أغانيه - مثل"قولوا لمي ما تبكيش"- خالية من الزخرف. وتتميز أغانيه بالمزج بين أصناف واتجاهات موسيقية عدّة يلتقي فيها الشعبي والتقليدي والغرناطي والتكنو والهاوس... كما تتميز كلماته بحدة المعاني وحضور الموقف النقدي والهمّ الاجتماعي. أسطوانته الأخيرة kitoi. تنويع بالعامية على سؤال:"من أنت؟"، بمشاركة بريان إنو وكريستيان أوليفييه، تتطرّق إلى قضايا الفساد الإداري والحرب والعنصرية... أغنية"تيكي توا"التي أعطت عنوانها للألبوم، تتخذ شكل حوار بين شخصين، على إيقاع الروك أند رول السريع. وتنتمي الأسطوانة إلى موسيقى الروك الصاخب، وهو يبررّ ذلك بقوله:"لا بدّ من ضجة عارمة لانتزاع الجمهور من سباته". في عمه الأخير هذا يتخلّى طه عن الاستعارات اللفظية التي اشتهر بها، متناولاً الأحداث بشكل مباشر: من انتقاد الحرب الأميركية على العراق، وأنظمة الحكم التعسّفية، وسوء استخدام الديموقراطية. كما يتوجه الى الحكّام العرب محملاً بعضهم مسؤولية ما تعانيه شعوبهم يقول رشيد طه إنّه يريد فضح أكاذيب السلطة، كما اتهم الاشتراكيين الفرنسيين أيّام ميتران، باستغلال قضايا المهاجرين، والتلاعب بها لأغراض انتخابيّة. ولعلّ راديكاليّة رشيد طه، ستلاقي أذناً صاغية، وتجاوباً واسعاً، هذا المساء في قاعة"ميوزيكهول"البيروتية الستاركو. رشيد طه مغنياً سياسياً؟ ربّما، لكن الأكيد هو أن بوسعنا القول بعده إن الروك إند رول يمكن أن يكون عربياً أيضاً... بطاقة تعريف ولد رشيد طه في وهرانالجزائر عام 1958. هاجر مع عائلته إلى فرنسا عام 1968. أسس في بداية مشواره الفني فرقة "كارت دو سيجور". بدأ مساره الفردي مطلع التسعينات. أصدر ألبومه الأول "Barbes" عام 1993 باربيس حيّ باريسي شعبي معروف بكونه معقل المهاجرين, صدرت الأسطوانة الأولى عن المنتج البريطاني المعروف Steve Hillage الذي سيرافقه في معظم أعماله. أسطوانته الثانية بعنوان 1995"Voil Voil", تلاها Ol Ol, ثم Diwan. أصدر عام 2000 أسطوانة Made in Medina صنع في المدينة القديمة الذي سجّل بين مراكشوباريس والولايات المتحدة. آخر أسطواناته بعنوان Kitoi., شارك فيها بريان إنو وكريستيان أوليفييه. غنّى في بلدان عربيّة عدّة, منها المغرب ومصر القاهرة, الاسكندريّة والأردن ولبنان... وفلسطين.