لا يسع الناظر الى الواجهة الزجاجية الضخمة لمبنى"قصر المؤتمرات"في مدينة مونتريال في كندا، حيث يلتئم مؤتمر متخصص عن مناخ الارض، الا أن يلاحظ مجموعة من اشجار اصطناعية بلون أحمر تمتد عبر واجهات الطبقة الارضية لذلك المبنى الفخم. وتزيد الاضواء الملتمعة، اضافة الى نقاء الهواء البارد المأثور عن مونتريال غير البعيدة من القطب الشمالي، في قوة حضور فكرة النقاء في شكل مرهف، او ربما جارح. يبدو هذا المشهد في مثل نقاء شاشة الكومبيوتر. هل تُعطي هذه المشهدية نموذجاً عن"العلاقة الصحيحة"بين الانسان والبيئة، أم أنها صورة مفبركة تصنعها ادوات المجتمعات المتقدمة غرباً، والتي دخلت في عصر ما بعد الصناعة، وما بعد الحداثة؟ لعل العلاقة بين الانسان وبيئته أشد تعقيداً أو أكثر بساطة من زجاج فائق النظافة تدعمه أضواء النيون المشتعلة، واشجار بلاستيكية تدأب الأيدي المُدربة على تكرار نظافتها اليومية بانتظار انتهاء المؤتمر. هل يدور في خلد المؤتمرين ان البلاستيك، مثلاً، يعتبر من أشد المواد مقاومة لاعادة التدوير، وانه يصعب التخلص منه، كنفايات، بصورة طبيعية؟ ويستمر المؤتمر حتى التاسع من شهر كانون الاول ديسمبر الجاري. ولم يكن ما خطف الأنظار هو ذلك المبنى البهي، الذي يجمع اناقة الذوق الملكي الفرنسي ومعطيات العمارة المعاصرة، ولا حتى المؤتمرون الذين بدوا غارقين في سيل من بدلات رسمية ومجاملات لاحد لها. ولعل أكثر ما خطف الابصار والاضواء معاً، هو الحضور المفاجئ والقوي الدلالة للرئيس الاميركي السابق بيل كلنتون. فمنذ اطلالته، بوسامته التي زادها شعره الابيض تألقاً، في المطار، اصرّ الاعلام الكندي والعالمي، على استعادة التناقض بين مواقفه بصدد البيئة، ومواقف خلفه في البيت الأبيض: الرئيس جورج بوش. والحال ان التناقض بيئياً بين الرجلين مدو. ففي فترته الرئاسية الثانية، اشعل كلينتون آمال العالم بمستقبل ايجابي للبيئة، عندما وقّع"ميثاق كيوتو"في 12 كانون الاول 1997 للحد من انبعاث عوادم الصناعة، واضعاً قوة الولاياتالمتحدة في خدمة مكافحة تلوث هواء الارض. فبموجب ذلك التوقيع، تعهدت اميركا، التي تعتبر اكبر ملوث مُفرد لبيئة الكرة الارضية، بخفض انبعاث العوادم الصناعية بنسبة 8 في المئة مع حلول العام 2012، عندما ينتهي مفعول ذلك الميثاق. وخالف كلينتون تصرف الرئيس الجمهوري الذي سبقه، جورج بوش الاب الذي مارس رياء مذهلاً عندما حضر بنفسه الى مدينة ريو دي جنيرو البرازيل، عام 1993، ليدعم جهود مكافحة الحفاظ على بيئة الارض، لكنه امتنع عن التوقيع على"معاهدة الريو"Rio Convention للحفاظ على الانواع الحيّة، التي بات كثير منها مهدداً بفعل الخراب المستمر في بيئة الارض. وحينها، اشاعت اميركا ان ارتفاع حرارة الارض لا ينجم من تراكم غازات التلوث، على عكس ما يقوله علماء العالم! ولاحقاً، حاول بوش الابن استخدام تلك الحجة نفسها، لكن من دون نجاح لأن كثيرين من علماء اميركا باتوا يجاهرون باعتقادهم بان الغازات التي تنجم عن احتراق الوقود في الدول الصناعية هو السبب الرئيسي للتلوث في الارض، وكذلك للارتفاع المستمر في حرارة الكوكب الارضي، وما يتبعه من آثار! ولذا اعتبر المراقبون حضور كلينتون"خطوة ضغط"على الوفد الاميركي الذي قال رئيسه، خلافاً لمواقفه السابقة"ان بلاده لا تعارض اي اتفاق ينبثق من المؤتمرين كما لا يمكن ان تكون حجر عثرة امام ما يحققونه من نتائج ايجابية في المسألة المناخية". اذاً بدأت"القمة العالمية المخصصة للتغيرات المناخية"اعمالها في 28 تشرين الثاني نوفمبر بحضور لافت ضم 180 دولة و 2500 مندوب و4500 منظمة دولية غير حكومية و 120 وزيراً للبيئة. والى ذلك يتضمن هذا الحدث التاريخي عروضاً ومحاضرات وتظاهرات ثقافية ورحلات لمواقع اقتصادية وثقافية وعلمية وسياسية ذات صلة بالتغيرات المناخية. وتهدف تلك النشاطات، كحال المؤتمر، الى زيادة وعي الرأي العام العالمي بخطورة التحديات الناجمة عن زيادة الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري Green Hous Effect وانعكاساتها المأسوية التي تحول دون تأمين بيئة مناسبة للاجيال المقبلة. وتُعدّ هذه القمة اول اجتماع للدول الموقعة على ميثاق كيوتو منذ 6 شباط فبراير 2005، عندما اكتمل جمع التواقيع عليها، ودخلت حيّز التطبيق الالزامي. وتُعتبر الأولى التي تنظمها الاممالمتحدة حول المناخ في الشمال الاميركي. ولذا، يأمل المجتمعون في التوصل الى التزام قوي من الاسرة الدولية بالاجراءات الواجب اتخاذها بعد العام 2012. بداية متعثرة ونزاع اوروبي-أميركي طرحت في المؤتمر اقتراحات عدة: اما الابقاء على اتفاقية كيوتو او تعديلها او الغاؤها. والحّ الاوروبيون على تبني اتفاقية جديدة للحد من انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري، على ان يبدأ سريانها عام 2010. ورفض الاميركيون على لسان ممثلهم هارلان طومسون كيوتو من الاساس واي نقاش حول مستقبل المفاوضات المناخية عبر الاممالمتحدة. او اي اتفاق يمكن ان يفرض على اميركا التزامات مادية او معنوية حول سياستها المناخية. وجرت محاولات حثيثة لاقناع الولاياتالمتحدة بالانضمام الى اتفاقيات الحد من الاحتباس الحراري. ولم يخل الامر من التنديد ووجوب الانصياع للارادة الدولية. فمثلاً، ارتفع موقف"شبكة العمل الدولية لاجل المناخ"المعترف بها شريكاً دولياً للامم المتحدة في الشأن البيئي مُندداً. وبرز موقف مماثل للناطقة باسم"المجموعة الايكولوجية الدولية" International Echology Group جينفير مورغان التي قالت:"لا يمكن للولايات المتحدة ان تتنصل من مسؤولياتها العالمية... ان ادارة بوش لا تمثل ارادة الاميركيين في ملف المناخ". وحاول وزير البيئة الكندي ستيفان ديون، الذي يترأس المؤتمر، ان يهدئ من حدة التعارض في المواقف. واقترح اعتماد نسخة منقحة من"ميثاق كيوتو"، سمّاها "كيوتو 2"او"خارطة الطريق". وحاول تسويقها كتسوية تحترم وجهة نظر المعارضين ولا تؤدي الى فرض تدابير رادعة ضد الدول المخالفة. واعلن:"ان الشعوب التي انتدبتنا تنتظر منا تقدما فعلياً هنا في مونتريال... علينا التزامات وطنية ودولية لدرء اسوأ المخاطر الايكولوجية في هذا العصر". واشار الى ان التحدي الكبير يتمثل"في تقريب وجهات النظر بين من هم خارج "ميثاق كيوتو"ومن هم داخله... انهم لم يتفقوا لا على الوسائل ولا على الحلول ولا على الاهداف الآيلة للحد من انتشار الغازات المسببة للاحتباس الحراري". وعلّق المندوب الايرلندي بالقول:"يبدو اننا ننتقل هكذا من تفاوض الى تفاوض آخر بلا نتائج مرضية". حلف من"العصاة" بموازاة"اتفاقية كيوتو"، انجزت الولاياتالمتحدة بالتعاون مع كل من اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية واستراليا اتفاقية سمّيت"شراكة آسيا والمحيط الهادئ من اجل التنمية النظيفة والمناخ". وتعتمد اساساً على التقدم التكنولوجي السائد في هذه الدول، علماً انها اكثر الدول تلويثاً للبيئة و مسؤولة عن انبعاث نحو نصف الغازات المسببة للاحتباس الحراري في العالم اميركا وحدها مسؤولة عن نحو 25 في المئة منها . وتشير اميركا الى ان اعتمادها على ما تملكه من وسائل تكنولوجية متقدمة خفض من انبعاث الغازات المسببة لارتفاع درجة حرارة الارض بنسبة واحد في المئة في حين ان كندا مثلا وهي عضو متحمس لاتفاقية كيوتو كانت وعدت بخفضها بنسبة 6 في المئة بحلول العام 2010 الا ان انتاجها من تلك الغازات قد تزايد بنسبة 25 في المئة عما كان عليه عام 1990. خلافاً للاجواء التشاؤمية التي رافقت انطلاقته، تمكن المؤتمر من استيعاب بعض المسائل الخلافية واحتوائها. واستطاع الانطلاق الى البحث في ما تتضمنه اجندة المؤتمر من موضوعات مثل اتفاق المؤتمرين على تجنب ما اسموه"القنبلة المتأخرة" Delayed Bomb المتمثلة في الارتفاع التدريجي لحرارة الارض ارتفعت خلال القرن المنصرم الى نسبة 0،60 درجة مئوية والتي يخشى ان تصل الى حدود درجتين مئويتين الامر الذي يشكل"حالة كارثية"تصيب الحياة الانسانية الحيوانية والنباتية والبيئية بحيث لا تنجو من آثارها اي من دول العالم. وجاء هذا الاتفاق بعد عرض قدمه"الصندوق العالمي للحياة البريّة"world wildlife fund يقضي بخفض انبعاث الغازات المسببة للانبعاث الحراري خلال ال 15 عاماً المقبلة. وفي سياق مواز، نظم اتحاد النقابات العمالية والمهنية الكندية تظاهرة صاخبة طالبت بوضع استراتيجية تقضي بخفض انتاج الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 60 الى 80 في المئة حتى العام 2050. واطلقت حملة وطنية اعلامية وتثقيفية ترمي الى الحفاظ على البيئة تحت شعار"نحو حياة وردية". ويبدو ان الانطباع السائد لمتتبعي اعمال المؤتمرلا يوحي بنجاحه وحسب وانما بخروجه بقرارات وصفها بعضهم بانها"ثورية"!.