قبل 50 سنة، وبالتحديد في أيار مايو 1955، بدأت مصفاة الدورة في بغداد بالعمل وبطاقة 25 ألف برميل في اليوم. ولم تكن هذه طاقة صغيرة بمقياس المنطقة في تلك الأيام. وكانت هذه المصفاة الأولى التي تملكها حكومة العراق وتشغلها، وأعقد مشروع صناعي فيه في ذلك الوقت حيث لم يكن هناك حتى محطة كهربائية حديثة، ما أدى إلى قيام المصفاة بتوليد الكهرباء ذاتياً. وقبل ذلك اعتمد العراق بصورة عامة على تجهيز المنتجات النفطية من مصفاة صغيرة الوند تقع قرب الحدود مع إيران كانت بنيت في 1924 وكذلك على وحدات تكرير اصغر تعود لشركات النفط إضافة إلى استيراد منتجات أخرى من عبادان حيث كانت فيها اكبر مصفاة في المنطقة في ذلك الوقت. واليوم تبلغ طاقة التكرير في مصفاة الدورة 110 ألف برميل في اليوم. وعلى مدار السنين حدثت توسعات عدة وأضيفت مجموعة من وحدات التشغيل لتحسين نوعية المنتجات وإنتاج أنواع عدة من الوقود واكثر من 120 ألف طن في السنة من زيوت التزييت و300 ألف طن في السنة من الإسفلت. وليس هناك أدنى شك في أن اكثر من بليون برميل من النفط الخام قد مرت عبر هذه المصفاة التي ما زالت تشكل جزءاً مهماً من صناعة التكرير في العراق. ومن الصعب التقليل من أهميتها بالنسبة الى الاقتصاد العراقي حتى بعد تشغيل مصفاة البصرة 160 ألف برميل في اليوم في 1972 أو مصفاة بيجي 310 آلاف برميل في اليوم في 1982. ومن الطبيعي أن تكون مصفاتا البصرة وبيجي اكثر تطوراً ولكن الدورة بقيت مصدراً للإلهام والمعرفة. وعندما بدأت المصفاة بالعمل لم يكن في العراق ما يكفي من المهندسين والفنيين المتخصصين واضطرت الحكومة لتوقيع عقد تشغيل مع شركة أميركية قامت بإنهاء العقد بعد ثورة 1958 لأسباب سياسية. وكان العراق زج بما استطاع من العراقيين من أي خلفية علمية ممكنة وبخاصة من المهندسين والكيماويين والفيزيائيين للتدرب والاستعداد لتسلم المصفاة مستقبلاً. ولاندهاش الكثيرين وخلال فترة قصيرة بعد مغادرة الأميركيين العراق، تمكن العراقيون ليس من تشغيل المصفاة فحسب وإنما قاموا بتشغيل توسعات كبيرة كانت على وشك الاشتغال في 1959. وهكذا أصبحت مصفاة الدورة رمزاً للتحدي الذي سيواجه الصناعة مستقبلاً وازداد من خلال ذلك دعم الحكومة لها. وأصبحت الدورة مدرسة، خصوصاً لعمليات معالجة النفط والغاز. وكان هناك دائماً عدد من المهندسين والفنيين قيد التدريب لمشاريع أخرى. وكانت المصفاة دائماً في المقدمة لمساعدة صناعات أخرى في أعمال الصيانة والفحص الهندسي والخدمات الأخرى. وتحملت بشجاعة تشغيل مصفاة البصرة في 1972 من خلال نقل عناصر حاكمة لإدارة المصفاة الجديدة وتدريب المشغلين وفنيي الصيانة وحدث الشيء ذاته في تشغيل مصفاة بيجي في 1982 ولكن بمساعدة كبيرة من مصفاة البصرة أيضاً هذه المرة. قد تكون مصفاة بعمر 50 سنة أثرية إن صح التعبير. ولكن الوضع في العراق وكون البلد قد مر بمراحل طويلة من الحرب والحصار وتوقف الاستثمار والاحتلال قد جعل استمرار اشتغال هذه المصفاة ضرورة قصوى. وليس هناك شك في أن الوقت سيحين لاتخاذ القرارات اللازمة لتحديث المصفاة أو لإخراجها تدريجاً من العمل وبخاصة بعد إنشاء مصاف جديدة وتشغيلها. ولأسفي أرى أن المصفاة ستتوقف عن العمل في وقت ما وبخاصة أنها الآن قريبة من وسط بغداد وإحيائها السكنية. وفي أيار مايو 1980 احتفلت المصفاة في شكل مبهر بيوبيلها الفضي. واستمرت احتفالاتها على مدار أسبوع بما في ذلك مؤتمر فني لمدة ثلاثة أيام دعيت إليه كل الشركات التي ساهمت في إنشاء مرافق المصفاة وتحديداً ممثلين عن الشركة المقاولة الأولى. واهتمت الصحافة المحلية بهذا الحدث واستطلعت بصورة خاصة مشاعر أولئك المنتسبين الذين عملوا في المصفاة منذ إنشائها في 1952. كان بعضهم فلاحين من المزارع القريبة من المنطقة والذين اشتغلوا أولاً بأعمال بسيطة ثم تحولوا إلى مشغلين أو فنيي صيانة. أما اليوم وبمناسبة اليوبيل الذهبي للمصفاة وفي وقت يكون العراق بأمس الحاجة لها فليس هناك من يحتفل على حد علمي وأن المناسبة ستذهب من دون أن يحس بها أحد. فمن سوء الحظ أن الوضع العام في العراق وبخاصة تردي الأوضاع الأمنية إضافة إلى الهبوط العام في أحوال الصناعة بعيد الغزو والاحتلال... لا تدعو إلى تذكر هذه المناسبات الجميلة بل اعتبارها نوعاً من الترف الذي لا يجرؤ أحد على التفكير فيه. وقال لي بعض الأصدقاء"عندما يحترق بيتك فإنك لا تجلس لكتابة الشعر". هؤلاء الأصدقاء على حق، ولذلك فإن هذا العمود تحية إلى مصفاة الدورة والمنتسبين إليها وما دربته وعلمته من قادة الصناعة في العراق والذين خدموا بلدهم ومهنتهم بإخلاص. إنني أتشرف وأفتخر بأنني كنت واحداً منهم. * خبير سابق في وزارة النفط ومدير سابق في قسم دراسات الطاقة في الأمانة العامة لأوبك