الى سيادة وزير الإعلام في جمهورية مصر العربية حتى لو سلّم العلماء، لصاحب النظرية اللغوية، بأن نظريته قد خلعت ثوب الافتراض، وغدت حقيقة لا تُشاب، فإنه، لتعلق بها يشبه الوجد، لا يكف عن رصد الشواهد، لمزيد من الاثبات.كذلك كان شأننا، ولا يزال، مع عقلنة اللغة ما نسميه، نحن،"عقلنة اللغة"، ونظرية طرحنا بها العقلنة، وكلمة كالشعار، عبّرنا بها عنها، أرسلناها في الناس، من أمد غير قريب، عنواناً لكتاب. اننا، على رغم يقيننا بأن اللغة ليست عقلاً، من أدنى مستوى للتركيب تقوم اللغة عليه، مستوى الكلمة المفردة، الكلمة خارج الكلام، الى أعلى مستويات التركيب، مستوى العبارة phrase sentence، وعالم للعبارة يستأثر بإدراكه الحسّ، ويرتد عنه العقل وهو حسير. على رغم أن عملية انشاء الكلام وتلقيه، في مجمل تخرج منه التفاصيل، عملية حدسية، تندرج في العادات، وان تميزت منها، وأن عقلنا المفكر المحلل، عند قيامنا بها، يكون منصرفاً عنها، مشغولاً بمضمون الكلام. اننا، على رغم مما قدمنا، لا نكف عن رصد الكلام، ولا نكون قادرين، أمام الشواهد الماثلة فيه، أن نشيح عن كل جديد يغني النظرية، ويعمق فهمنا لها، ويعزز تمسكنا بها. * أغرب شاهد استوقفنا، من شواهد العقلنة، وفرض نفسه علينا، وأغرانا بالخوض فيه: عناوين معقلنة، تختتم بها نشرات الأخبار في الاذاعات المصرية، تركيبها يخالف أبرز قاعدة من قواعد العناوين المنعقدة بمركب إسنادي يشكل الفعل أحد ركنيه، قاعدة حدسية صارمة، تُطبق في الاعلام الإخباري، وتطبق في سواه، تطبيقاً عفوياً سليقياً لا يلحن فيه الا من يقحم عقله فيه. موضوع القاعدة: رتبة الاسم والفعل، في كل عنوان اخباري، أو غير اخباري، ركناه الأساسيان اسم وفعل يترابطان ترابط مسند ومسند اليه. مضمونها: حكمان متكاملان: * أن يتقدم الاسم على الفعل، تقدماً مطرداً واجباً لا يقبل الاستثناء، به دون سواه، تتكون عنوانية العناوين المنعقدة باسم وفعل يترابطان ترابط مسند ومسند اليه. * أن يكون الفعل مضارعاً، كائناً ما كان الزمن الذي يدل عليه، مع جواز كونه ماضياً اذا دل على الماضي، جوازاً نوضح منه أمرين: - الأول: أن المضارعية حالة حدسية عفوية صافية، يندفع منشئ الكلام اليها، ويتماهى معها، ويتحد بها، اندفاعاً وتماهياً واتحاداً ينعدم معه التفكير. - الثاني: ان الماضوية، وان كانت حالة جائزة، وحالة مقبولة، الا ان بها، من العقلنة النافية للعفوية، أي النافية للغوية، ملامح تولد، من التفكير في زمن الحدث الذي نريد الإخبار عنه، والتفكير في شكل الفعل الذي نستعمله له، ما يشوب العفوية ويعكر لغوية الكلام. * أما تقدم الاسم على الفعل، فإنه، في العناوين السوية التركيب، المندرجة في فئة العناوين التي نحصر بحثنا فيها، حالة كاملة الاطراد، لا تقبل الاستثناء، مضارعاً كان الفعل فيها، كما يفضل أن يكون، أم ماضياً، كما يجوز أن يكون، جوازاً أوضحناه. وهذه عناوين شواهد: * قوى الأمن تطلب التحقيق في كلام جنبلاط صحفية"السفير"البيروتية، الاثنين 21/3/2005، ص 4. * بالمضارع"تطلب"، الذي أمله، على محرر الخبر، حس لا يعكر نقاءه اللغوي تفكير من العقل الغريب عن اللغة، أخبرنا عن حدث مضى وانقضى، يشير الى مضيه ويدل عليه قوله في تفصيل العنوان: - طلبت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي... * الأمن السعودي يحسم معركة القصيم "السفير"، الأربعاء 6/4/2005، ص 1. * بالمضارع"يحسم"، الذي أملاه على المحرر حسه اللغوي، أخبرنا المحرر عن حدث مضى وانقضى، يشير الى مضيه ويدل عليه: قوله في التفصيل: - أنهت قوات الأمن السعودية أمسِ... * الجزائر اقترحت تعديلات على عمل لجنة التحقيق المصدر نفسه. * لم يصغ محرر الخبر الى حسه اللغوي، الذي أملى عليه المضارع"تقترح"، املاءً لا شك فيه، بل أصغى الى عقله، ونظر الى عملية تشكل الكلام بمنظار هذا العقل، فرأى ان حدث الاقتراح، المسند الى الجزائر، قد جرى في الزمن الماضي، فقرر استعمال الماضي"اقترحت". وعلة ذلك البسيطة، الضاربة في الأعماق، جهله لحقيقة اللغة وحقيقة العقل، وقصوره عن أن يبصر الخط الفاصل بين اللغة والعقل. ولو أنه علم، هو وسواه من المعقلنين، أن اللغة لغة لا عقل، أن منطق اللغة مختلف عن منطق العقل، وقليلاً ما يتفقان، لأصغى الى حسه اللغوي، وأشاح عن عقله الممنطق، واستعمل، في مثل هذا العنوان، مضارعاً يخبر به عن الماضي. في كتاب لنا يصدر قريباً عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - بيروت، عنوانه:"قواعد فاتت النحاة"، فصل عن زمن الفعل العربي يشكل سياقاً لما نحن فيه، يحسن الرجوع اليه. * وأما مضارعية الفعل، في فئة العناوين التي نحاول دراستها، فإنها، كما قدمنا، حالة حدسية عفوية، حالة لغوية صافية، لا يخرج المنشئ منها الى الماضوية، في الإخبار عن الأحداث الماضية، الا اذا فكر في شكل الكلام الذي يصدر عنه، الا اذا اقحم عقله الممنطق في شأن من شؤون اللغة لا دور للعقل فيه. وهذا في العناوين التي نحن في صددها على التحديد، أمر نادر الوقوع، لا نراه يصدر الا عن غلاة المعقلنين، الذين يجهلون حقيقة اللغة، أي لغويتها، الكامنة، كالأسرار، وراء الصرف والنحو والاملاء، فيعمدون الى العقل يُحكّمونه فيها، ولا يستطيعون أن يتصوروا، برؤيتهم اللغوية غير اللغوية، أن فعلاً مضارعاً يندرج في العناوين التي نحن في صددها، ولا تنص عليه القواعد المدرسية التي تعلموها، هم وأساتذتهم القاصرون، في كتب القواعد البائسة، يمكن أن يدل على الزمن الماضي. * في سياق منسوج مما تقدم، نعود الى الشاهد الغريب، الذي دفعنا الى الموضوع، لننظر في غرابته التركيبية، وغربته عن الأصول الثابتة، التي تخضع لها رتبة الاسم والفعل في كل عنوان ينعقد باسم وفعل يترابطان فيه ترابط مسند ومسند اليه. من المعلوم: ان العناوين التي تُستهل بها نشرات الأخبار الاذاعية، في الوطن العربي على الأقل، تكون هي نفسها التي تختتم بها هذه النشرات. بالمضمون تكون هي نفسها وباللفظ. ذلك أن العناوين هي عناوين، في المستهل كانت أم في الختام، واحساس العنوانية، الذي تقوم به العناوين، يبقى هو اياه، كائناً ما كان موقع العناوين: لأن العناوين، من جهة التركيب لا من جهة المعنى، بُنى مستقلة، فلا أثر لسواها في التركيب الذي تقوم عليه. نشرات الأخبار التي تقدمها الاذاعات المصرية شيء آخر، يخالف هذه القاعدة مخالفة صارخة تثير الاستهجان. * في مستهل هذه النشرات، تكون العناوين عناوين سوية، تراعى فيها قاعدة العناوين، الاخبارية وغير الاخبارية، التي تنعقد باسم وفعل يترابطان ترابط إسناد، مراعاةً كاملة، يتقدم معها الاسم على الفعل، ويكون الفعل معها مضارعاً في الغالب، وإن دلّ على الماضي. وهذا عنوان به ايضاح لما نقول واثبات، استخرجناه من نشره أخبار بثتها اذاعة القاهرة، الساعة الحادية عشرة ليلاً، بالتوقيت المحلي، من يوم الأحد 3/4/2005. - الرئيس حسني مبارك يبحث، في اتصال هاتفي أجراه مع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط. في تفصيل الخبر سمعنا:"بحث الرئيس حسني مبارك...": فعل ماضٍ انعقد به الكلام، أي أن المضارع"يبحث"، المستعمل في العنوان الوارد في مستهل النشرة، يدلّ على الزمن الماضي دلالة تولدها عنوانية العنوان. والعنوانية معنى تركيبي يفرز شكل العنوان، ويملى تقدم الاسم فيه على الفعل إملاء مطلقاً، كما يملى مضارعيته املاء غالباً، ويكون ذلك في كل عنوان ركناه الأساسيان اسم وفعل يترابطان فيه ترابط مسند ومسند اليه. * وفي ختام النشرة، تُغير العناوين، فتصبح عناوين غير سوية: لأنها تخالف القاعدة المطروحة مخالفة صارخة، حُوِّل معها ترتيب ورود الاسم والفعل، من ترتيب عفوي حدسي طبيعي أصولي، الى ترتيب غير عفوي وغير حدسي وغير طبيعي وغير أصولي، قُدم فيه الفعل على الاسم، وحُول فيه المضارع الى ماضٍ، لأسباب لا نعلمها، أسباب غير لغوية بالتأكيد، كامنةٍ في عقل المحرر، أو عقل المستشار اللغوي للصحيفة. ويحس من يستمع الى هذه العناوين أن ما يسمعه نغمة نشاز. بهذا التحويل، أصبح العنوان الذي نستشهد به: - بحث الرئيس حسني مبارك... بتقديم الفعل على الاسم، تقديماً لا يرتكبه الا غريب عن حقائق اللغة النظرية، متطفل عليها، متدخل في الشؤون الداخلية للكلام، تقديماً كفّ العنوان به عن أن يكون عنواناً في حسّ من يتلقاه. ولا يُسوِّغ هذا اللحن التركيبي الصارخ، أو يبرره، أو يستر عورته المكشوفة، أن نغير تسمية العناوين، عند نقلها من مستهل النشرة الى ختامها، لنقول عنها: انها"ملخص لأهم الأنباء التي وردت بها". ان تغيير الأسماء لا يغير المسميات. ونطلب مزيداً من الإثبات الموضح، فنقدم عنوانين آخرين من عناوين النشرة، نعرض كلاً منهما كما ورد في مستهلها، ثم نعرضه كما ورد في ختامها، لنعاين، بالمحسوس، ما تفضي اليه هذه الهرطقة اللغوية، وهذا التدخل في شؤون اللغة، من تحويل للعناوين يحدث فيها تشويهاً تركيبياً تكف معه عن أن تكون عناوين. ويكون ذلك لمجرد نقلها، في النشرة، من موضع الى سواه، ومن دون أن يمس هذا النقل استقلالها التركيبي السانتاكسي، الذي وحده يحدد شكلها، ووحده يملي تقدم الاسم فيها على الفعل، لتكون عناوين. انها، حقاً، هرطقة لغوية، لكنها هرطقة مضحكة، مصدرها الذي لا نرتاب فيه: جهل لحقيقة اللغة المجاوزة لقواعد الصرف والنحو والاملاء، جهل مستغرب مستنكر، ما أكثر اللغويين الذين يصدر"علمهم"عنه، في عصر يتوافر العلم فيه، توافر الظلم والطغيان. العنوان الأول، في مستهل النشرة: * الرئيس مبارك يستقبل وزيري الخارجية السعودي والفنلندي، ويجري غداً مباحثات مع العاهل البحريني... يُنقل هذا العنوان من مستهل النشرة الى ختامها، فيحوَّل المضارع"يستقبل"الى الماضي"استقبل": لأن حدث الاستقبال حصل في الماضي، ويبقى المضارع"يجري"مضارعاً: لأنه لا يدل على الماضي، ويصبح العنوان، بهذا المنطق العقلي، الدخيل على اللغة: - استقبل الرئيس مبارك وزيري الخارجية... البقية حرفياً. العنوان الثاني، في مستهل النشرة: * زعماء الكتل الرئيسية، في البرلمان العراقي، يتفقون على اعلان اسم الرئيس الجديد ونائبيه ورئيس الحكومة... يُنقل هذا العنوان من مستهل النشرة الى ختامها...، فيصبح: - اتفق زعماء الكتل الرئيسية في البرلمان العراقي... البقية حرفيّاً. * إنهم، بتصور عقلي مُحير لم يلح منه مضمون، وبقرار اداري لا يُرد، مبني على هذا التصور، بعيد من اللغة وحقائقها، قرروا، ذات يوم، في جمهورية مصر العربية، تحويل بنية العناوين السوية، الواقعة في مستهل نشرات الأخبار الاذاعية، الى بنية غير سوية، لمجرد نقل هذه العناوين من موقع، في النشرة، الى سواه، ثم اعتمدوا ذلك وعمموه، واتخذوا منه منهجاً ساروا عليه، مقدمين، بهذا الصنيع المستهجن، لنا وللمعنيين من الباحثين، شاهداً صارخاً يتسم بالطرافة المضحكة، شاهداً من شواهد العقلنة، عقلنة اللغة المتجسدة بعقلنة الكلام، التي يلوح لنا تشبيهها بالفيروسات، والتي ما زلنا، في أبحاثنا، نجري في مدارها، ونحذر من آثارها، ونُظهر ما تحدثه، في الوجه الوضيء، من لطخٍ لا تليق الى سواه، ثم اعتمدوا ذلك وعمموه، واتخذوا منه منهجاً ساروا عليه، مقدمين، بهذا الصنيع المستهجن، لنا وللمعنيين من الباحثين، شاهداً صارخاً يتسم بالطرافة المضحكة، شاهداً من شواهد العقلنة، عقلنة اللغة المتجسدة بعقلنة الكلام، التي يلوح لنا تشبيهها بالفيروسات، والتي ما زلنا، في أبحاثنا، نجري في مدارها، ونحذّر من آثارها، ونُظهر ما تحدثه، في الوجه الوضيء، من لُطخٍ لا تليق. وتتسع معرفتنا لغرابة الشاهد، ويتعمق فهمنا للحالة المنعقدة به، اذ قارنا العقلنة المولدة لها، بالعقلنة المولدة لحالات أُخر. * من هذه الحالات، نختار حالة اكتساب المضاف، من المضاف اليه، جنسه مثلاً، وهي حالة معروفة، طرحها سيبويه، وقعّدها تقعيداً مبتسراً، لا جامعاً كان ولا مانعاً. وقد تصدينا، نحن، للظاهرة، فدرسناها دراسة مركزة موسعة، أدرجناها في كتاب"اللغة ليست عقلاً"، وهذا شاهد من شواهد العقلنة التي تقمع الحس اللغوي، وتحول دون الاكتساب: - ولسوف ننتظر القرن التاسع عشر حتى نرى الى بعض الآذان وهو يعير السمع لمقولة التغيير "النهار"البيروتية، عدد 5/3/86، ص 9، عمود 6، فقرة 4. نقرأ هذا الشاهد فندرك: أن صاحبه، الذي لا يميّز اللغة من العقل، لم يحتكم الى حدسه اللغوي، الذي به أحس أن المركّب الاضافي،"بعض الآذان"، مركّب مؤنث، في السياق الذي اندرج فيه، بل احتكم الى عقله، الذي استحضر له قاعدة كتبية مبتسرة، هي أيضاً معقلنة، تقول له، في ما تقول:"ان اكتساب المضاف، من المضاف اليه، تأنيثه أو تذكيره، أمر جائز، الا أن مراعاة لفظ المضاف، أي جنسه، أولى"، فيمتثل لما قرأ، ويكون لنا، نحن، من هذا الامتثال، أن نفهم، بسهولة ويسر، حقيقة العقلنة التي أُخضع لها الشاهد، ونفهم أساساً لها قامت عليه. * أما الشاهد الغريب، المتسم بالطرافة، الذي يتمحور بحثنا عليه/ أما العقلنة التي أُخضع لها الشاهد، فإنها عقلنة لم تعهد، عقلنة غير عقلية، كدنا نقول. نحن لم نفهم لماذا قرر المسؤولون، في الاذاعات المصرية، في يوم من الأيام، أن تحول العناوين التي تُستهل بها النشرة، السوية التركيب، التي تفهم منها العنوانية، الى عناوين غير سوية، يسقط منها معنى العنوانية، لمجرد نقلها من المستهل الى الختام. اذا كانت العقلنة، التي تقوم على أساس لغوي نستطيع فهمه، لكننا، لغوياً، لا نستطيع قبوله، كالعقلنة التي أخضع لها الشاهد السابق، اذا كانت هذه العقلنة تعسفاً يلطخ وجه الكلام، فما عسانا نقول عن عقلنة يقدم بها الفعل على الاسم تقديماً مقسوراً تسقط به عنوانية العناوين؟ ان لنا، من الثقة بالعارفين من علماء مصر الأجلاء، ما يجعلنا نوكل اليهم مهمة الاجابة عن هذا السؤال. وختام به كلمتان: الأولى: ان الاذاعات المصرية تنفرد، بين الاذاعات العربية كلها، بما بيناه من تركيب ملحون، انفراداً تبرز دلالته وينكشف عيبه، اذا تذكرنا ان اللغة مؤسسة اجتماعية، لا مكان فيها للانفراد. الثانية: حقيقة لغوية تندرج في الكليات، واجبٌ أن يعيها كل من خط كلاماً في قرطاس، على أي مستوى وفي أي موضوع، مضمونها الملابس للبديهيات: أن اللغة ليست عقلاً. أكاديمي وباحث لغوي لبناني.