نحيا في عصر العولمة. الشبكة الالكترونية تربط العالم بعضه ببعض. يتحول العالم الى بيت عنكبوت، الى قرية صغيرة. وفي هذه القرية الكونية يتابع الأدباء تأليف الكتب. كيف تؤثر وسائل الاتصال الحديثة والمعرفة المعممة عبر الانترنت في كتابة المستقبل؟ غيرت ثورة تكنولوجيا المعلومات مفهوم الكتابة. غادر مفهوم الكتابة التصور الرومانسي القديم الذي يربط الكتابة والإبداع بتوحد الكاتب وقدرته الخلاقة على الكتابة. إن الكاتب في عصر الاتصالات هو القادر على الافادة من الكم الهائل من المعارف والمعلومات، الذي ينهمر علينا عبر وسائل الاتصال السريعة، أو ما يسمى"الطريق السريع للمعرفة والمعلومات"Information Super-Highway. وهذا ما يجعل الكتابة أقرب إلى التناص وتفاعل المواد الواردة إلى الكاتب عبر وسائل الاتصال السريعة التي تزود الكاتب، وهو جالس وراء شاشة حاسوبه، بالمعارف التي يبحث عنها على شبكة الإنترنت أو في مراكز البحث أو المكتبات العامة الضخمة، أو بنوك المعلومات، أو الأرشيف الضخم الذي تمتلكه الصحف والمجلات ويكون متاحاً، مجاناً أو من خلال دفع مبالغ زهيدة من المال، لاستعمال جمهور الباحثين والكتاب والمتعطشين للمعرفة بعامة. البشرية لم تمر في تاريخها بمثل هذا التحول في معنى المعرفة، وأشكال تداولها وتنوع مستخدميها وتباعد أماكن سكنهم وإمكان حصول اتصال بينهم أو حدوث حوار خلاق بينهم، في الوقت الذي يجلس كل منهم في مكتبه أو غرفة نومه أو يستقل وسيلة نقل عامة. إن بمقدورنا الآن الاتصال عبر شبكات الإنترنت والأقمار الاصطناعية، ومن خلال الحواسيب النقالة، ببعضنا البعض، كما أن في إمكان الباحثين والمؤلفين الكتابة والقيام بالبحث باستعمال شبكة الإنترنت من دون الاضطرار لتضييع الوقت في وسائل المواصلات والأماكن العامة، والانقطاع عما يشغلهم من بحث أو كتابة. وإذا كان بإمكان مراسلي المحطات الفضائية والأرضية أن ينقلوا الأحداث عبر الشاشات الصغيرة لهواتفهم النقالة فإن الكاتب والصحافي سيختصران الكثير من الوقت، من خلال الخدمة نفسها التي تتيحها شركات الهواتف النقالة وشبكات الإنترنت، وبإمكانهما كذلك أن يزيدا إنتاجهما ويواصلا عملية الإنتاج من دون توقف. فإذا كنت الآن قادراً على كتابة مقالتي أو بحثي وتحريرهما، خلال فترة زمنية قصيرة، ثم بعثهما من مكتبي أو بيتي إلى الصحيفة أو المجلة أو الجهة التي سينشران فيها، فإن الفضاء المغلق الذي يستعمله الكتّاب سوف لا يكون ضرورياً في المقبل من الأيام لأن ثورة الاتصالات العارمة التي تجتاح الكون ستسهل علينا ذلك من خلال المزاوجة بين خدمة الهواتف النقالة والإنترنت. ما يهمني التنبيه إليه في هذه السياق هو التشديد على أن ما توفره ثورة تكنولوجيا المعلومات، من خلال الإنترنت، تلك الشبكة العنكبوتية الهائلة من المعارف الإنسانية المتنوعة بخيرها وشرها، يقلب تماماً مفهومي الحقيقة والخيال، وما يسمى الواقع الافتراضي Virtual Reality يصبح واقعاً فعلياً منظوراً على الشاشة، حيث يتحول الخيال إلى حقيقة، ويصبح التمييز بين هذين المفهومين أمراً صعباً ومعقداً، لأن حقيقة المعلومات والصور والأصوات السابحة عبر الشاشات ليست أقل واقعية من الحضور الفيزيقي للبشر والأشياء خارج شاشات الحاسوب. وبهذا المعنى فإن مستخدمي الحاسوب وشبكة الإنترنت يتعاملون مع ما يرونه على شاشات حواسيبهم بصفته واقعاً فعلياً لا يختلف بالنسبة اليهم عن الحضور الحميم للبشر والموجودات في الحياة اليومية. وسيقود هذا الفهم الجديد للحقيقة والخيال إلى خلخلة مفهومي المكان والزمان التقليديين، ويدفع الإنسان المعاصر إلى إعادة تقويم هذين المفهومين اللذين حكما وجوده وصلته بالأشياء من حوله. تؤثر هذه الخلخلة لمفهومي الزمان والمكان في تصورنا للكتابة والخلق والإبداع، كما تنسف الطرائق المتداولة للحصول على المعلومة وطبيعة تحليل أبعادها وأشكال بثها، كما تهدد أشكال النشر الورقي، من كتب وصحف ومجلات وموسوعات ومعاجم، في المستقبل، حيث تتراجع الآن في العالم كله أرقام توزيع الصحف والمجلات، وتفضل دور نشر الموسوعات والمعاجم أشكال النشر الإلكترونية المختلفة، من أقراص لدنة وشبكة إنترنت، على أشكال النشر الورقية التي تراجع استعمالها إلى حد كبير، ولربما يؤدي هذا إلى اختفاء الكتاب والصحيفة الورقية في العقود المقبلة، وتغير مهنة الكاتب لتتواءم مع وسائل الاتصال التكنولوجية الحديثة. لكن لا شك في أن هذا التطور الهائل في شبكة الاتصالات، وأشكال بث المعلومات والتقاطها، قد انعكس على صورة العالم من حولي، كما أثر عميقاً في طريقة إدراكي للوجود، وجعلني أشعر بأنني جزء من عالم واسع يبدو على مسافة لمسة إصبع للوحة مفاتيح الحاسوب أمامي. لقد فقد الكاتب، والإنسان عموماً، حميمية العلاقة بالكتابة، وتقلص الخيال وتبدل موقعه مع الحقيقة، لكن ذلك قلص المسافات وجعل المعرفة والكتابة عملية جماعية يشترك فيها كثير من البشر الرابضين أمام حواسيبهم على وجه الكرة الأرضية، في المدن الكبرى والقرى الصغيرة في هذا الكون المعولم. تؤثر وسائل الاتصال الحديثة على اسلوب الابداع الفني ادباً ورسماً. ويصدق الأمر نفسه على الابداع الموسيقي الذي يستطيع استخدام الحاسوب، وتكنولوجيا المعلومات، ليحصل على أنغام وتوافقات صوتية ما كان له أن يحصل عليها باستخدام الطرق التقليدية المألوفة في التأليف والتوزيع الموسيقيين. بالمعنى السابق تصبح التكنولوجيا عوناً للمبدع على تطوير إبداعه وصقله وتهذيبه والوصول به إلى ذرى جديدة. صحيح أن الأشكال التقليدية من الإبداع تتراجع لتحل محلها أشكال جديدة منه، كما تحل منظورات عصر تكنولوجيا المعلومات، وعصر الفضائيات، محل المنظورات التقليدية للعالم. لكن ذلك الأمر متوقع على خلفية التطورات الحاصلة في كل عصر، فالشعر كان النوع المهيمن في عصور سابقة، ثم حلت محله الرواية في العصر الحديث، ويبدو أن السينما والروايات التلفزيونية قد انتصرت على الأنواع الأدبية المكتوبة الآن. ولربما تظل الرواية قادرة على العيش بسبب إمكان تحويلها إلى شريط سينمائي ومسلسل تلفزيوني. قد ينظر البعض إلى التكنولوجيا في الحال السابقة بصفتها شراً يلحق الضرر بالإبداع الإنساني، وذلك بسبب إحلالها أنواعاً أدبية وفنوناً شعبية الطابع، يزجّي بها الناس وقتهم، محل أنواع أدبية عظيمة تختزل التجارب الإنسانية وتكثفها الشعر، الرواية، المسرح. لكن هذه النظرة تلغي ما تملكه السينما، وكذلك التلفزيون، من طاقات إبداعية مذهلة، من خلال استخدام الصورة والصوت والموسيقى وأشكال المزج والتركيب، تعجز عن تحقيقها الأشكال المألوفة في الأنواع الأدبية والفنية التي ما زالت تصنف في رأس مراتبية الهرم الإبداعي. ومع ذلك، فإن التكنولوجيا المتطورة تقلص الخيال لأنها قادرة على تحويل الخيال إلى حقيقة قريبة من رؤوس الأصابع. إنها تربط مستخدمها بأقصى نقطة يحلم بالوصول إليها. تقربه من المكتبات البعيدة، والأفلام المنتجة حديثاً، ودور عرض اللوحات والمنحوتات في أقصى أطراف الأرض، ومن الصحف والمجلات الصادرة للتو في عواصم بعيدة. كل ذلك ينتقل إلى المرء في دقائق معدودات بنقرة من أصابعه على لوحة مفاتيح الحاسوب أمامه. إن الإبداع، في هذه الحال، يجتاز منعطفاً شديد الخطورة، ويمر بعملية تحول معقدة تحكم علاقته بالفضاء المكاني والزماني الذي يغلف البشر والكائنات والموجودات الأخرى. ونحن العرب، وإن كنا نعيش على ضفاف ثورة تكنولوجيا المعلومات المتسارعة، إلا أن الطبيعة الشمولية لهذه الثورة تؤثر فينا بصورة من الصور. ولا أظن ان مبدعاً عربياً يمكنه أن ينجو من مد هذه الثورة الكاسحة الشديدة التأثير. فهي تؤثر عبر تغيير أشكال الحصول في المعلومة وأشكال بثها، كما تؤثر عبر نشر التقنيات وتبادل التفاعلات بين المبدعين من جنسيات مختلفة. ويمكن القول إن تمدد ما يسمى بالفضاء التخيلي Cyber Space، عبر شبكة الإنترنت، واتساع هذا الفضاء إلى مَدَياتٍ يصعب ضبطها والسيطرة عليها، قد خلق عالماً جديداً يظهر أمام ناظري مستخدم الحاسوب عندما ينقر لوحة المفاتيح ليتصل بهذا العالم المصنوع من الكلام والصور والأصوات السابحة بين الشاشات في طول العالم وعرضه. الأراضي المحتلة المشكلة التي تواجهنا، في ما يتعلق باستقبال المعرفة واستخدامها، تتمثل في سؤال: من يصنع المعرفة، ومن يوجهها. إن المادة المعرفية التي أستطيع الحصول عليها بسهولة على شبكة الإنترنت مكتوبة باللغة الإنكليزية أساساً، إذ أن حظوظ اللغات الأخرى أضعف، فيما حظ اللغة العربية بائس إذا قورن بلغات مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية. وهذا يعني أن صدعاً سينتاب هويتنا الكتابية بعد فترة قصيرة من الزمن لأن المادة المرجعية الأساسية مأخوذة من مواقع الميتروبول، أي العواصم الحضارية الإمبريالية السابقة نفسها، وباللغة الإنكليزية التي تتكلمها الإمبراطورية الأميركية، وتكتب وتنشر وتبث، الإمبراطورية الزاحفة إلى أطراف الأرض جميعها، ومن ضمن ذلك الأرض العربية. ولا أظن أن في مقدورنا الآن، في ضوء غياب إنتاج المعرفة في عالمنا العربي وضعف وسائل الاتصال بالقياس إلى أميركا، والغرب بعامة، الحديث عن تحصين الهوية في وجه هذا الطوفان المندفع من المعارف والمعلومات والصور ومنظومات القيم التي تدخل إلى مخادع نومنا عبر شاشات الفضائيات والهواتف النقالة وشبكة الإنترنت. إن ما يمكننا قوله بصراحة جارحة للنفس أن المستقبل محتل كما هي أرض فلسطين والعراق محتلة. ألوان الحاسوب الصافية بالنسبة إلى تأثيرات وسائل الاتصال على الأسلوب، فإن بالإمكان القول إن اختراع الحاسوب قد حقق ثورة في عالم الأسلوب، ولعل باحثاً متحمساً يتصدى لإجراء دراسة مقارنة بين أساليب عدد من الكتاب كانوا يستخدمون القلم والورقة، أو الآلة الكاتبة، ثم انتقلوا إلى استخدام الحاسوب في الكتابة، ليكشف لنا عن التغيرات والانحناءات الأسلوبية، وأشكال الغموض في الأفكار ووضوحها، التي تنتج من هذا الاستخدام. لعل البعد السابق من أبعاد تأثير التكنولوجيا الحديثة على عالم الإبداع والكتابة مُغفل في حد ذاته من التساؤل الدائم عن العلاقة بين التكنولوجيا والإبداع، ذلك التساؤل الذي يفترض في الإجابة السائدة علاقة صراعية بين التكنولوجيا والإبداع، نوعاً من التنافر بين هذين القطبين من أقطاب التجربة الإنسانية المعاصرة، فإذ تتطور التكنولوجيا ينحسر الإبداع الفني والثقافي ويتراجع إلى أركان بعيدة من مسار دوران عجلة التكنولوجيا المحمومة! لكن التجربة الإنسانية المعاصرة تثبت عدم صحة هذه الأفكار، فالإبداع الإنساني يشق لنفسه دروباً جديدة بمساعدة التكنولوجيا الحديثة، ويصبح بإمكان الرسام أن يحقق ألواناً شديدة الصفاء باستخدام الحاسوب، ويخلط ألوانه فيحصل على درجات لونية لا يستطيع، بإمكاناته البشرية، الحصول عليها.