في الأسابيع الأخيرة، بدا كأن الثقة التي يمحضها الجمهور، في العادة، للأدوية باتت موضع شكوك متعاظمة. وسادت بلبلة واسعة منشأها قرارات متلاحقة من هيئات علمية متخصصة عن بعض العقاقير، خصوصاً تلك التي تستعمل في علاج امراض الروماتيزم والتي تساعد ايضاً على تسييل الدم ومنع تخثره، مما جعلها أدوية شائعة في علاج امراض القلب وشرايينه. والأرجح ان عقار"فايوكس" Vioxx يصلح نموذجاً من تلك البلبلة، التي ما برحت مستمرة. في مهب قرارات علمية متناقضة يعتبر"المكتب الفيدرالي للغذاء والدواء" FDA في الولاياتالمتحدة، الهيئة المسؤولة اميركياً عن الرأي العلمي بصدد العقاقير، كما يوضح اسم المكتب. وفي معظم الأحيان، ينظر المجتمع العلمي في العالم الى آراء ذلك المكتب، باعتبارها مرجعية علمية حاسمة. وقبل بضعة شهور، اتخذ المكتب المذكور قراراً بخصوص عقار"فايوكس". ونصح بسحبه من الأسواق العالمية. وأشار الى مسؤولية ذلك العقار عن التسبب بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية. وتطاير رذاذ الفضيحة لتلقي شكوكاً على عقار"سيليبريكس" Celebrex، الذي تصنعه شركة"بفايزر" PFIZER الأميركية، صاحبة العقار الشهير"فياغرا". وسرعان ما تبيّن ان"سيليبريكس"مأمون، ولا يتضمن استخدامه الخطورة التي ظهرت في التقارير عن"فايوكس". وزاد في الطمأنينة عن استخدام"سيليبريكس"، نشر شركة"بفايزر"لمعلومات عن دراسة واسعة تثبت مأمونية ذلك العقار. وشارك في الدراسة 4000 مريض من جميع أنحاء العالم، ممن أصيبوا بنوبة قلبية حديثاً، وممن يعانون من التهاب المفاصل لفترة طويلة. وقوّمت الدراسة أثر استخدام العقار"سيليبريكس"على التهاب المفاصل، وعلى معدل الإصابة بحالات القلب والأوعية. ونفذت الدراسة بحيث تراعي معيار العشوائية Randomization، الذي يعتبر شرطاً اساسياً للتثبت من صحة الاحصاءات، اضافة الى اعطاء بعض المرضى دواء وهمياً Placebo، لمقارنة أثره مع فعل الدواء الحقيقي، وهذه ايضاً من الشروط المهمة في الدراسات الطبية. واستمرت الدراسة لمدة سنتين. وتضمنت مراقبة صارمة لسلامة القلب والأوعية، انجزتها لجنة مستقلة لمراقبة سلامة البيانات. ولكن الرياح لم تهب كلها من جهة واحدة. فقبل اسابيع قليلة، قرر FDA السماح باعادة تداول دواء"فايوكس"، اضافة الى السماح باستمرار بيع دوائي"بيكسترا"و"سيليبريكس". وفجرت صحيفة"نيويورك تايمز"فضيحة علمية عندما اعلنت ان عشرين عالماً، من اصل 32 ضمتهم اللجنة التي استند اليها المكتب في القرار المذكور، لديهم مصالح مادية مرتبطة بالشركات التي تصنع الأدوية المذكورة. والحال ان العلماء لم يختلفوا حول سلامة"سيليبريكس"، لكن آراءهم انقسمت بشأن الدواءين الأخيرين، مما اثار لغطاً عن كيفية الحسم في قرار كهذا! وبغض النظر عن التفاصيل، فإن النقاش انعكس سلباً على المجتمع العلمي عالمياً. وفي تصريح الى"الحياة"، أبدى الدكتور رشدي غزال، استشاري أمراض القلب في"مستشفى المملكة"السعودي في الرياض تخوفه من الوضع الراهن. واعتبر أن الترويج لقدرة أدوية التهاب المفاصل على الحد من النوبات القلبية والسكتات الدماغية، أمر ينطوي على"مبالغة"، خصوصاً بعد تجربة عقار Vioxx ."أرفض تماماً الجزم بأن مرضى التهاب المفاصل معرضون لمخاطر عالية للإصابة بأمراض القلب والأوعية، لأن مرض التهاب المفاصل له آلية مختلفة تماماً عن أمراض القلب أو الدماغ... قد تكون الالتهابات سبباً في حدوث تصلّب في الشرايين وتكوين للصفائح الدموية التي تشكل نواة الجلطات، الا انها سبب واحد من جملة أسباب من بينها الأسباب الوراثية وأمراض السكر والضغط والظروف النفسية الضاغطة". وذهب الدكتور جوزيف فيزكو، رئيس القسم العالمي لتطوير الأدوية في شركة"بفايزر"الى الاتجاه المعاكس، قائلاً:"في الحقيقة، إن مجموعة من الدراسات تقترح بأن خصائص سيليبريكس المضادة للالتهابات، إضافة إلى خصائص الدواء الأخرى، يمكنها أن تحسن الوظائف الوعائية لدى المرضى المصابين بمرض الشريان التاجي". وقد استأثر هذا الجدال بانتباه لافت من الجهات الطبية في المملكة العربية السعودية التي تحصد فيها الجلطة الدماغية 900 حالة وفاة تسجّل سنوياً، بحسب تصريحات متخصصين في"مستشفى الملك فيصل التخصصي"في الرياض. والجلطة الدماغية هي سبب رئيس للوفاة على مستوى العالم وهي تؤثر على 20 في المئة تقريباً من الأشخاص الذين يزيد عمرهم على 65 عاماً. سوابق من علم الكآبة الجدير ذكره أنها ليست المرة الأولى التي يكون فيها حديث عن أدوية مصممة لأغراض معينة تكتشف، او يروّج عن فائدتها في معالجة جلطات القلب والدماغ. فقد سبق وروّج للدواء الشهير المعروف بمكافحة الاكتئاب على انه قد ساعد على تقليص احتمالات الإصابة بأمراض القلب. وقد اكتشف العلماء هذا التأثير عندما كانوا يجرون أبحاثاً تهدف في الأساس إلى تقويم تأثير لصقات النيكوتين في منع حدوث الأزمات القلبية. وأثناء دراستهم لتأثيرات مجموعة من الأدوية المضادة للاكتئاب تعرف ب"أس أس آر آي"على المدخنين، ومن بينها حبوب"بروزاك"، تبيّن لهم أن المرضى الذين يتناولون ادوية ال"أس أس آر آي"هم أقل عرضة للإصابة بأمراض القلب بنسبة 65 في المئة. ويعلّق غزال على هذا الأمر بالقول:"هناك حاجة للمزيد من الأبحاث بهدف تقرير إن كان التأثير الإيجابي للأدوية المضادة للاكتئاب هو بسبب معالجة الاكتئاب أم لأن أدوية"أس أس آر آي"لها تأثير طبي آخر يسهم في تقليص مخاطر الإصابة بأمراض القلب من خلال تقليص مخاطر الإصابة بالتخثر الدموي، وهو ما يفعله الأسبيرين الخاص بالأطفال المعتمد منذ زمن طويل لتسييل هذه الجزيئات". ويكشف أن دراسات سابقة حذرت من استخدام مرضى القلب لأنواع أخرى من الأدوية المضادة للاكتئاب لما لها من أضرار محتملة قد تتجلّى في عدم انتظام عمل القلب وتسبب المزيد من الأزمات القلبية. الطريف في الأمر أيضاً، أن هناك دراسات بيّنت صورة معكوسة تماما لتلك التي تجرى اليوم. ففي الوقت الذي يحتدم فيه الجدال حول فائدة أدوية التهابات المفاصل لمرضى القلب والدماغ، بينت دراسات ان ادوية القلب قد تكون مفيدة لعلاج التهاب المفاصل.