زياد دلول : احتفاء بالبصر والبصيرة -1- كيف نصوّر المجرَّد؟ كيف نجرّد المُصَّور؟ أهناكَ ألوانٌ وأضواءٌ تَستَعْصي على التشكّل؟ ما الشَّيءُ،فنياً،وما الضوء الذي "يشكّله"؟ هل يمكن فصلُ الذكرى عن المخيّلة؟ عن مكانِها،وعن مناسبتها؟ هذه أسئلة قديمة تطرحها من جديد،وعلى نَحْوٍ متفرِّد،أعمال زياد دَلّول. وفي هذا يتمثّل جانبٌ من جوانب قوتها. وهي تطرحها ممزوجةً بانبثاقاتٍ،باعاداتِ تكوينٍ،بكيمياءِ مصادَفات،حيث ينبجس المعنى معنى اللون والضوء والخط في وحدةٍ من الوعي لا تتجزَّأ: وحدة التَّصوير والفكر والشعر. ولعلَّ في هذه الوحدة ما يدعو إلى السؤال: كيف نرى في اللوحة "فكرَها" أو "شِعرَها"؟ هل للعين خاصيّةٌ ذهنيةٌ فكرية؟ هل تكفي رؤية اللون والخط والضوء،أو رؤية الشكل،لقراءة ما وراء هذا كله - ما يتخطّاه،المخبوءَ،السرّي؟ هل يكفي السفَرُ في فضاء اللوحة الخارجي،لكي نكتشف داخلها - فضاءَ الهُيام والتوثبات والتوترات والتطلعات؟ وفيما نعي أَنَّ التجريد يجعل الداخل مركز الثّقل،وأنه بفعل ذلك مرتبط عمقياً بالفكر والشعر والمخيلة،نعرف أن التجربة الفنية عند زياد دَلّول ليست مجرد نظام من العلاقات اللونية-التشكيلية مع الطبيعة،وإنما هي كذلك وقبلَهُ رؤيةٌ ومشروع. رؤية فنية خاصة،ومشروعٌ جماليّ معرفيّ خاص. هكذا نعرف أن فنه دعوةٌ لا إلى اكتشاف الخارج وحده. وإنما كذلك إلى اكتشاف الدّاخل. اكتشافٌ لهذه الحركة الجدلية بين اللاّشكلي informel والشكلي formel،بين الباطن والظاهر،اللاّمرئي والمرئي. كأن في ذلك استمراراً للرؤية الغنوصية - الصوفية التي تتأصل فيها ذاكرته المعرفية. -2- الأصفر،موشحاً أومؤتلفاً متناغماً،هو البوابة التي تفتح ذراعيها للدّخول إلى اللوحة،لوحة زياد دَلّول. وفي الأصفر ما يشير إليك منذ أن تدخل إلى اللوحة،أنّه سيفتح لك أبواباً أخرى إلى مداخل أخرى. كأنه يقول لك: حدود اللوحة هي أنها تخترق حدودها. وعندما ترى إلى الأصفر مؤتلفاً،على نحوه الخاص،مع الأزرق،تشعر،في ما تنظر،كأن اللوحة تومئ لك،مغرية إياك بالذهاب في رحلة إلى ما تخبئه،إلى أعماقها. وإذ تبدأ هذه الرحلة،تشعر بأنك مأخوذ بنوعٍ آخر من اللاَّنهاية. -3- في اللون وباللَّون يترحَّل زياد دَلّول نحو الأشياء وفيها. يتنقل بين مدارجها وطبقاتها،مستشرفاً مجهولاتها. لا تكتفي ألوانه بأن تحملَ أسئلَتها إلى الطبيعة،وإنما تحمل معها كذلك قلقَ البحث. وهو قلقٌ خاصٌ يبدو فيه كأن للحاسّةِ فكراً،وكأن للمادّةِ شعوراً. هكذا تبدو كأنَّها هي نفسها مسكونةٌ بأطيافٍ من طفولته،من الحقول التي كان يستسلم لأعشابها وروائحها وغيومها،من ذكرياته وآثارها،ومن محسوساتٍ أخرى متنوعة،إضافةً إلى مناخٍ يهيمن عليها وتحسّ كأنما يَنْسرِبُ منه الهواء والماء،النار والتراب. كأنَّ لألوانه كينونةً مشخَّصة. إذ تعيد الذاكرة عناصر الحياة الماضية،وبخاصة في جوانبها الطفولية،عبر الخط واللون،الشكل والحركة،الضوء والظل،فإنها توقظ فينا الوعي أنَّ الجمال نوع من الفَيْضِ الذي يغمر الواقع،فيما يتجاوزه،وأنَّ الفنَّ يخلق بهذا الفيض عالماً أكثر واقعيَةً من الحياة نفسها. والحق أن الأمكنة التي تعكسها أعمال زياد دَلّول ليست لغة في الجغرافية،وإنما هي لغة في التخيّل والحنين والتذكر. لغةُ أحلامٍ وأعماقٍ ومشاعر. والتجربة هنا هي الأساس،لا المِنهج. المِنهج خارجي،والتجربة داخلية. بالمنهج نفكر،وبالتجربة نعيش،ونلمس،ونرى،ونتذّوق. وفي هذا ما يفسر الصلة التكوينية بين الذاتية والأشياء،بحيث تبدو الضربات واللَّمسات اللونية كأنها امتداداتٌ للمادة التي يتكون منها الجسم الإنساني. وتتجسّد هذه الصّلة في العين،بصفتها الحاسة الأكثر قدرة على استقبال الأشياء،وبصفتها،تبعاً لذلك،الأداة الأولى للذاتية في عناقها مع الأشياء. -4- الضوء،الضوء. ضوءٌ ساطع يتوهج ويتلألأ. لكنه في الوقت نفسه غريبٌ وسرّيٌّ حتى لنخالُ أَنّه من مادّة لا نعرفها. ضوء كأنه يجيء في آنٍ من الشمس والليل. ضوءٌ-جمالٌ خِلاسيّ يحاور اللون والخط،وَشْوشةً. لا نسمع هذه الوشوشة،وإنما نلمسها ونراها. وربما سألناه: ما هذه الأجسام المتفاوتة؟ أيّها اللون،أيّها الخطُّ،أيّها الشكلُّ،أيّها الظلُّ،أيّها الضوءُ؟ ذلك أنها أجسامٌ تبدو كأن لها هوية واحدة،يكسوها ويوحد بينها لهبٌ داخليٌّ يشعُّ من جمرة الخلق. وإذ تترحل معه في هذا النسيج من الألوان التي تتوازى،تتقاطع،تأتلف،تختلفُ،تتمازج،تتآخى،تتكامل،تتناغم،تشعر كأنَّك تسير داخل لوحاتهِ في طبيعةٍ ثانيةٍ داخل الطبيعة. -5- اللوحة حقلٌ،لكن بأبعادٍ أفقيةٍ وعموديةٍ. بتربةٍ بنّية محروقة. بحجارة سود بازلتيّة. بأسودَ فاتحٍ. برمادي غامقٍ. حقلٌ مفتوح. نساءٌ يتنزّهن بين الشجر،حول الشجر. المرأة طيف شجرة. الشجرة طيف امرأة. صخورٌ - سواعد وصدور. أشباح ينابيعَ وأدغال. جذوعٌ تصل الغيم بالغبار. تلال. مضايق. كروم. طيور. وثمة وجوهٌ وقامات تتداخل مع التراب ونباتاته،ومع قامات الشجر. أجسام الأشياء وأجسام البشر وبينها وحولها شلاّلاتٌ من الضوء. كأنّ الأشياءَ أشباح هي في الوقت نفسه أجسامٌ. كأنها مجازٌ وحقيقةٌ في آن. واللوحة بيتٌ - طاولاتٌ،ثمارٌ،أسرّةٌ،كؤوس،كراسٍ،مقاعد،آنيةٌ،قدورٌ،أكياسٌ - ما يستخدمه البشر في حياتهم اليومية،في بيوتهم،وما يتناثر في بيت الطبيعة. هذا كلّه على بساطٍ من الأصفر الموشح بالأسود،الرمادي،البني المحروق،الرمانيّ،العنبيّ،البصليّ،مع نقاطٍ وبقعٍ من الأزرق والخضرة. بركانٌ من الانفجارات الضّوئية. لا حنين،لا عودة. طبيعة أخرى تُخلق في سؤالٍ متواصلٍ،على الذات،على الفن،وعلى العالم. وثمة في هذا كلّه موسيقى. للتناغم فيها أطرافٌ تنتقلُ،بسحرٍ ما،من لوحة إلى أختها ممّا يُحتّم النظرَ إلى لوحاتِه بصفتها أروكسترا باذخة،لتبيّن الأبعاد التي تنتظم فيها،مقيمة في ما بينها علاقاتٍ حميمة من التكامل والتناغم. من دون هذه النظرة الموسيقية،قد يندفع الناظر بفعل التقطع والتجزؤ والسرعة،إلى أن يسمي هذا التناغم تكراراً. هذه الرؤية الموسيقية تساعد على النظر إلى ما يميل إلى التشكيل بعين التجريد،أو بعين ترى المجرد والمصوَّر في وحدة جدلية تناغمية. موسيقى ألوانٍ وأضواء وخطوطٍ كمثل هَمْسٍ أو مناجاةٍ بين الإنسان والطبيعة،بين الفن والعالم. -6- حقاً،تشير الذاكرة في أعمال زياد دَلّول إلى نوعٍ من الانفصال والبعد،وإلى نَوْعٍ من الفقدان. غير أنها تتجسَّد،في الوقت نفسهِ،في لقاءٍ وتقاطعٍ بين الزّمان والمكان،- الزمان الذي شهد ولادة الذكريات،والمكان الذي احتضنَها،بصفتها وقائعَ وأشياءَ وأحداثاً. والذّاكرة،إذاً،جسمٌ آخر ليس غريباً عن جسم الفنّان،غير أنّه جسمٌ مُلْتَبِس : هَلْ ما بقيَ من جسمه المُتَذَكَّر هو ما يتمثَّلُ في الذكريات التي تعكسها لوحاتهُ،أم أَنّ ما تعكسه يمثّل جسماً آخرَ يحتاج إلى تذكّرٍ من نَوْعٍ آخر؟ ثمّة،في كلّ حالٍ،غَصّة وحُرْقَةٌ تطرحان أسئلةً على النّاظر إليها: ما حقيقة الجسم أو حقائقه في تطوّره بين الطّفولة والكهولة؟ ما حقيقة الذّاكرة أو حقائقها؟ هل يكتمل الجسم،وكيف؟ وأين يبدأ؟ وهل يُولَدُ مراراً،أم أَنّه يُولَد مرّة واحدة وإلى الأبَد؟ في هذا كلّه ما يؤكّد أَنّ ذاكرة زياد دَلّول الفنية مستودع ألوانٍ وأضواء وخطوط. مستودع كتابات متنوعة،كثيرة،وغير مرئية. عَفْواً،يستعيد بعضها. يستعيد ما يتصل من شؤون ماضيه بشؤون حاضره. ويؤكّد من ثمّ أَنَّ ربط العمل الفني بعوالم الذاكرة،يضفي عليه معنىً خاصاً،ويضفي عليه القوة والنضارة. بهذا الربط يتخلص الفنان من قيود الواقع،من سجونه،الخاصة والعامة،التي تحاصره. ويقترب من الأماكن التي مارس فيها حرياته،أماكن الطفولة البعيدة. كأن للذاكرة هنا منظومةً من التداعيات. ليست مجرد انطباعاتٍ ضعيفة تتشابه مع الأشياء،أو مجرّد إشارات. وإنما هي أشباحُ أشياء. وهي بصفتها كذلك تبدو كأنها قوى حيّة،تتحرَّك،وتنبض. إن غضون الإنسان وتجعداته شبيهة بالأودية والمغاور التي نستطيع أن نلمس في أغوارها بقايا ذكرياته،بقايا أفراحه وأتراحه. وليس بإمكان الذاكرة أن تستعيد إلاّ هذه البقايا،وقد أعادت خلقها. إنه ماضٍ انتهى. لكن،عندما نتذكره،نبدو كأننا نحرّك النهاية،كأننا نقول لها: عودي إلى البدايات،أو كأننا نقول بلسان المتنبي: مات الموت! هكذا تقول لنا لوحة زياد دَلّول: المستقبل هو كذلك،وراءنا. وتقول لنا: يمكن أن يكون السفر عودةً. والطفولة،إذاً،ليست أيامنا الأولى،التي عشناها،وإنما هي كذلك أيامنا التي لم نعشها بعد. الطفولة هي كذلك أمامنا،لا وراءنا. وتقول لنا هذه اللوحة: المكان الذي تنتمي إليه الذكريات ينتمي إلى الزمان. غير أن هذا الزمان يتحول في إبداع الفنان،على نحوٍ مستمر. يتمثل هذا التحول في الشكل - أو بتعبير أدقّ،في الصورة. العمل هو اللّحظة التي تتكوّن فيها الصورة. وفي هذا الأفق أكاد،حين أنظر إلى أعمال دَلّول،أن أسمعَ في اللوحة إيقاعَ المكانِ والزمانِ والسفر من قاسيون والغوطة حتى سيزان والسين. -7- قلت : الذاكرة. لكن لا أعني،وهذا واضح في ما سبق،أنها ذاكرة مكانية محددة،تأسرهُ في مكانٍ محدَّد. أعني على العكس،انها ذاكرةُ انعتاقٍ وتحرّرٍ،تشدُّه إلى أثير العالم،مُحوّلةً المكان إلى نوعٍ آخرَ من الزمان،إلى أحداثٍ وتواريخ،إلى رحيلٍ ووقائعَ ومصادفاتٍ وأحلامٍ تتجاوزُ الأمكنة. اللاّمكان،إلاّ حيثُ تتنقّل الذّاكرة بهيئة الزّمن،والضّوء واللَّونُ في كلّ مكانٍ : مثلثٌ تنهض عليه العمارة التصويريّة عند زياد دلّول. لا وطنَ لهذه العمارة،والأرض كلُّها وطنٌ لها. كأنّها الأفُقُ تلقاه كيفما اتّجهتَ،وأنّى اتّجهت. وليس عمله مجرّدَ تصوير. إنه كذلك استقصاءٌ مُولَّهٌ لمعنى التّصوير،ولمعنى العالم الذي يُصوّره،ولمعنى العلاقة التي ينشئها بين العين والمادة،وبين الذاتِ والآخر. فعمله يوحّد عضوياً بين الانشغالِ بالتصوير والانشغال بالعالم. متعة البصَر تقترن عضوياً بمتعةِ البصيرة،والرؤية والرّؤيا لا تنفصلان: وجهان لورقةٍ واحدة. فالمسألة،بالنسبة إليه،هي أن تكونَ الصّورة تصويراً كذلك،أي انشاءً وتغييراً،بحيث تبدو مادة التصوير كأنّها مسكونَةٌ باسْتقصاءٍ متحرّكٍ ومشعّ كمثل شرارةٍ طالعةٍ لِتوّها من أرض التكوين. هكذا يُتقن زياد دلّول فَنَّ العلاقةِ بين التصوير والذاكرة،إلى درجةٍ نحتار فيها إن كان يتذكّر في لوحاته زمان ذكرياته،أم مكانها،أم هي نفسها،أم مستقبلَها؟ ونحتار حَتّى لنستطيع أن نقول إن في بعض لوحاته كتباً خاصةً يمتزج فيها الغائبُ والظاهرُ والمستقبل،مُلْغياً بذلك المسافةَ بين المكان الذي تشرق منه الشمسُ حيث وُلد،والمكان الذي تغرب فيه حيث يقيم ويعمل. وكأنَّ عينه تفكّر،وكأنَّ فِكرَه يرى. إذْ يُحقّق زياد دلّول هذا الدَّمْجَ بين الذاكرة وذكرياتها،وبين مكانها وزمانها في اللوحة،بقدرةٍ تخيليّة وتصويريّة كبيرة،نرى كيف تتفتّح على القماشة،الطفولة وأشياؤها،الأمكنةُ ومناراتُها المشعّة. ونرى في اللوحة ما يرقصُ حيناً،وما يغنّي حيناً،وما يجلس صامِتاً متأملاً،حيناً آخر. ونرى كيف يَحضر ما مَضَى بصفته مادّةً أساسيّة لإبداعِ ما يأتي. وتنشأ صداقة وأخوّةٌ بين عناصر اللّوحةِ،وأبعادِها،والنّاظر إليها،بحيث تبدو لوحاته كأنّها في آنٍ عيدٌ للبصر