أكثر المواد وجوداً في العالم هما الهيدروجين والغباء، وأعتقد بأن الغباء أكثر. هذه العبارة تنسب لألبرت أينشتاين، وأرجّح شخصياً انه لم يقلها، فهي من نوع يفترض ان يكون أينشتاين قاله، كما ان عبارات ذكية او لاذعة كثيرة تنسب الى ونستون تشرشل أو أوسكار وايلد او دوروثي باركر مع ترجيحي، الشخصي مرة ثانية، انهم لم يقولوها. عادت اليّ العبارة المنسوبة الى أينشتاين، وأنا أتلقى يوماً بعد يوم رسائل من قراء تتّهم صحافيين عرباً أو كتّاباً بالخيانة لأنهم يكتبون آراء تخالف آراء هؤلاء القراء. والتهمة أكثر ما تتردد ضد الذين يكتبون تأييداً للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ونبهني قراء الى ان هناك من ينكر دوراً للمحافظين الجدد، وهو موقف لن أكرّمه بتعليق. أعترض على كثير من أوجه السياسة الاميركية، وأتحفّظ عن الديموقراطية التي تحاول الادارة الأميركية تصديرها إلينا، فكلنا يعرف ان البلدان العربية غير ديموقراطية، وكلنا يريد ان يرى بلاده تتحوّل الى ديموقراطية حقيقية، غير ان الديموقراطية على الطريقة الأميركية ثمنها عالٍ من حرية الفلسطينيين ودماء العراقيين، والادارة الأميركية قفزت اليها بعد ان فشلت في تطويع العراق، وإعادة صوغه على صورتها ومثالها، فعندما انتشر الارهاب المجرم في العراق، وهو ارهاب لا مقاومة، بدأت الادارة الأميركية تتحدث عن الديموقراطية لا في العراق فحسب، بل في الشرق الأوسط كله. وأرى ذلك محاولة مكشوفة لجعلنا ننسى انها خاضت الحرب ضد صدام حسين زاعمة انه يملك أسلحة دمار شامل وعلى علاقة مع القاعدة. وعندما ثبت الكذب في الادعاءين، وتزامن ذلك مع اشتداد موجة الارهاب في العراق، طلعت علينا الادارة الأميركية بمشروع الديموقراطية، لأن لا يوجد عاقل يرفضها، وأنا لا أفعل هنا وإنما أتحفّظ عن الديموقراطية على الطريقة الأميركية. مع خلفية ان الغباء أكثر من الهيدروجين في هذا العالم، ومع حقيقة ان الديموقراطية هي السدرة والمنتهى في هذا العصر، لا أستغرب ان يجرف التيار كتّاباً كثيرين، كما لا أستغرب ان يثور القراء عليهم. قرأت مقالات تتغزل بالديموقراطية على الطريقة الأميركية، وتتجاوز خلفيتها ومحدوديتها، وإنما قطعاً ليست ديموقراطية أثينا المرجوة، وانما تغضّ النظر عن ديكتاتوريات عربية معروفة، وتتسع لها لمجرد ان الديكتاتور المعني سائر في الركب الأميركي. بل انني قرأت مقالات تسجّل أفضال السياسة الأميركية علينا، وتتجاوز استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية بالسلاح والمال الأميركي والفيتو في مجلس الأمن، وفظائع الارهاب في العراق الذي أطلقه الاحتلال. وكان الرئيس بوش نفسه قال يوماً:"إننا جمعنا ارهابيين حيث نريد"، ويبدو انه فعل، فكل من له قضية ضد أميركا، ويريد ان ينتحر مفجراً نفسه مع اعدائه، أصبح يقصد العراق، ويدفع العراقيون ثمناً رهيباً من أرواحهم ومستقبلهم في حرب أميركا على ارهاب لم يخطط له في عراق صدام حسين، ولم ينطلق يوماً من العراق ضد الولاياتالمتحدة. يجب ان أتوقف هنا لأسجل ان إسقاط صدام حسين ايجابية تسجّل للأميركيين، غير ان كل المؤشرات يتجه نزولاً بعد ذلك، حتى نصل الى الهاوية التي انحدر اليها العراق وأهله عندما اصطدم التحرير بالارهاب. أفهم شكوى القراء من الكتاب الأميركيين، وأقول: أكثر هؤلاء يكتب عن جهل، والواحد من هؤلاء لا يقرأ، ولا يتّقن لغة أجنبية، وآراؤه هي ما تجمّع له في قهوة النشاط مع زملاء مثله يشربون القهوة سوداء، ويدخنون سجائر من دون"فلتر"، ثم يسيرون مع"الموضة"السياسية، وهي أميركية هذه الأيام. آخرون يمثلون صحافة"القبّوط"الجندب بالفصحى فهم يقفزون من موقف الى آخر كما يقفز"القبوط"، وقد قفزوا الى السياسة الأميركية، الا ان لا شيء يضمن ان يبقوا هناك، فأنا أتوقع ان يقفزوا مرة أخرى. بعضهم متطرّف، وهو تطرّف يوماً يساراً مع الصين والاتحاد السوفياتي، ويتطرّف الآن أميركياً. وهو ربما درس في جامعة لومومبا في موسكو، أو في بلغاريا، والمشكلة الآن انه يحاول ان يطوّع قاموسه السياسي البائد في خدمة الديموقراطية الأميركية. بعضهم نقيض من سبق، وهنا المتطرف يفسح الطريق للمتقلب، وهذا النوع نسميه في لبنان"ودني"، أي ما يسمع بأذنيه، أو"مَدْور"، والمعنى انه يدور، مثل باب دوار مثلاً. وبما انه يسمع أميركياً فهو يدور ويكتب أميركياً. هناك المبهور، وهذا ضربه الضوء العالي الأميركي في عينيه، وعماه أو بهره، فهو إما ينطق عن هوى، أو يتحدث عن عمى. شفاه الله. أسوأ مِن كل مَن سبق وأخطر قلة عميلة متعاملة. والواحد من هؤلاء وجد ان التعامل مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية لم يعد وصمة في هذا الزمن الرديء، وإنما الطريق الى الحكم، والى رئاسة الوزارة أو وزارة البترول، كما رأينا في العراق، لذلك فهو يؤيد السياسة الأميركية، ويتعامل مع الأجهزة، ويقدم خدمات الى مسؤولين في الادارة، ويرجو ان يكون البديل عندما يسقط الأميركيون النظام في بلده. والغريب في أمر هذه القلة ان قلة من بينها خدعت حكومات بلادها، ففي حين ان بعض المتعاملين مفضوح إلا ان بعضاً آخر قريب من المسؤولين في بلاده، حتى وهو يعد نفسه لوراثتهم بمساعدة أميركية، ولا أفهم كيف ان هؤلاء المسؤولين يقرأون له ويعرفون عن اتصالاته ثم يجهلون أهدافه. ولا أدري اذا كان هؤلاء المتآمرون سينجحون يوماً، ولكن أطالب المسؤولين الذين قد يدفعون الثمن يوماً بأن يفتحوا عيونهم في زمن العيون المغلقة. أخيراً، الديموقراطية هي مطلبنا جميعاً، ولو ان ادارة بوش تريد ان تصدر إلينا ديموقراطية أميركية حقيقية لسرنا في ركابها، لأن الديموقراطية الأميركية، في الولاياتالمتحدة، عظيمة، الا اننا نتلقى ديموقراطية للتصدير أسباب خرابها فيها مثل تلك السيارات التنك والخراب المبني فيها Built in obsolescence. ومع ذلك أقدر ان بعض الكتّاب العرب وصل الى تأييد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط عن قناعة فكرية خالصة، وبنزاهة وتجرّد. وفي حين اختلف معه فإنني أدافع عن حقه في إبداء رأيه ولا أتهمه بشيء، فالمشكلة الوحيدة مع مثل هؤلاء الناس المخلصين لأوطانهم ومبادئهم انهم قلة داخل قلة.