منذ أسابيع واللعبة السياسية على ساحة الصراع العربي الصهيوني تكاد تكون منحصرة في شكاوى السلطات الإسرائيلية من عدم وفاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتزاماته في تفكيك البنية التحتية للإرهاب الفلسطيني، مقابل شكاوى السلطة الفلسطينية من الخروقات الإسرائيلية اليومية لتفاهمات شرم الشيخ، فيما تتخصص بعض قوى المقاومة في إحصاء تلك الخروقات لتذكير الرئيس الفلسطيني بأن الطرف الآخر هو الذي يخرق التهدئة. جديد اللعبة هو إعلان السلطة على لسان رئيسها ووزير داخليتها أنها ستحول دون خرق التهدئة ولو بالقوة، فيما تجد قوى المقاومة نفسها في حالة إحراج أمام كوادرها، وربما جمهورها، بسبب التجاوزات الإسرائيلية اليومية، لاسيما الاعتقالات والاجتياحات والاغتيالات، ولا تسأل بعد ذلك عن عدم حدوث أدنى تقدم في ملف الأسرى، بل إن الدوائر الإسرائيلية التي قررت تأجيل الإفراج عن الدفعة الثانية 400 أسير، هي ذاتها التي اعترفت على لسان مسؤولين أمنيين بأنها اعتقلت خلال الشهور الثلاثة الماضية أربعمائة فلسطيني، مع فارق أن من أفرج عنهم قد كانوا برسم الخروج بسبب نهاية أحكامهم، فيما سيكون حال الجدد مختلفاً لأن أكثرهم من فئة المطلوبين الذين تنتظرهم أحكام عالية. ما تبقى من التجاوزات الإسرائيلية يبدو أكثر إحراجاً للسلطة، وتحديداً تلك المتعلقة بالاستيطان وتهويد القدس، وهي تجاوزات لا يشفيها الترياق الأمريكي المتمثل في الحديث عن رفض الاستيطان لأن شارون ليس من النوع الذي ترعبه الانتقادات "الأخوية"، تلك التي لم تؤثر خلال مسيرة أوسلو، لا على بيريز ولا على وباراك، فضلاً عن نتنياهو!! في هذه الأجواء تنشغل الدوائر الفتحاوية بقضية الانتخابات، ونرى كيف يزور الرئيس الفلسطيني إحدى الجامعات من أجل الاحتفال بفوز مرشحي حركة فتح بفارق مئة صوت على مرشحي حركة حماس وحدها، من دون الجهاد. وعموماً تبقى الانتخابات التشريعية هي الشغل الشاغل، وتحديداً ما يتعلق بالقانون الانتخابي الأفضل لتأمين فوز حركة فتح، لاسيما بعد النتائج الكبيرة لحركة حماس في الانتخابات البلدية. في هذه الأجواء خرجت من المجلس التشريعي أصوات تطالب بتأجيل الانتخابات، وهذه المرة على خلفية سياسية، أقله في الظاهر، إذ ترى تلك الأصوات أن إجراء الانتخابات قد ينطوي على دعم لمخطط شارون في الإبقاء على صيغة الحكم الذاتي القائمة. أما الإسرائيليون فلوحوا على لسان وزير خارجيتهم بإعادة النظر في قضية الانسحاب من قطاع غزة في حال فازت حماس في المجلس التشريعي. والحال أن مخاوف من ذلك النوع الذي تحدث عنها أعضاء التشريعي ليست وهمية، وقد كتبنا غير مرة في سياق التحفظ على قضية الانتخابات، فضلاً عن مشاركة حماس فيها، والسبب هو الانطباع الخاطىء الذي تتركه ممثلاً في أن أزمة الفلسطينيين هي أزمة إصلاح وديمقراطية وشفافية، وليست أزمة احتلال. لا خلاف على أن وجود السلطة، والتوافق الفلسطيني الرسمي، والإسرائيلي والعربي والدولي على استمرار وجودها لا زال يثير أسئلة الإصلاح في ذهن المواطن الفلسطيني، وهو تحديداً ما دفع حماس نحو المشاركة، على رغم تحفظها على العملية السياسية التي انطلقت بعد مقتل الرئيس الفلسطيني، لكن الإشكالية هي أن المجالس التشريعية حتى من دون احتلال، تحديداً في الحالة العربية بوجود الحزب الحاكم، لم تشكل حلاً لمعضلة الفساد، فكيف سيكون الحال في واقع يتحكم الاحتلال بكل تفاصيله السياسية والاقتصادية والجغرافية؟! وتبقى تهديدات الوزير الإسرائيلي التي لا تبدو جدية، ليس لأن الانسحاب من غزة هو مشروع البقاء الأساسي بالنسبة لشارون فحسب، بل أيضاً لأن حماس لن تحصل على الغالبية، ليس فقط لأن الحزب الحاكم سيعرف كيف يدير لعبته، ولو بخبراء من الخارج، بل أيضاً لأن حماس لن تكون حريصة على الغالبية، على رغم حرصها على وجود فاعل ومؤثر. ما يجري هو تسويق لوهم يقول إن صناديق الاقتراع هي الحل لمشاكل الفلسطينيين، فيما يستذكر الجميع تجربة أوسلو، وكيف كان الاحتلال هو المفسد الأول لرجال السلطة، وهو وضع لن يتغير كثيراً بمشاركة حماس في المجلس التشريعي على رغم حرصها على خدمة الجمهور الفلسطيني، وهي في العموم مشاركة ستنحصر في مجال الرقابة، لكنها رقابة على معادلة تتقبل برنامج الاحتلال، حتى لو رفضته في سياق التصريحات السياسية. خلال الأسابيع الماضية ردد السيد محمود عباس مراراً نظريته القائلة بأن دخول حماس للمجلس التشريعي وموافقتها على دخول المنظمة، يحولها إلى حزب سياسي، والحزب السياسي لا يحتاج بالضرورة إلى جناح عسكري أو سلاح، وهو ما يدفع نحو ذات الاتجاه المطلوب ممثلاً في تمييع الصراع وجعله مجرد صراع سياسي أو نزاع حدودي بين بلدين جارين. فيما يبقى سؤال التحرير في برنامج منظمة التحرير بلا إجابة! الانتخابات التشريعية وقبلها الرئاسية، وربما البلدية أيضاً، ومجمل هياكل "الدولة الديمقراطية الفلسطينية"، كما سماها جورج بوش، ستؤكد لعبة حرف أنظار الفلسطينيين عن الصراع مع الاحتلال إلى التصارع، وأقله التنافس فيما بينهم حول البرلمان والسيطرة على المؤسسات العامة، وحين يحدث ذلك يبدأ الصراع الأساسي في التراجع إلى الخلف، وليغدو هامشياً مع الوقت، فالشعوب والقوى السياسية يمكن تطبيعها أيضاً حين تتواطأ جملة من الظروف الموضوعية على ذلك، لاسيما ما يتعلق بالظرف العربي والإقليمي والدولي. عندما نقرأ خريطة الطريق بعناية، فإن هذه اللعبة هي التي تواجهنا دائماً، وهي التي تترجم بعناية ما ذهب إليه شارون منذ سنوات في برنامجه للحل الانتقالي بعيد المدى، وعندما نتابع التحليلات والتسريبات الإسرائيلية، ومن بينها خطة فك الارتباط ب التي نشرتها يديعوت أحرونوت وبادر مكتب شارون إلى نفيها، فلا بد أن ندرك أن المسلسل يمضي في الاتجاه المذكور، بمسمى الدولة المؤقتة، والمسالة لا تعدو أن تكون مسالة وقت، وبالطبع ريثما يعود شارون إلى الزعامة مرة أخرى بعد انتخابات العام القادم. في هذا السياق يكشف أبراهام تامير، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق حقيقة ما سيجري في مقال له بصحيفة معاريف، مؤكداً على أن المسار المقبل سيشمل فترتين انتقاليتين:"ستكون الفترة الانتقالية الأولى في حدود الانفصال أحادي الجانب لإسرائيل، إلى أن يتوفر طرف فلسطيني لتنفيذ خريطة الطريق، ابتداءً بتفكيك البنى التحتية للإرهاب والإصلاح في السلطة لاحظ هذا الشرط الأخير. الفترة الانتقالية ستكون بحسب خريطة الطريق، أي دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، إلى أن يهيأ الأساس لاتفاقات دائمة في مجال الأمن واللاجئين". في السياق نقلت"الحياة"في واشنطن 3/5 عن مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية قوله إن أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة هو"إقناع كلا الطرفين بضرورة التزام التسوية السلمية على أساس خطة الفصل، مع التمسك بتنفيذ خريطة الطريق، حتى لو لم يكن هناك جدول زمني، أو أفق ثابت لتحقيق التسوية النهائية". وهو ما يصب في ذات الوجهة التي يريدها شارون. المرحلة الأولى التي تمضي الآن هي مرحلة تطبيع الفلسطينيين"جماهير وسلطة وفصائل مقاومة، على حياة من غير سلاح ولا حتى انتفاضات سلمية، وبالطبع بعد الانفصال أحادي الجانب من غزة، وحيث سيتوفر قدر من الوهم بوجود دويلة في هذا الجزء من فلسطين، لاسيما إذا تساهل الإسرائيليون إزاء عقدة المعبر الحدودي والميناء والمطار، ولن يتوفر ذلك من دون صراع سياسي"تعددي"يقتتل الناس فيه على المواقع، فيما تفقد قوى المقاومة قسطاً من وحدتها وبراءتها في الصراع على المكاسب. ستدخل هذه اللعبة مرحلة أخرى بعد عام 2006، وبالطبع من خلال فك الارتباط، المرحلة ب، وهي المرحلة النهائية في واقع الحال مع مناقشة بعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بطبيعة باقتسام المسجد الأقصى وقبة الصخرة في ظل إصرار شارون على وحدة القدس تحت السيادة الإسرائيلية. إنه مخطط لتأبيد النزاع، أو تمييعه في أقل تقدير، وذلك بتحويله إلى مجرد نزاع حدودي بين بلدين مستقلين، وبالطبع من خلال توفير الأجواء الفلسطينية الضرورية لمسار كهذا، خصوصاً ما يتعلق بالهياكل المعروفة للدولة الديموقراطية، ويبقى الجزء المتعلق بالمعطيات العربية والإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلق بموضوع الشرق الأوسط الكبير الذي يعتمد بدوره على تطورات الموقف في العراق، وتبعاً لذلك تطورات الملفين السوري والإيراني. بل إن من غير العسير القول إن تهدئة الملف الفلسطيني هي في جزء منها محاولة للتفرغ للملفات المشار إليها. إذا سارت الأوضاع العربية والإقليمية وفق ما يشتهي المحافظون الجدد فسيكون بالإمكان الحديث عن نجاح لهذه الرؤية الشارونية لتغيير وجه النزاع، وربما مضمونه، لكن الاحتمال الآخر لا بد أن يترك آثاره على اللعبة باتجاه إفشالها، لاسيما وأن ما يعرضه الإسرائيليون هو من البؤس بحيث يصعب على أي فلسطيني أو عربي أو مسلم أن يرضى به. والنتيجة هي وصول محمود عباس إلى الجدار المسدود ذاته الذي ارتطم به سلفه في كامب ديفيد عام 2000. يبقى أن من الأفضل للقوى الفلسطينية أن تبادر في هذه المرحلة إلى رص الصفوف والعمل المشترك على مواجهة برنامج شارون، ولن يحدث ذلك من دون الإبقاء على روحية الانتفاضة، ولو من دون سلاح في هذه المرحلة، وبالطبع رداً على الاستحقاقات الإسرائيلية المتعلقة بالتهدئة، وعلى رأسها قضية الأسرى، ومن ثم الاستيطان وتهويد القدس، فضلاً عن استمرار التركيز على رفض الدولة المؤقتة وتمييع النزاع. كاتب من الأردن.