تستحقّ السيرة الشخصية التي يقدّمها الشاعر البحريني قاسم حداد في كتابه"ورشة الأمل"الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أن تشكّل أرضية معرفية لسيرة مجازية يضمّنها الشاعر ديوانه"أيقظتني الساحرة"الصادر باللغتين العربية والإنكليزية عن المؤسسة ذاتها، وفي التاريخ ذاته. وعلى رغم التباين بين الكتابين من حيث النمط والإيقاع والفكرة، إلا أن ثمة تقاطعات كثيرة على صعيد الرؤيا الشعرية التي تجعل من الأول تأريخاً لسيرة شخص ومن الثاني تأريخاً لسيرة نصّ. في نصّ السيرة سبرٌ لتفاصيل المدينة، وكشفٌ عن عادات الناس وحكاياتهم وتواريخهم ولهجاتهم وأمثالهم، وفي النصّ الشعري ارتحالٌ في أصقاع المجاز، ورصدٌ حثيثٌ للتدرّج الصوفي من مقام إلى مقام، عبر مكاشفة الأنا ورصد حالات تخفّيها وتجلّيها، وتناقض نوازعها ومواقفها. في السيرة المكانية تتجه العين إلى الخارج وترصد الجغرافيا السياسية والاجتماعية والتاريخية والجمالية للمكان، وفي السيرة الروحية تتجه العينُ إلى الداخل، لترصد حالات الروح في تحليقها من فلك عرفاني إلى آخر. يسردُ حداد سيرة المدينة بصفتها شخصاً ويسردُ سيرة الشخص بصفته مدينةً، ذلك أنّ روح المدينة"ومزاجها العاصف الأليف يضاعفُ من اتصالِها بالتاريخ الشخصي لكل فردٍ من أبناءها."ص 44. في كتاب السيرة يتوقف الشّاعرُ ملياً أمام منعطفات شكّلت وعيه الأول، وعي الطفل الذي عاش وشب وترعرع في كل زاوية ومصطبة ومرفأ صغير من المدينة المطلة على الخليج العربي، مازجاً سيرة المدينة بسيرة الطفل، وموازياً بين نموّها خارجه ونموّه داخلها. في الفصل الأول الذي يحمل عنوان"كيف ستكتب نص المحرق"يعترف حداد بأنّه عرف المحرّق في لحظتين باهرتين:"الأولى بوصفها مدينة الأبواب المفتوحة دائماً والثانية بوصفها ورشة الأمل"ص 11. من أبوابها المفتوحة تعلّم الشاعر حب السفر، والانطلاق خارج دائرة السائد والرسمي، والهروب من كل موروث سياسي أو فكري"ومن ورشتها تعلّم معنى النظر إلى الأمام، وكيفية كتابة النص المفتوح، القائم على تذويب الفوارق بين جنس أدبي وآخر، مازجاً السيرة بالشعر، تماماً كما يفعل في نصّه الشعري القائم أيضاً على دمج التأمّل الذاتي بالديني، والصوفي بالفلسفي. في حديثه عن المكان، نرى حداد يتحدّث عن مدينة المحرق بصفتها كائناً يتنفّس ويحلم ويناضل ويبكي ويفرح. واللافت أن الشاعر يختار لحظات مفصلية تترك أثراً لا يُمحى على مسيرة حياته، كضياعه في اليوم الأول من المدرسة، والذي يرى فيه فأل خير لأنه يمثّل، ربما، ولادةَ شخصية الشاعر في داخله، حيث"كان ضياعي في يومي الأول للدرس هو بمثابة حسن الطالع الذي لا يفارقني"ص 20، أو لحظة انخراطه الأول في تظاهرة شعبية وهو لم يزل طفلاً، ما أيقظ شخصية المناضل في وعيه:"كنتُ في سنّ الثامنة في ذلك اليوم الذي أخذني عيسى ابن عمتي للمشاركة في الحشد، ليكون ذلك أول درسٍ لي أتعلمه في الاحتجاج السياسي"ص 34. حدث ذلك عام 1956 إبان زيارة قام بها رئيس وزراء بريطانيا سلوين لويد للبحرين، لكن أهل المحرق خرجوا بالآلاف للتنديد بالزيارة، وللتعبير عن"رفض الاستعمار في بلادهم/ والاحتجاج على سياسة بريطانيا تجاه ثورة عبدالناصر"ص 34. في هذا المكان الحيوي يتشكّل وعي الشاعر، وفيه تتبلور نظرته للعالم من حوله. وإذا كان ثمة من تناقض ظاهري بين رؤيا المكان ومكان الرؤيا، كما يتجلى في النصّين الشعري والسّردي، فإن الشاعر يوحّد التناقض بالمجاز، فتغيب الحدود بين السرد الذاتي المستند إلى وقائع تاريخية وحياتية، وبين التخييل الشعري القائم على تفجير خفايا اللغة. وإذا كان حدّاد يميل في سيرته إلى المكاشفة، فإنه لا ينجو من الترميز أو الاستعارة، ما يجعل أحياناً الاعترافَ تنكّراً، والكشف حجباً، تماماً كما في نصّه الشعري"أيقظتني الساحرة"حيث الميل إلى التخفّي تحت شمس المعنى، والإقامة في البرزخ الفاصل بين الكتابة والمحو، أو بين الرمز والإشارة:"أوقفتني في الغيم وقالت: تكتبني بشفيف الحنين\ تمحوني بكثيف الولع/ فكلّما فضحتني بالرمز/ سترتني بالإشارة"ص 106. في كتاب السيرة ولعٌ بالحقيقة، ونزوعٌ لتأويل الرموز، حيث يصف حداد طفولته القاسية، متنقلاً من مهنة يدوية إلى أخرى، في محاولة تقديم واقع محسوس ومرئي يكون بمثابة الشرارة لإضاءة كيانه الوجداني، والتعرّف إلى حساسيته الشعرية:"قلتُ، إنّ حاجات الحياة وانخراطي المبكر مع والدي في دكانة الحدادة والسمكرة، كانت تتطلب مني أن أذرع مدينة المحرق من جنوبها حتى شمالها، حاملاً مصنوعات والدي من علب الصفيح، وأدوات المطبخ الشعبية في كيس كبير من الخيش على كتفي، لكي أبيعه على محلات الحلوى الشعبية"ص 46. هذه الصفائح المعدنية ستتحول لاحقاً إلى رؤى شعرية عالية الشفافية، وإلى تفاصيل نفسية وشعرية تحمل ألقَها وغبطتها، كأنما في تحول جذري من مكان الرؤيا إلى رؤيا المكان، حيث الروح تذرع جغرافيا القصيدة من شمالها إلى جنوبها، كما في نصّ"أيقظتني الساحرة"، الذي يستعير تقنيات المواقف والمخاطبات للنفّري، فالتسكّع في أفق المكان يقابله تسكّع في أفق الذات. هذا التجاور بين الرمز والمعنى يمثّل، في السيرة كما في القصيدة، تجاوراً بين الأرضي والسماوي، فالصوت الشعري، كما يشير الشاعر عبده وازن في قراءة سابقة لقصيدة"أيقظتني الساحرة""يقوم على التخوم، لا يتخلّى عن الإلماح الديني ولا يستسلم لما يُسمّى دنيوياً صرفاً". فمن الرّمز تولد الحياة، وفي كل حياة رمزٌ ينامُ على سرّ، والذهاب في التأويل ذهابٌ في سيرة السرّ، أو المعنى المتعدد، المتناقض، كأنما في كتابة نهائية، ولكن غير مطلقة، لسيرة الذات المبدعة، المشروطة بزمن كلامها. فمن أبواب البيوت المفتوحة، ومن ضجيج التظاهرات، وحياة التنقل، متنكراً، هارباً من حي إلى حي، ومن مواجهة بوليس الدولة، ولاحقاً عتمة الزنزانة، يتمسّك قاسم حداد برؤيا الروح المحلقة في سماء الرمز. في سيرته الشخصية تتحول الحياة إلى مادة طيّعة، يصهرها فوق سندان المخيلة، لتغيب الحدود بين رواية الحدث وصناعة أساطيره:"يمدّ يده المرتعشة ليأخذ محارة ويفتحها بسهولةِ من يفتح رسالة، ويقرأ فيها كلاماً يتذكرّ أنه كتبه ذات ليل في ظلام كثيف في زنزانة رطبة، فيتيقّن أنه يؤلّفُ نفسَه مثلما يصنعُ كتاباً ويؤثثه بالأساطير"ص 146. يصعب كثيراً فصل المتخيل عن الواقعي، وما السيرة المستندة إلى تاريخ شخصي سوى"تأليف"لذات شعرية مؤثثة، جوهرياً، بالصور والرموز والاستعارات. من هنا العلاقة الخفية التي يلاحظها القارئ بين نص السيرة ونص القصيدة، حيث الواقعة التاريخية أو الطبيعية تتحول إلى ومضة شعرية أو استبصار فلسفي. في قصيدة"أيقظتني الساحرة"يصغي حداد إلى صوت ملهمته تقول:"اعلم، يا من غادرت الأرض في الخشب الخفيف،/ أن للبحر أحداقاً تقودُ إلى القلب/ حيث لا يكون الكائنُ شخصاً إلا في نصّه/ ولا يكون صادقاً إلا هناك"ص 80. لو بحثنا عن الإرهاصات الأولى لهذه الرؤيا لوجدناها تردُ في نص سيرة المحرق، على مدى اثنين وعشرين فصلاً، كما في الفصل المعنون"أجهشَ البحرُ بالبكاء"الذي يتحدث عن البحر بصفته شخصاً يثور ويزبد ويبكي ويتوسّل، في لحظة انقلاب الموج العاتي على السفن والبحارة، لتهددّ الماء استقلالية الراوي الذي يصف الحدث. فالبحر معلّم ألوان، وألوانه تقود إلى القلب:"كان البحر يحيطُ بنا من كل جانب، وكنا نتعلّم منه درساً في الألوان منذ أن لامست أحداقنا زرقته الفاتنة"ص 58. وفي الفصل المعنون"طرقة على الحديد، طرقتان على السندان"يصف حداد بشغف كبير فنّ صناعة السفن، ويرى فيه فناً آخر لصناعة الأمزجة، حيث"تتحول الأماكن إلى أشياء وموادّ يمكن ملامستها باليد، وتقمّصها بالحواس"ص 118. هذا يطرح بقوة علاقة السيرة الذاتية بصفتها توثيقاً للحدث، بالنص الشعري بصفته تأريخاً بلاغياً للذات المبدعة. فالنصّ الذي يقع دائماً خارج الشخص يصنعُ أيضاً الشخص الذي يعيش داخله، في مفارقة الاختلاف بين ما نحياه وما نكتبه. وحدّاد لا ينفي ذلك البتة، حيث يرى أن الكائن لا يكون شخصاً إلاّ في نصّه، ما يجعل كتاب المحرق سيرة أدبية خالصة، تقوم على رؤيا انتقائية، مثالية، تعيد بناء المكان والزمان والأشخاص وفق تصور"شعري"لاحق. فالسيرة قصيدة حياة، غنية بالتفاصيل والإشارات والتلميحات، تماماً كالنص الشعري الذي يرصد تطور الذات المبدعة في علاقتها بعالم لا مرئي قوامه اللغة وضروب البديع. ألا يصبح اعتذار الشاعر، إذاً، في بداية مذكّراته عن سبب تأخّره في كتابة السيرة الشخصية ضرباً من التناقض، هو الذي انهمك كثيراً، قبل ذلك،"في كتابة سيرة النص متفادياً الكلام عن سيرة الشخص"ص 10. في سيرة قاسم حداد ثمة الكثير من الشعر، وفي شعره ثمة الكثير من السيرة، وما نصّه الأدبي، هنا أو هناك، سوى حصيلة تفاعل بين الشّخص والنص، وهذا ما يحقق شرط الغبطة أو لذّة التأويل، فالشاعر المنهمك بكتابة سيرة النص، لا يمكنه، بأي حال، أن يتفادى كتابة سيرة الشخص، سواء أكان الموضوع غائباً أم حاضراً.