- 1 - يشهد الشعر العراقي الآن حركة يصعب الإحاطة بها لاتساعها الذي يشمل اجيالاً عدة مختلفة، لا يزال لممثليها حضورهم في المشهد الشعري العراقي الحاضر. ولعل في عمق التجربة العراقية ما يفسر هذه الحركة التي يتوزعها الوطن والمنفى ما اتاح لها التجربة والمعرفة معاً، ومن ثم التنوع الذي منحها ابعاداً وسمات لم تشهدها من قبل. ولا ارى في تقسيم الأدب الى داخل وخارج ما يضيء هذه الحركة او يفسرها اذ تبقى للشعر العراقي سماته الخاصة التي تميزه عن غيره من الشعر، سواء اكان في الداخل او الخارج، لا سيما ان المسافة بين الوطن والمنفى لم تعد هي تلك المسافة ذاتها، ان وُجدت، فثمة شعراء يقيمون الآن في منافيهم السابقة والوطن في آن واحد. بينما فضّل شعراء آخرون الإقامة في منافيهم السابقة او الرجوع إليها بعد ان صار وطنهم ذاته منفى يجتاحه الغرباء من قتلة ولصوص. لقد صار مصيراً جماعياً ما كان مصيراً فردياً، لا يتهدد الجماعات وحدها بل الوطن ذاته، مما يطرح على الشاعر العراقي في الداخل والخارج، عبئاً جديداً لم يكن يواجهه من قبل. اصبح ما هو عام في جوهر ما هو خاص في الشعر العراقي، من دون ان يفقد هذا الشعر خصوصيته وتنوعه اللذين ظلا لصيقين به، مثلما ظلت اسئلة الشاعر العراقي ورؤاه تتجاوز العابر والآني في الواقع. ولعل في انغمار الشاعر العراقي في التجربة لا الأفكار عاملاً اساسياً في هذا التوجه الشعري الذي نأى به عن الشعارات والتعابير الجاهزة والهتافات التي سادت جزءاً كبيراً من شعرنا العربي في فترات المد القومي التي ما زال تأثيرها قائماً. وما عمّق هذا الاتجاه اطلاع الشاعر العراقي على ثقافات لم يكن على معرفة بها قبل تجربة المنفى التي شملت اعداداً هائلة من البشر لا تذكّر إلا بالهجرات الغابرة في التاريخ. ومثلما عانى الشاعر العراقي المنفى في داخل الوطن وخارجه، عانى المنفى ايضاً في ثقافته، حيث الجاهز هو السائد في هذه الثقافة الواحدة التي تدّعي الاختلاف، والتي سرعان ما يتكشف جوهرها في المنعطفات التاريخية عن ثقافة لا تُعنى إلا بما هوعام دونما اي خصوصية تميزها. ولا يختلف الأمر إن كان هذا الموقف موقفاً جماهيرياً مستلباً او موقفاً سلطوياً مقنّعاً. وما هو اخطر في هذه الثقافة، هو موقفها الذي قد يدفعها الى الطرف الأقصى لنقيض ما تسعى إليه، على المستوى النظري، أي الى اشد اعدائها تطرفاً: السلفية القادمة بالسكاكين. عبدالكريم كاصد - 2 - لا شيء واضحاً، بالنسبة إلي على الأقل، لأتحدث عن مشهد شعري متبلور. هناك فورة كبيرة كما مع كل شيء, وهي سياسية وإعلامية اكثر من كونها ثقافية. وفي مثل هذه الحالات، ترتفع الأصوات الأكثر قدرة على الهتاف، لتغطي على غيرها كما في كل المنعطفات الكبرى. الشاعر الحقيقي، هذا الكائن المغرم بالغياب، والسر، المسكون بالتوجس يزداد غياباً، وغوصاً في السر، ويمرضه التوجس اكثر في مثل هذه المنعطفات. اننا امام حرية صعبة. ونقول صعبة، لأننا امام خطر آخر لا يبدو مرئياً كفاية من الخارج. كان الرقيب واضحاً امام اعيننا وضمائرنا الشقية، بجلاده وعصاه وأقبيته. وهو ينشطر الآن ويتخذ اسماء يستمدها من مرجعيات غامضة، ويريد ان يحولها قيماً اجتماعية وثقافية، وبالتالي قوانين غير مكتوبة ستقودنا جميعاً الى الجحيم. هذا الخطر الأكبر على الثقافة العراقية. ولدرء هذا الخطر، نجد انفسنا امام مهمات اكثر صعوبة مما مر بنا سابقاً، لأنها حرب قيم، ونمط تفكير، وأساليب حياة. والإبداع الحقيقي داخلاً وخارجاً لا يمكن ان يضع نفسه خارج هذه المهمة، وهي قضيته الأولى عبر كل العصور، قضيته التنوير والجمال، وتحويل ذلك قيماً يعيش الناس ولو بعد قرون، وكميات هائلة من الدم. فاضل السلطاني - 3 - لا يمكن المرء في الظروف الراهنة ان يقدم تصوراً قريباً من الصورة الحقيقية عن راهن الشعر العراقي. والسبب هو راهنية الظرف العراقي الملتبس. العراق الآن بلد محتل وهناك قوى مختلفة ولها مصالح متعارضة تهيمن على الشارع والذاكرة وحتى الهوية. وما يكتب من شعر داخل هذا الظرف هو استجابة وإعادة صوغ للمشهد العراقي برمته، إن لم يكن ترجيعاً لكل ذلك. ولكننا نستطيع ان نعود بالذاكرة الى الوراء قليلاً لكي نتذكر ما كان عليه المشهد الشعري العراقي ونقارنه بالمشهد الآن. فمن"حسنات"الديكتاتورية البغيضة في العراق انها كانت تمارس على الشاعر ضغوطاً تجعله يراجع النص الذي يكتبه عشرات المرات قبل ان يفكر في نشره. وكانت هذه الضغوط تسهم في جعل النص محكماً في فكرته، بغض النظر عن التقنية او الشكل الذي كتب به. الآن لدينا"حرية"في كل شيء... لا اقول حرية منقوصة ولكن حرية مقلوبة ومستوردة لا يمكن ان نستخدمها إلا بقراءة"التعليقات"المرفقة بها. ما ينتج عن هذه الممارسة هو اشبه بتعليم الأخطاء على انها حقائق. هناك"ردة"شعرية وكأننا نعيش فترة مظلمة اخرى في تاريخنا. فغالب الشباب يكتبون الشعر العمودي، ولكن هذا بحد ذاته ليس مشكلة، ولكن المشكلة هي ان يصنف هذا الشعر في خانات طائفية وقومية وحزبية و... و... في المقابل، هناك شعراء شباب قليلون يتبنون الحداثة والمغايرة. المشكلة الكبيرة الآن هي سيطرة ثقافة الشارع بكل معانيها على ثقافة النخبة والمجتمع المدني وقيم الحداثة... وهذا مفهوم بعد 35 سنة من التهميش والأحقاد والإذلال. اذاً لا يمكن تقديم صورة معقولة وقريبة الى الوضوح حول المشهد الشعري العراقي الآن. نحن نحتاج الى سنوات لكي تتضح الصورة. قلت في اكثر من مرة ان"قضية"ادباء الداخل والخارج وهو مصطلح كريه للغاية، يراد منها شق وحدة الثقافة العراقية، وهي جزء من مخطط كبير لتفكيك العراق سياسياً واجتماعياً وثقافياً... فلم يعان العراق طوال تاريخه مشكلة من هذا النوع. صلاح حسن أصغر شاعرة في المهرجان منى كريم، أصغر شاعرة عراقية في المهرجان، تراها تجول على الشعراء، موزّعة ديوانها الجديد"غياب بأصابع مبتورة"قد صدر حديثاً عن دار"شرقيات"في القاهرة. انتهزت منى، ابنة الثمانية عشر عاماً فرصة المهرجان لتتعرّف الى الشعراء الذين قرأت وتقرأ لهم، ولتهديهم ديوانها الذي لن يتاح له أن يوزّع في أي مكان. شاعرة عراقية تقيم الآن في الكويت، تطبع في القاهرة وتحلم بالسفر الى أوروبا حين تنهي دروسها الثانوية. ديوانها الأول أصدرته عندما كانت في الرابعة عشرة وعنوانه:"نهارات مغسولة بماء العطش"، أما قصيدتها الأولى فكتبتها في العاشرة. ليست منى كريم ب"دخيلة"على عالم الشعر، فهي صاحبة موهبة لافتة، وقصائدها تلتقط القارئ منذ اللحظة الأولى. شاعرة حقيقية، شفافة حتى الرقة، خفرة، تصغي أكثر مما تتكلم، وفي عينيها بريق طفولة دائمة، بريق يكسره دمع سرّي هو دمع الأسى العراقي، دمع فتاة لم تستطع أن تستوعب ما حصل ويحصل في بلادها من مآس رهيبة. تكثر أحوال الحزن في ديوان منى كريم الجديد، ويستحيل الحزن في أحيان مرارة وجودية، عميقة عمق هذه الروح الشفيفة. ولا تغيب عن الديوان أيضاً بعض الأحوال الكابوسية التي تشرّع أبواب الشعر على المجهول واللامألوف. ولعل عنوان الديوان يعبّر عما تحمل القصائد من آلام وشجون ومكابدات. ولم تكتف الشاعرة بما كابدت وبما عرفت من تجارب عاشتها كطفلة كبيرة، بل عمدت الى تثقيف نفسها وتهذيب لغتها منفتحة على الشعر العربي والعالمي. ولعل أكثر ما يميّز شعرها هذه التلقائية التي تجرف اللغة جرفاً، خالقة صوراً ومجازات نقية نقاء المخيلة النضرة. ولئن تبدّت بضعة أخطاء في بعض القصائد فمردّها الطابع البريء الذي يسود تجربة هذه الشاعرة وهي لا تحتاج إلا الى بعض الإلمام بما يُسمى قواعد الصرف والنحو لتتخطى مثل هذه الاخطاء التي لم تؤثر في شعرها. منى كريم صوت سيكون له موقع متقدم في مستقبل الشعر العربي وليس العراقي فحسب.