بطولة "مدرك" الرمضانية.. رياضة تنافسية ورسالة توعوية بجازان    بتوجيه من سمو ولي العهد.. المملكة تستضيف محادثات بين أمريكا وأوكرانيا في جدة    أمير تبوك يدشن حملة "جسر الأمل"    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفروعها تحتفي بيوم العلم    نائب أمير تبوك يوم العلم مناسبة غالية تمثل مصدر فخر ورمز للتلاحم والوحدة الوطنية    رئيس جامعة جازان يدشن معرض الجامعة للاحتفاء بيوم العلم السعودي 2025    الهيئة السعودية للتخصصات الصحية تعتمد زمالة جراحة الأذن وأعصابها وقاع الجمجمة الجانبي    تعليم جازان يحتفي بيوم العلم بفعاليات تعزز قيم المواطنة والانتماء    باحثات سعوديات يدرن مركز الترميم والمعالجة بمكتبة المؤسس    بيولي: النتائج تختلف عن الأداء في النصر    غرفة المدينة تنظم منتدى"المستقبل المستدام للحرمين الشريفين"    "الحواسي" يستعرض مع قيادات تجمع القصيم الصحي فرص التحسين والتطوير    أخصائي شؤون طلابية: احموا المدارس من العدوى    وزارة الداخلية توضح محظورات استخدام العلم السعودي    أمير المنطقة الشرقية: مجتمعنا يتميز بالتكاتف والتعاضد    تعاون بين دي إم جي إيفنتس و Messe München لإقامة معرض IFAT في المملكة العربية السعودية عام 2026    البرلمان العربي يرحب باتفاق اندماج المؤسسات المدنية والعسكرية السورية    أوكرانيا تثني على بداية "بناءة" للمباحثات مع الولايات المتحدة في السعودية    هطول أمطار في 7 مناطق.. والشرقية تسجل أعلى كمية ب 6.2 ملم في حفر الباطن    نمو اقتصاد اليابان بمعدل 6ر0% خلال الربع الأخير    مساعد رئيس مجلس الشورى تستعرض أمام لجنة المرأة بالأمم المتحدة مسيرة تمكين المرأة في مجلس الشورى ومشاركتها بصنع القرار    رابطةُ العالم الإسلامي تُدين قرارَ حكومة الاحتلال الإسرائيلي قطع الكهرباء عن غزة    الشرط الجزائي يعيد"هاري كين" يعود إلى البريمرليج    مواصفات العلم السعودي عبر التاريخ    تحت رعاية سمو ولي العهد.. مؤتمر مبادرة القدرات البشرية يناقش تسخير الإمكانات للتنمية    الاحتلال قطع الكهرباء ودمر محطات المياه ومنع إدخال المساعدات.. تحذيرات أممية من جوع وإبادة جماعية في غزة    25 شهيدا وجريحا في القطاع خلال 24 ساعة    18 % ارتفاع الحاويات الصادرة    العلم السعودي.. احتفاء برمز الوحدة والفخر    البسامي يراجع خطط القطاعات الأمنية المشاركة بالحرمين    بلادي عزيزةٌ.. وأهلها كرامٌ    في إياب ثمن نهائي نخبة آسيا.. الأهلي لتأكيد التأهل أمام الريان.. والهلال لتخطي باختاكور    في إياب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا.. ليفربول الأوفر حظاً للتأهل.. وليفركوزن يحتاج معجزة    فخامة رئيس جمهورية أوكرانيا يغادر جدة    جيسوس: لا مجال للخسارة    الفوزان إخوان.. وهَبات من الخير    بلدية النعيرية تطلق فعاليات رمضان يجمعنا في نسختها الثالثة بمقر بسوق الأسر المنتجة    يوم العلم والكشافة السعودية    هل تنسحب أمريكا من حلف الناتو    استضافة نخبة من الإعلاميين والمؤثرين في "إخاء عسير"    جمعية الدعوة بأجياد توزع أكثر من 4000 مصحف مترجم على ضيوف الرحمن خلال العشر الأولى من رمضان    دبلوماسية الحرمين في أرض النيلين    هل تخدعنا التفاصيل؟    لتكن خيرًا لأهلك كما أوصى نبي الرحمة    لقد عفوت عنهم    "البصيلي": يلقي درسًا علميًا في رحاب المسجد الحرام    الخليج وصيف الدوري السعودي الممتاز لكرة الطاولة    التاريخ الشفهي منذ التأسيس.. ذاكرة الوطن المسموعة    أمير حائل يكرّم طلاب وطالبات تعليم حائل الفائزين بجائزة "منافس"    250 مظلة متحركة بساحات المسجد النبوي    %90 مؤشر الرضا عن أمانات المناطق    أمسية شعرية في ثلوثية الراحل محمد الحميد    مبادرة مواطن تحيي بيش البلد    أبو سراح يطلق مجلس التسامح بظهران الجنوب    محافظ الطائف يُشارك أبناء شهداء الواجب حفل الإفطار    المكملات الغذائية تصطدم بالمخاطر الصحية    8 طرق لاستغلال شهر الصوم في تغيير النمط الغذائي    نعتز بالمرأة القائدة المرأة التي تصنع الفرق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاعتراف الأخير ... قصة البرنامج النووي العراقي يرويها المسؤولان عن انشائه وتطويره . اعتقال جعفر والشهرستاني ... وبرزان طلب تصنيع سلاح نووي قبل قصف الاسرائيليين المفاعل 2 من 7

كنتُ في تلك الأيام السوداء في الجزائر العاصمة أنعم بهدوئها وجوها العذب وطيبة أهلها فلم أتمالك نفسي من شدة الغضب مع أنني لم أكن على بيِّنة من حقيقة البرنامج النووي العراقي المدمَّر، فكل ما سبق أن قرأته عنه في وسائل الإعلام المضلِّلة يروي تهويلات الآلة الحربية الإسرائيلية، لكن عملي السابق في معهد البحوث النووية كان دليل حب لتلك المؤسسة العلمية الرائدة. وأقسمتُ على نفسي أن أعود إلى الوطن وأضع إمكاناتي وحياتي رهناً لخدمة أي برنامج جديد تتبناه لجنة الطاقة الذرية العراقية، ليس حباً ورغبة في وضع مزيد من القوة بأيدي أركان النظام الحاكم، ولكن لقناعتي بأن السبيل الوحيد للتطور العلمي والتكنولوجي للعراق ولأي بلد من بلدان العالم الثالث هو أن يعمل ضمن برنامج طموح ومتطور كالبرامج النووية.
جلستُ في أحد مقاهي شارع العربي بن مهيدي في قلب مدينة الجزائر سارحاً في تأملاتي وأنا أرتشف الشاي الأخضر وأتذكر ما كنت قد قرأته عام 1980 في المجلة العلمية البريطانية ذات الطابع العلمي والإعلامي من نداءات العلماء في بريطانيا لإنقاذ كل من الدكتور جعفر ضياء جعفر والدكتور حسين الشهرستاني من إرهاب نظام صدام وهما معتقلان في أحد سجونه، وتذكرت زمالتي الحميمة لهما، لا سيما جعفر فهو من خيرة علماء العراق لما يمتاز به من حب للبحث العلمي وعلم غزير وحصافة في التفكير.
وأخذتُ أحدثُ نفسي:
- هل يمكن أن أعاود العمل في معهد نووي في بغداد؟!
- وهل أستطيع العمل وزميلي جعفر قابع في سجن صدام؟!
ولكن صدمة العدوان الإسرائيلي أجابتني بنعم وطردت من مخيلتي كل الهواجس، وقررت العودة الى الوطن فلا شك أنه بحاجة الى خدمتي ويدعوني.
وأتوقف الآن عن الكلام فلا بد من الإصغاء إلى محدِّثُكم جعفر فهو أولى مني بوصف معاناته وحكاية اعتقاله في الفصل التالي من هذا الكتاب.
جعفر: هكذا اعتُقِل وهكذا اعتُقِلت
لقد قرأت الكثير من الروايات في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة عن قصة اعتقالي للفترة من 17 كانون الثاني يناير 1980 وإلى 31 آب غسطس 1981 وكثير مما كُتِب لا يمت للحقيقة بصلة. سأنتهز فرصة هذا الكتاب لأروي وقائع تلك الحقبة المظلمة من حياتي أنشرها للمرة الأولى. لقد أثرت تلك الحادثة كثيراً في حياتي الخاصة وحياة عائلتي وعلى توجهاتي العلمية، وأجد لزاماً عليّ أن أذكر الحقيقة كلها من دون رتوش ولا تعليق تاركاً للقارئ الكريم أن يستقرئ منها ما يشاء.
تولى همام عبدالخالق إدارة مركز البحوث النووية في عام 1978، فهو عسكري برتبة رائد في الصنف الكيميائي حاصل على شهادة الماجستير في فيزياء المفاعلات من كلية وست فيلد في جامعة لندن. وحيث أنه كان منتمياً لحزب البعث منذ صباه أصبح ضابط الارتباط بين مكتب صدام حسين، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وبين سكرتارية لجنة الطاقة الذرية.
خلال عام 1979 كان مقر همام في بناية صغيرة ضمن موقع التويثة وكنت أشاركه المبنى إضافةً إلى مكتبه ومكتب حسين الشهرستاني حيث كنتُ والشهرستاني بمرتبة مستشار بدرجة مدير عام. وكنت أتولى الشؤون الفنية لمشروع 17 تموز يوليو مع الجانب الفرنسي بينما كان الشهرستاني يتولى شؤون مشروع 30 تموز مع الجانب الإيطالي. وفي يوم 4 كانون الأول ديسمبر 1979 كنت جالساً في غرفة همام نناقش شؤون العمل كعادتنا كل يوم، ورن جرس الهاتف فردّ همام على المتكلم وفهمتُ من فحوى الحديث والوجوم الذي أصابه أن أمراً غير حميد ينتظرنا. وحال إغلاقه الهاتف طلب مني أن أذهب وأجلس في غرفة الشهرستاني وخرج مسرعاً ثم عاد بعد فترة قصيرة مصطحباً معه خالد ابراهيم سعيد وشاركانا الجلوس في الغرفة. وفجأة دخل إلينا النقيب جار الله حاجم وهو ضابط الأمن العام المقيم في التويثة ومسؤولٌ أمنيٌ عن شؤون الطاقة الذرية. وبعد أن أدى التحية العسكرية طلب متجهماً من حسين الشهرستاني أن يرافقه إلى خارج المبنى ما يعني أنه معتقل. كان وقع كلامه علينا كالصاعقة، ولكن بدا لي أن همام وخالد كانا على علم بالأمر فلم تكن مفاجأتهما بالحدث كمفاجأتي والشهرستاني. ونظرت من شباك الغرفة لأرى زميلي جالساً بين عنصري أمن في المقعد الخلفي من سيارة تحمل رقماً مدنياً انطلقت بهم مسرعة خارج موقع التويثة. وكانت تلك آخر مرة أرى فيها الشهرستاني ولغاية كتابة هذه السطور.
انزعجت كثيراً لاعتقال زميلي في العمل وأخذت أسرح بتفكيري بمصيره ومصير برنامجنا الذي كان أملنا وطموحنا كبيرين لإنجازه واستغلاله في البحث العلمي. ولا بد لي من إلقاء الضوء على ظروف العراق في تلك الفترة فلقد سبق في أوائل ذلك العام أن حدثت ثورة في إيران وأطيح بنظام الشاه وخلفه حكم رجال الدين بقيادة آية الله الخميني ولم يُخفوا منذ اليوم الأول لاستلامهم الحكم تطلعاتهم لتصدير الثورة الإسلامية الشيعية إلى العراق حيث يسكنه عدد كبير من المسلمين الشيعة. وطبيعي أن لا يروق للبعثيين ذلك بعد أن استولوا على حكم العراق قبل إحدى عشرة سنة وبعد أن وطدوا نظام حكمهم العلماني. ولم يكن لصدام حسين أي تحمل للمعارضة مهما قلّت قدرتها فاقتنع أن حزب الدعوة الشيعي يعمل في العراق بتنسيق مع نظام خميني وبناءً عليه قرر أن يقضي على تنظيمه ويجتثه من جذوره خوفاً من أن يثير ذلك الحزب حرباً أهلية أو يستولي على الحكم بانقلاب مماثل لما فعله عندما أسهم بانقلاب 1968 ضد حكم عبدالرحمن عارف.
كان حسين الشهرستاني متمسكاً بشعائر الطائفة الشيعية ومتديناً فلا بد أن يكون ذلك قد جعله تحت الشبهة في انتمائه لحزب الدعوة أو على أقل تقدير دعمه لذلك الحزب. مع أنني أستبعد ذلك تماماً ولم أسمع منه أبداً ما يثير الشك في ذلك. غير أنني لمست من همام أنه كان يساوره ظن بأن حسين الشهرستاني ينتمي إلى ذلك الحزب وقد يكون أحد أقطاب قيادته لما يتمتع به من إمكانات علمية ولما يحمله من شهادة عليا ولكونه متزوجاً من كنَدية مسلمة متزمتة. واعتقدت بأن اعتقال الشهرستاني لا بد من أن يكون قد حظي بموافقة صدام كون الأمن العام مرتبطاً بمكتبه مباشرة وكونه مسؤولاً عن برامج الطاقة الذرية ويعرف جميع قياديي الطاقة الذرية العراقية. كما اعتقدت أن الأمن العام لا يجرؤ على اعتقال مدير عام في لجنة الطاقة الذرية من دون الاستحصال على إذن من صدام حسين شخصياً. وبدأتُ أتحدث مع زملائي همام وخالد ورحيم وظافر عن هذا الحدث في الأيام التي أعقبت اعتقاله، لا سيما أثناء تناولنا وجبة الغداء سويةً. وكنت لا أخفي قلقي عليه واعتقادي بخطورة مثل هذا السلوك وأثره السلبي على المنتسبين وبالتالي على برامج لجنة الطاقة الذرية. غير أنني لم أجد منهم أي تعاطف مع آرائي وكانوا يقابلون حديثي بصمت.
رأيتُ أن من واجبي زيارة عائلته للاطمئنان عليها وللتخفيف من روعها وقلقها فاتصلت هاتفياً بالسيدة برنيز زوجة الشهرستاني ولم أكن قد التقيت بها من قبل، ورتبت زيارة صباح اليوم التالي إلى دارها، وحين طرقت الباب لم تفتح هي الباب كما كنتُ أتوقع بل فتحه رجلان بملابس مدنية شاهرين مسدسيهما في وجهي وطلبا مني أن أطلعهم على هويتي وقاداني وسائقي عمران إلى داخل الدار الذي لم أجد فيه غيرهما ووجدت الكتب والأوراق مبعثرة على أرضية الدار. ذهب أحدهما إلى جهاز الهاتف واتصل بجهة أجهلها وبدأ يسرد المعلومات عن هويتي وهوية سائقي ثم أقفل الهاتف... وبعد صمت دام لبضع دقائق حسبتها دهراً رنّ جرس الهاتف ولم أسمع من المجيب غير الاستجابة بنعم سيدي... نعم سيدي... وعندها أعاد كل من الشخصين سلاحيهما إلى أغلفتهما المرتبطة بأحزمتهما وقال أحدهما لي: يمكنك المغادرة الآن، فأجبته بأنني باقٍ هنا لحين مجيء صاحبة المنزل. وبعد دقائق فقط دخلت زوجة الشهرستاني مع طفليها ودُهِشَت لوجود الغرباء في منزلها ثم ذُعِرَت لحالة موجودات المنزل وكأن سارقاً قد عاث بمحتوياته مفتشاً عن شيء مخبأ هنا أو هناك. والحق أقول أنني وجدت زوجة زميلي تتصرف بحشمة وكبرياء. وعندما غادر ضابطا الأمن العام المنزل من دون أن يأخذا معهما أي شيء من محتويات المنزل أيقنتُ أنهما لم يعثرا على ضالتهما من وثائق تثبت الجرم المتهم به زميلي.
هدأتُ من روع السيدة وقلتُ لها طالما أن رجلي الأمن لم يعثرا على وثيقة إدانة فلا بد من أن يبرأ زوجها ويعود إلى عائلته سالماً إن شاء الله. ولم أكن أعرف حينئذ أن نظام الحكم لا يحتاج إلى أدلة ثبوتية لتجريم من يعتقد النظام أنه ليس على وئام معه.
وبعد أربعة أيام فقط من اختفاء زميلي الشهرستاني في أقبية الأمن العام تجرأت فبعثت برسالة إلى صدام ذاته راجياً الإفراج عن الشهرستاني وموضحاً أن اختفاءَه سيؤثر سلباً في برامج الطاقة الذرية العراقية.
وفي تلك الأيام كانت زوجتي البريطانية فيليس تُعالج في لندن من مرضٍ ألمّ بها في بغداد فقررت أن أرسل ولدي صادق 14 سنة وأمين 13 سنة للدراسة في مدرسة داخلية في كلية سيفورد البريطانية وهي الكلية ذاتها التي سبق أن أكملت دراستي الثانوية فيها قبل عقدين من الزمن. ودّعت ولدي قبل عيد الميلاد المجيد على أمل أن يحضرا احتفال زوجتي بعيد ميلادها في 26 كانون الأول وليتمكنا بعد ذلك من الالتحاق بالكلية مطلع العام 1980. وبقيت لوحدي في داري بصحبة مدير الدار أبو داؤد وزوجته أم داؤد وهما الرفيقان الوفيان لعائلتي لسنين خلت.
لم أحصل على جواب لرسالتي إلى صدام حسين فبدأت أتحدث متذمراً مع زملائي في العمل همام وخالد ورحيم عبد الكُتَل موضحاً أن هذه الأساليب لن تخدم برامج اللجنة... ولم أكتفِ بهذا القدر من الحديث بل بعثت برسالة ثانية إلى صدام في مطلع العام 1980.
المفاجأة القاسية
جاءني الجواب بأسلوب غير ما كنت آمل، ففي يوم الخميس 16 كانون الثاني يناير من عام 1980 اتصَلَت بي سكرتيرة نائب رئيس لجنة الطاقة الذرية العراقية لتبلغني أن أبقى في موقعي بعد انتهاء الدوام الرسمي ليجتمع بي الدكتور عبدالرزاق الهاشمي في مكتبه في موقع التويثة، وحين ذهبت إلى غرفته وجدت عنده رجلاً من المخابرات العامة طلب مني مصاحبته لبضع دقائق، وهو أسلوب المخابرات في اعتقال من يقرروا اعتقاله. وفعلاً أخذني بسيارته إلى مبنى حاكمية المخابرات في شارع النضال وسط بغداد قرب القصر الأبيض الذي كان داراً لضيافة زوار العراق الكبار منذ العهد الملكي.
دخلت مبنى الحاكمية الكئيب وهو بناية محورة من كنيس يهودي سابق فأعطوني ملابس النوم وفراشاً وقادوني إلى غرفة صغيرة خالية من النوافذ ومنافذ التهوية... افترشت الأرض بجوار أربعة محتجزين آخرين. وبعد تناولنا وجبة العشاء المقرفة بدأ كل منا يحدث الآخرين عن قصة احتجازه فأباح إثنان منهما بعدم معرفتهما بتاتاً بتهمة اعتقالهما، والإثنان الآخران كانا يشكان بسبب اعتقالهما، فأحدهما كان الحلاق الخاص لصدام، يظن أنه تأخر عن موعد دوامه الصباحي لبضع دقائق فكانت تلك جريمة لا تُغتفر إذ كيف سيحلق صدام ذقنه قبل تناوله وجبة الإفطار الصباحي فهو معتاد أن يغسل وجهه ويحلق ذقنه ويصبغ شعره قبل مجيء سكرتيره الشخصي كي يراه في أبهى صورة. وأخبرني الزملاء الجدد أنه لم يتم التحقيق معهم منذ اعتقالهم ولم يخضعوا لأي نوع من التعذيب فجاء كلامهم مريحاً لي لأنني كنت أمقت أي قدر من التعذيب أو الإساءة من أزلام المخابرات المشهورين بلا أخلاقيتهم.
بدأت الأيام في المعتقل تطول فلا خبر يصلني من أهلي أو من زملائي ولا أجد غير النزلاء يُستبدلون دائماً فهذا يخرج وذاك يأتي فتتكرر القصص ونسمع أخبار الشارع من الوافدين الجدد. ولم ألحظ في ذلك الوقت أي حادثة تعذيب ولا أي أثر للتعذيب على أي من زملاء المعتقل وتوالت الأيام.
وبعد مضي شهرين على اعتقالي تم نقلي إلى غرفة لوحدي مساحتها 3*4 متر مربع ذات شباك مطل على الممر ومحكم بقضبان حديد سميكة، وتحتوي على سرير وخزانة للملابس ومنضدة عليها مجموعة من الأوراق البيضاء مع بعض الأقلام وملحوظة تقول إن باستطاعتك الكتابة لمن ترغب ومتى ترغب. كانت هذه الحال نقلة كبيرة في حياتي الرتيبة في هذا المعتقل الذي لا علم لي لماذا كنت فيه وما هو الذنب الذي اقترفته. وكان بمقدوري الاتصال هاتفياً بأخي يحيى في بغداد مرة واحدة كل أسبوعين وتحسن نوع الأكل فكان يأتيني من المطاعم المجاورة وغالبيته عبارة عن لحم مشوي وكباب.
وفي يوم من أيام حزيران يونيو 1980 نُقِلنا جميعاً إلى مبنى الحاكمية الجديد في شارع 52 قرب دائرة السفر والجنسية فأُودعت في غرفة جديدة مطلة على باحة المعتقل. وبعد أيام قلائل جاء مدير المعتقل النقيب وضاح الشيخ إليّ واصطحبني بسيارته لمواجهة مدير جهاز المخابرات برزان ابراهيم حسن التكريتي - الأخ غير الشقيق لصدام حسين - وحين دخلت غرفته وجدت نائب رئيس لجنة الطاقة الذرية العراقية الدكتور عبدالرزاق الهاشمي جالساً قرب مكتب برزان.
حاورني برزان:
كيف حالك؟
- لا بأس.
هل تعرضتَ لاساءة؟
- لم أتعرض لاساءة في المعاملة ولكنني أجهل سبب اعتقالي.
نحن حريصون فقط على سلامتك ونخشى عليك من الأذى.
- ولكن صحتي البدنية والنفسية تردّت بسبب اعتقالي من غير سبب.
لا بأس عليك... سآمر بنقلك إلى بيت مريح في بغداد وستجد فيه ما يخفف عنك.
- أفضل العودة إلى داري.
إن الرئيس يريد منك أن تعمل على إنتاج سلاح نووي للعراق.
- ولكنني باحث فيزيائي ولا تجربة لي في هذا المجال.
إنه واثق أنّ بمقدورك العمل بهذا التكليف.
- لم أجب.
وبعد أيام قلائل تم نقلي إلى دار فسيحة في منطقة المسبح الراقية قرب نهر دجلة، احتوت على جهازي تلفزيون وتلفون وحديقة واسعة ووجدت خمسة حراس في الدار لمراقبتي بقيادة عبدالغني مدحي فيصل الدوري وكان الطباخ وليد مهدي من مدينة الموصل بينما كان حسن صالح وجميل عيّاش وشويش حسين من منطقة محافظة صلاح الدين ومركزها تكريت.
وبعد أيام من انتقالي إلى هذه الدار زارني مانع عبد رشيد مدير أمن جهاز المخابرات حيث جلب لي بعضاً من ملابسي وعدداً من الكتب من مكتبة الطاقة الذرية في التويثة.
وساعدتني أحوالي الجديدة على دراسة الكتب بدءاً بالكتاب الموسوم "الوصف النظري لفصل النظائر وتطبيقاتها لإنتاج كميات كبيرة من اليورانيوم 235" لمؤلفه كارل كوهين، فتوليت اشتقاق جميع العلاقات الرياضية المذكورة في هذا الكتاب والذي منحني فهماً معمقاً للمبادئ الأساسية لهذا العلم كما دونت قائمة بالأخطاء المطبعية في الكتاب لا لسبب إلاّ لاستغلال الوقت الرتيب الطويل. وأخبرني حراسي بأن زميلي حسين الشهرستاني موجود في دار ثانية قريبة من داري هذه غير أنهم لم يخبروني عن أحواله أي شيء. وعند قدوم شهر أيلول سبتمبر من عام 1980 احتدم نظام صدام مع الجارة المسلمة إيران بحرب ضروس فكنت أسمع صوت قاذفات القنابل واصوات المدافع المضادة للطائرات من غرفتي وأشاهد مآسي الحرب على شاشة التلفزيون وألحظ أغاني تمجيد صدام لأفكاره وشجاعته النادرة كما يحلو للشعراء "الغاوين" أن ينعتوه بها ليل نهار.
استمرت حالي على هذه الشاكلة، وكان يزورني بين الحين والآخر مانع عبد رشيد، وذات مرة زارني وبصحبته عبدالرزاق الهاشمي فأغاظتني رؤيته وجعلته يشعر بأنه غير مرحب به في معتقلي هذا إذ كنت على قناعة أن له "الدور" الأكبر في اعتقالي، وليس باستطاعة غيره أن يخبر صدام بأن أحاديثي لا تنم عن حبي للنظام.
ولقد أبلغت زائري مدير أمن جهاز المخابرات أكثر من مرة بأنني غير مستعد للعمل مرة أخرى مع لجنة الطاقة الذرية العراقية طالما بقي عبدالرزاق الهاشمي أحد مسؤوليها.
واستطعت خلال مكوثي في هذه الدار من ممارسة بعض الحركات الرياضية المحدودة تحت مراقبة الحراس وإحكام اقفال الأبواب المؤدية إلى خارج الدار.
ضربة غادرة وإصرار على البناء
خلال وجودي في المعتقل في 7 حزيران يونيو1981 علمتُ بنبأ العدوان الإسرائيلي على مفاعل تموز-1 القريب إلى قلبي حيث عملت جاهداً على وضع مواصفاته. وكنت قبل اعتقالي أتطلع لاكتماله وأعد العدة وأضع الخطط لبحوث علمية تستند إلى إمكاناته، والآن جاءت آلة العدوان الإسرائيلية لتحيله إلى حطام وتقضي على كل آمالي وتطلعاتي العلمية، فآليت على نفسي أن أُجَنِّد كل خبرتي لبرنامج بديل يعيد إلى العراق آماله وتطلعاته لمستقبل يرفد فيه الحضارة الإنسانية بعطاء أبنائه الغيارى ويعيد أمجاد تاريخه الذي يمتد إلى آلاف السنين.
في صيف ذلك العام توفي العالم الفيزيائي العراقي الدكتور سلمان رشيد سلمان اللامي في جنيف بمرض غامض يؤشر علاقة الموساد جهاز المخابرات الإسرائيلي المتمرس بالأعمال الدنيئة والمعروف بحقده الكبير لكل إشعاعة علمية وحضارية تبزغ في أرض العرب. وكنتُ قبل اعتقالي قد أسهمتُ في إيفاد المرحوم الدكتور سلمان اللامي إلى جنيف ليطلع على البرامج التصميمية لجهاز كهرومغناطيسي يمكننا تصميمه وتصنيعه محلياً بهدف استغلاله للحصول على بضع غرامات من النظائر المستقرة لعدد من فلزات الأتربة النادرة المعروفة أيضاً باسم عناصر اللانثانات لاستخدامها في تجارب لدراسة مستويات الطاقة لانحلال هذه النظائر بعد تشعيعها في مفاعل تموز-1 وهي دراسات علمية ذات أهمية أكاديمية كبيرة في مجال الفيزياء النووية.
وبعد أسابيع قليلة من هذه الأخبار المحزنة وتحديداً في مطلع أيلول سبتمبر من العام نفسه جاءني مانع عبد رشيد فأخذني بسيارته إلى القصر الجمهوري حيث كان برزان التكريتي بانتظاري في مكتب السكرتير الشخصي لصدام حسين. ولم ننتظر سوى دقائق قليلة حتى أدخلنا المقدم صباح مرزا محمود كبير مرافقي صدام آنذاك إلى غرفة الرئيس العراقي السابق فوجدته جالساً خلف مكتبه الفخم فنهض وصافحني وطلب مني ومن برزان أن نجلس على كرسيين أمام مكتبه وبعد تناولنا عصير البرتقال الطازج وقدح الشاي العراقي بادر صدام بالقول أنه مهتم بسلامتي ولم أكن أتوقع أكثر من ذلك إذ ليس من طبيعته أن يعتذر عن قرارٍ سبق أن اتخذه بحقي أو بحق أي شخص آخر ثم تحدث بمرارة عن الاعتداء الإسرائيلي على مفاعل تموز-1 وقال: "كيف يجوز لإسرائيل أن تمتلك السلاح النووي ولا يحق للعرب أن يمتلكوا برنامجاً للأبحاث النووية ذات الطابع العلمي والسلمي الصرف" ثم قال: "لا بدّ لنا من أن نبني بسواعد وعقول العراقيين برنامجاً نووياً بديلاً - ولا بدّ من امتلاكنا للسلاح النووي ليكون رادعاً لاعتداءات إسرائيل واعتداءات من يحمي دولة إسرائيل ويقدم لها الدعم والإسناد المتواصل"، ثم ختم حديثه بالقول: "علينا أن نعمل منذ اليوم لامتلاك ناصية التكنولوجيا النووية". ثم وجّه كلامه لبرزان: "إمنح هذا الرجل كل ما يطلبه من أجل العراق ومستقبل العراق" فلم أشأ إلاّ أن أقول: "سأحاول ما بوسعي يا سيدي القائد".
وفي اليوم ذاته أطلق سراحي فعدت إلى بيتي واحتفلتُ مع عائلة أخي يحيى. وبعد يومين أو ثلاثة عدت إلى عملي بدرجة مستشار وعضو متفرغ في لجنة الطاقة الذرية، وشعرتُ بالراحة حين علمتُ بأن عبدالرزاق الهاشمي قد غادر هذه المؤسسة وأصبح وزيراً للتعليم العالي وتذكرت ما قاله لي برزان قبيل دخولنا مكتب الرئيس من أنه أي برزان لم يكن مرتاحاً لتصرفات عبدالرزاق الهاشمي وأنه غير مقتنع بكفاءته كعالم عراقي من المستوى الرفيع كما كان يحاول أن يوحي للآخرين.
نعمان بداية فورية وخط أحمر
كان أمر صدام في لقائه مع جعفر واضحاً جداً وهو البدء الفوري ببرنامج بديل للبرنامج السابق الذي توقف وانتهى بالعدوان الإسرائيلي. غير أن أمره تضمن خطاً أحمر لا ينبغي تجاوزه هو ألا نستعين في برنامجنا الجديد بأية جهة أجنبية. وبمعنى آخر علينا تنفيذه بالجهد الوطني الخالص وأن نحرص على شراء الأجهزة والمعدات والمواد من الأسواق المفتوحة للجميع وفي حالة عدم تمكننا من ذلك علينا تصنيعها محلياً. وعلى رغم هذه الشروط المحددة انطلقت لجنة الطاقة الذرية العراقية لتنفيذ الأمر فطلبت من جعفر أن يتقدم بمقترحه وكان جاهزاً لذلك فلقد أمضى فترة طويلة في المعتقل أتاحت له فرصة التفكير في جميع الخيارات، فتقدم بخيارين اثنين:
أولهما: يستند إلى إنتاج البلوتونيوم 239 بكميات تُقدر بالكيلو غرامات بغية استخدامه كمادة انشطارية للسلاح النووي وهذا يستوجب بناء مفاعل نووي بقدرة نحو 20 ميكاواط يستخدم اليورانيوم الطبيعي وقوداً والماء الثقيل مهدئاً أو يستخدم اليورانيوم المخصب لدرجة واطئة LEU وقوداً والماء الاعتيادي مهدئاً.
ثانيهما: يستند إلى إنتاج كميات تُقدر بالكيلو غرامات من عنصر اليورانيوم المخصب بدرجة عالية أي يحتوي على نسبة من اليورانيوم 235 تصل إلى 93 في المئة أو ما يزيد على ذلك وهو ما يسمى اختصاراً HEU بغية استخدامه مادة انشطارية للسلاح النووي. وواضح أن أياً من هذين المسارين يوفر المادة الانشطارية الأساسية للسلاح النووي.
وبعد مناقشة مستفيضة قررت لجنة الطاقة الذرية تبني خيار تخصيب اليورانيوم وعدم التفكير بخيار إنتاج البلوتونيوم لكونه ليس فقط يحتاج إلى جهد بحثي وتصميمي وتصنيعي كبير، ولكنه أيضاً يستوجب بناءه في مساحة كبيرة نسبياً تصلح لإنشاء مفاعل نووي وسيكون الموقع في هذه الحال عرضة للكشف من أجهزة التجسس النائية التي يمتلكها العدو الإسرائيلي وقد يكون هذا الموقع هدفاً مكشوفاً لعدوان جديد.
جعفر: الإجراء الأول
حال استلامنا قيادة البرنامج طلبنا من همام التعجيل بدعوة نعمان للعمل بمعيتنا ويتولى الإشراف على الجوانب الكيماوية للبرنامج لما يتمتع به من كفاءة علمية وقدرة إدارية وخلق رفيع وإخلاص للعمل فوعد همام ببذل قصارى جهده لإقناع نعمان بالالتحاق بهذا البرنامج الوطني والطلب من رئيس الجمهورية تعيينه بمنصب مستشار بدرجة مدير عام.
واستناداً إلى قرار اتخذه صدام حسين عام 1974 عندما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة بأن يكون رئيس اللجنة هو ذاته نائب رئيس مجلس قيادة الثورة أصبح رئيس اللجنة حكماً هو عزت ابراهيم الدوري الذي أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة منذ تموز 1979 عندما اعتلى صدام حسين جميع المناصب الأولى الرسمية والحزبية.
غير أن عزت ابراهيم الدوري لم يكن يهتم ببرامج الطاقة الذرية العراقية سواء الاعتيادية منها أو تلك المتفرعة من البرنامج النووي الوطني. وكان نائب رئيس اللجنة يعلمه بتطورات البرنامج أولاً بأول غير أن المتابعة الحثيثة والقرارات الأساسية كانت تصدر من صدام حسين ومن خلال سكرتيره الشخصي حامد يوسف حمادي. ولا بدّ من قول الحقيقة هنا أن صدام كان يستمع باهتمام كبير عند لقائه بنائب رئيس اللجنة وأحياناً بأعضاء آخرين وحتى إن لم يكن ليعلق على تقدم العمل فقد كان يجعل المجتمعين به على قناعة كبيرة من إدراكه لكل ما عرض عليه إذ كان يأمر أثناء اللقاء به أن ينفذ هذا الإجراء أو ذاك أو كان يؤجل إصدار القرار إلى يوم آخر، أما عزت ابراهيم فكان يلجأ إلى تغيير موضوع الحديث عندما يصبح علمياً أو تكنولوجياً ليتحدث بمواضيع أخرى مثل تجربته في إدارة الحزب أو آرائه الدينية أو تجربته في قيادة شؤون الزراعة في العراق وذات مرة عندما عرضت عليه الموافقة على مشروع بكلفة أربعة ملايين دولار بالعملة الصعبة قال ألا تخجلون من عرض أمر تافه كهذا علينا؟ فنحن دفعنا مبلغاً مقداره عشرة ملايين دولار لكل مدفع بعيد المدى.
بعد عودتنا وفي الأسبوع الأول من عملنا التقينا بزملائنا الدكاترة... وقبلهم تعرفنا الى الدكتور همام عبد الخالق نائب رئيس اللجنة ذي الخلق الرفيع والسريرة الطيبة والمقدرة الإدارية الممتازة والابتسامة المخلصة. ففي أول لقاء بيننا قال لنا همام "عليك أن لا تفكر بأي إيفاد خارج العراق كما كنت تحصل عليه في الجامعة فنحن في الطاقة نتحفظ على إيفاد منتسبينا إلى خارج العراق ولا سيما ذوي المناصب العليا" فتقبلنا ذلك على مضض وعللنا النفس بمتعة إنجاز البرنامج تفوق فوائد جميع الإيفادات.
فصول منتقاة من كتاب سينشره مركز دراسات الوحدة العربية في اواخر الشهر الجاري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.