من يصدق أن ذلك الباحث الفرنسي الذي عكف لسنوات بين دفاتر المحكمة الشرعية في القاهرة ودمشق وغيرهما من المدن العربية، وكان مجهولاً سيصبح رأس مدرسة تاريخية لم يستطع جيله من المؤرخين العرب على رغم توافر أدوات البحث نفسها لهم أن يناطحوه، ذلك هو أندريه ريمون، المؤرخ الفرنسي الذي بلغ الثمانين من عمره، في هذه المناسبة قررت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية أن تخصص مؤتمرها السنوي لتكريمه، وهي حينما كرمته لم تدعو الآخرين لإلقاء قصائد شعر في مناقبه، أو كلمات نثر تمدحه، بل دعت ثلة من الباحثين لطرح ما لديهم، وهم ممن تأثروا به. وأهدته الجمعية في حفلة متواضعة في نهاية مؤتمرها درعها. كرائد لمدرسة التاريخ الاجتماعي الاقتصادي. في هذه المناسبة أيضاً ترجم كتاب ريمون"الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر"من جانب كل من ناصر إبراهيم وباتسي جمال الدين، والكتاب يعد العمدة في تاريخ مصر الاجتماعي في القرن الثامن عشر، اعتمد فيه ريمون على المصادر الوثائقية العربية والأجنبية، وعلى أمهات المخطوطات العربية، ومنذ صدور طبعته الأولى بالفرنسية العام 1973، وإعادة طبعه العام 1999 كان المرجع الأساسي لكل من تناول تاريخ مصر في العصر العثماني، طبعت هذه الترجمة في مطبوعات المشروع القومي للترجمة الذي ينفذه المجلس الأعلى للثقافة في مصر. ومن أبرز الأبحاث التي ألقيت تكريماً لأندريه ريمون، رؤية قدمها الدكتور عماد هلال من جامعة قناة السويس، حول القضاء الجنائي في العصر العثماني. فقد أشاع الفرنسيون في مضابط التحقيق مع سليمان الحلبي أن القضاء الجنائي في مصر في العصر العثماني كان في حال فوضى عارمة، وأن التحقيق كان يتم بإقرار المتهمين بالضرب بالسياط وبوسائل التعذيب المختلفة، أو لم يكن يتم على الإطلاق، فيتم عقاب المشتبه فيه من دون حاجة إثبات التهمة، وأن العقوبات كانت بربرية وهمجية كالقتل والتوسيط والخوزقة وغيرها. وعلى رغم ما احتوته هذه المضابط من المغالطات، إلا أن عدداً كبيراً من الذين أرخوا للقضاء المصري قد ساروا على النهج نفسه، وركبوا الموجة نفسها، فحرص معظم الذين أرَخوا لإصلاحات محمد علي القضائية على الإشارة إلى أن مصر قبل محمد علي كانت"قاعاً صفصافاً من كل نظام، خالية من كل قانون"، وصوروا وظيفة القضاء في ذلك العصر بأنها"كانت موضع الزراية في نظر الجمهور والعلماء"، وأن القضاء المصري في العهد العثماني"وصل إلى درجة لا مثيل لها من الانحطاط". والخطأ هنا مزدوج فهو من جانب يشوه صورة الفترة العثمانية إلى حد وصفها بهذا الخواء القضائي من دون وعي أو دراسة، ومن ناحية أخرى يحتفظ للفرنسيين بفضل وضع حجر الأساس لما أحدثه محمد علي من مجالس قضائية. ويرجع سبب ذلك الخطأ إلى أن تاريخ القضاء الجنائي المصري لم يأخذ حقه من الدراسة الأكاديمية سواء في العصر العثماني بقرونه الثلاثة، أو في القرن التاسع عشر. فمعظم الذين اهتموا بدراسته كانوا من المحامين والقانونيين الذين لم يكن همهم الدراسة الأكاديمية بقدر ما اهتموا بالترويج لأفكار معينة، كفتحي زغلول وعزيز خانكي وعبدالرحمن الرافعي وشفيق شحاتة وغيرهم، الذين لم يكتفوا بترديد ما أشاعه الفرنسيون عن النظام القضائي العثماني فقط، بل أيضاً هاجموا النظام نفسه الذي سبق أن مدحوه عندما أنشأه محمد علي، ونعني به المجالس القضائية، ورددوا مقولات كرومر وغيره بأن النظام القضائي المصري قبل إنشاء المحاكم الأهلية سنة 1883 كان وصل إلى مرحلة من الانحطاط والفساد غير مسبوقة. اهتم عماد في رؤيته بمراجعة المقولات التي ترددت حول القضاء الجنائي في مصر العثمانية من خلال الرجوع الى الوثائق واستخراج السلطات الجنائية لقاضي عسكر ونوابه، مع وضع بعض نماذج من القضايا الجنائية في بعد مقارن مع قضية سليمان الحلبي، والتي تبين من خلالها حجم المغالطات التي أحاطت بنظام القضاء العثماني. وفي طرحه قدم الدكتور حسام عبدالمعطي من جامعة القاهرة صورة لمجتمع التجار الفاسيين في القاهرة خلال القرن الثامن عشر، حيث شكل الفاسيون في مصر خلال القرن الثامن عُشر جماعة تجارية قوية، استطاعت أن تحتل قمة الهرم المصري، فجذبت مصر بموقعها الاستراتيجي الكثير من العائلات التجارية الفاسية الراغبة في الثراء والعمل التجاري الضخم، ومن المؤكد أن الفاسيين تعرفوا الى النشاط التجاري الكبير في مصر من خلال قافلة الحج، وأن الأمل في تحقيق أرباح أوفر، وارتقاء مكانة رفيعة بين التجار كانت وراء اتخاذ عدد كبير منهم قرار الهجرة والاستقرار في مصر، ولم يشكل الفاسيون في القاهرة حياً منفرداً بهم، ولكنهم كانوا أكثر تمركزاً في الغورية، والفحامين، والجودرية، فالاندماج القوي والفاعل في سكان القاهرة نتيحة لعدم وجود تباين في الدين واللغة أو حتى في الثقافة جعل الفاسيين يناسبون في المجتمع القاهري من دون الإحساس بالتهميش. وتطرح هذه الأوراق إشكالية تطور العائلات التجارية الفاسية منذ هجرتها إلى مصر، ودورها في الاقتصاد المصري، والغاية ليست دراسة العائلات الفاسية في حد ذاتها فقط، بل دراستها كخلية اجتماعية اقتصادية متحركة، أي بصورة أوضح حراك المجتمع المصري من خلال العائلات الفاسية، وبالتالي فقد حاولت الدراسة الترجمة لعائلات النخبة التجارية الفاسية، ودورها في الاقتصاد إبان هذه الفترة التاريخية، والمدى الجغرافي الذي اتخذته معاملاتهم التجارية بمختلف أنواعها، والرخاء الاقتصادي الذي تمتعوا به وأسبابه، في الوقت الذي غلب الظن أن الاقتصاد المصري أصابه الكساد. كما تطرح الورقة إشكالية أساليب وآليات الإثراء التجاري في الولاية المصرية إبان القرن الثامن عشر مع التركيز على دور العائلات الفاسية، فتتناول كيف كوّنت هذه العائلات ثرواتها، ومدى ارتباط ذلك بالهياكل العامة التي تحيط بهم، والدور الذي لعبوه داخل طائفة التجار في القاهرة، وكيف وصل عدد منهم لصدارة تجار مصر بتوليهم لشهبندرية التجار وهم المغاربة الوافوين؟ وما هي العلاقة التي ربطتهم بالسلطة السياسية؟ وهل استطاعوا استيعابها وتكريسها من أجل خدمة أهدافهم ومصالحهم؟ أم نجحت السلطة في امتصاص ثرواتهم؟ وما هي العلاقة التي ربطتهم بالمحيط الاجتماعي والثقافي الذي تحركوا فيه وتفاعلوا معه؟ ويرجع الباحث اختيار التجار الفاسيين كهدف للدراسة إلى أنهم كانوا أكثر الوافدين نشاطاً في مصر خلال القرن الثامن عشر، كما أن العائلات الفاسية لم تنتشر في مصر وحدها، بل كانت لها فروع في الكثير من دول العالم الإسلامي إبان هذه الحقبة مما أسهم في تفعيل دور العائلات في التجارة الخارجية التي ربطت بينها. وعن عملة الإحسان في العصرين المملوكي والعثماني، يذكر الدكتور أحمد الصاوي من جامعة القاهرة إلى أن المتخصصين في دراسة النقود المتداولة ينظرون إلى العملات التي يدفعها المارة في الطرقات إلى السائلين نظرة خاصة، باعتبارها أحد المقاييس الموضوعية للتعرف الى المستوى المعيشي للشعوب. و شهدت مصر في عصر المماليك استقراراً واضحاً في الاعتماد على الفلوس النحاسية كعملة للإحسان، إلى ذلك بوضوح القاضي تاج الدين السبكي في مؤلفه الشهير"معيد النعم ومبيد النقم". أما في العصر العثماني فاحتل النصف فضة مكان الفلس كعملة للإحسان ومن ثم نشطت طائفة الشحاتين وهي التنظيم النقابي الذي يمثل السائلين بالقاهرة أمام السلطات العثمانية في إبراز احتجاجها وتمردها على مسلك المشرفين على الضربخانة في ما يتصل بإجراء تخفيضات مستمرة على وزن النصف فضة وعياره فضلاً عن الاحتجاج على ارتفاع أسعار المواد الغذائية. قدم البحث تعريفاً للقيم النقدية والقوى الشرعية لعملاء الإحسان في العصرين المملوكي والعثماني وسلط الضوء على الدور الاجتماعي والسياسي الذي لعبته طائفة الشحاتين وتوزيعها الجغرافي في القاهرة. وذلك إضافة إلى نشر عدد من الفلوس النحاسية المملوكية وأنصاف الفضة العثمانية التي لم يسبق نشرها من قبل. كما اعتمد البحث على الأساليب الإحصائية والرسوم البيانية في شرح العلاقة بين عملات الإحسان وأسعار السلع الأساسية خلال فترة البحث.