في مواجهة التطورات المتسارعة، تبدو البيئة اليسارية اللبنانية تائهة، وأحياناً متخلية عن حصاناتها التحليلية. بمنظار المعاينة القريبة، المقاربة"اليسارية الغالبة"مهتزة والممارسات متباينة، اما ألوان"البيئة"فمنصرفة عن قراءة عناصر المشهد السياسي الراهن، وعن تحديد قواه الدافعة الأساسية, هذا فيما"الوعي"مقصّر عن الإحاطة بطبيعة القوى الداخلية، وبتوزع ادوارها وخلفياتها... لذلك تتسرّع اطياف من"اليسار"في الانضمام الى محصلات سياسية عامة، ليس ل"اهل اليسار"فيها اكثر من دور"ايصال الضيوف الى المائدة". البداية من رؤية الأصل في المعترك السياسي اللبناني، مهمة ومقررة. لذلك فالسؤال البدئي هو: ماذا يرى اهل بيئة اليسار في قعر المشهد السياسي؟ وماذا يعكس على بلّور مرآته؟ سيكون من"البراءة السياسية"القول: ان قوى الاعتراض اللبناني، امتلكت من القوى المفاجئة، ما دفعها الى احتلال الساحات والشاشات فوراً، وسيكون من"التفاؤل"المفرط، الذي لا تحتمله اللحظة، الادعاء بأن النصاب السياسي الداخلي اكتمل وطفح كيله من تجاوزات النظامين"الأصيل والوكيل"، ففاض بمكوناته ليملأ الشوارع، وليفرض روزنامة تغييره، الخاصة، كبند اول على جدول الأعمال، الثابت، هو ان ضغط الخارج"التدويلي"المضمر ثم المعلن، هو رافعة حراك الداخل، وأن ايقاع الداخل هذا، يتحرك بالتناسب مع وتيرة ضغط الخارج، فيضيف شيئاً من المرتكزات الى اطروحاته. ليس في الأمر"تخويناً"ولا مدعاة استهجان، بل إعادة اعتبار الى ذاكرة لبنانية رافقت نشوء"الوطن الكبير". كان التدويل دائماً"عنصراً لبنانياً"داخلياً، وارتكزت كل استقلالية لبنانية الى نوع من انواع الصيغة الخارجية، وتدخلت"اللبنانية"غالباً لتشتق صيغاً محلية، او تسويات، تسيل في قنواتها الوفاقية بعض مياه المداخلات الدولية. لماذا هذا التذكير؟ لأن الحاضر اللبناني يعاني من ارتباك"المفاعل الداخلي"القادر على التدخل جوهرياً في معادلة"كيمياء الخارج"، مما يؤدي الى تضاؤل نفوذ هذا المفاعل، وإلى تراجع قدرته على التأثير. تترتب على ذلك خلاصة قوامها: ان انكشاف الداخل اللبناني امام العوامل الخارجية فادح، وأن المصير الوطني يواجه خطراً فعلياً. اذا كان الأمر كذلك، فهل يجدر بأهل"بيئة اليسار"التغاضي عن ذلك؟ والقفز من رؤية الواقع على حقيقته، الى رؤية واقع آخر، موجود فقط على مستوى المخيلة اليسارية المشوشة؟ مسألة اخرى تطرح نفسها على اهل اليسار: ما التحليل الأقرب الى الصواب، لتشكيلة الاعتراض الحالية؟ وما المستندات التي تجعل خطابها الاستقلالي موثوقاً؟ وهل تخوض هذه التشكيلة معركة الاستقلال الناجز حقاً؟ ثم ما طبيعة هذا الاستقلال؟ وهل من رؤية مستقبلية تحدد معالم توازناته؟ أي ما هي التسوية التي يستند إليها الاستقلال في الداخل؟ وما حدود الاستقلال الفعلي عن الخارج؟ خصوصاً اذا كان المطلوب دائماً إقامة التوازن اللبناني الخاص بين اتصال مصيري عربياً وبين انفتاح مقرر دولياً؟ تقدم اليوميات الاستقلالية الحالية، الطوائف في دينامياتها، أي انها تعلن حيزاً لبنانياً خاصاً، يفتقر الى غنى صيغة"المساحة الاستقلالية المشتركة". قد لا يكون غريباً القول، اننا الآن امام استقلالين، كل منهما مقبول لدى اصحابه، أولهما يُعرّف كاستقلال عن العالم العربي، وربما في مواجهته، وآخر يعرّف كاستقلال عن الغرب وعلى خلفية مناوأته ايضاً. الكلام الذي ينفي"الاحتمالين هذين"غير موثوق، خصوصاً انه يصدر من مطارح"الاستقلاليات الطوائفية", ومصدر عدم الثقة وقائع التاريخ اللبناني الكثيرة، إذ نجد ان الوطن الذي اعلن واحداً، ظل، او برز خلال"الأيام اللبنانية الكبرى"اوطاناً متعددة، وأن الحس الوطني المشترك، كان الغائب الأكبر خلال هذه الأيام! كاستطراد ضروري، يفيد النظر في بنية التشكيلة الاعتراضية، ان المعترضين هم من اهل النظام ايضاً، كانوا كذلك في السابق، وسيكونون ايضاً في اللاحق، لذلك فإن السؤال البديهي يطرح حول الموقف من هذا الحكم الجديد؟ وحول العدة الديموقراطية واليسارية في مواجهة آليات انتظامه؟ وفي الملامح القديمة -الجديدة من مكونات نظامه؟ الاعتقاد بأن"الاعتراض الحالي"هو الحكم المقبل، يحدّ من اندفاعة بعض"اليسار"المتحفز للقفز الى مركب"المعارضة -الحكم"في ظل راية الاستقلال وخلف طوائفه"المستقلة الناهضة". سؤال المستقبل، سؤال يساري راهن. ويتضمن الجواب الموقع والموقف واحتمال المستقبل اللبناني. عليه، ما الذي سيحتل مفاصل السياسات اللبنانية المستقبلية؟ قد لا يكون مفارقاً الاستخلاص، ان الحضور الأثقل سيكون للتدويل وأهدافه، وأن إعادة تشكيل الحكم داخلياً، هي وسيلة ايصال التدويل الى نهاياته"الشرعية والمشروعة". صوغ الموقع الجديد للبنان، بالعلاقة مع محيطه العربي، قضية"دولية"ملموسة. كسر مواقع"المشاغبة"على خطة تمهيد المنطقة العربية امام الهيمنة الزاحفة مطلب مرفوع علانية. تبديد الإنجاز المقاوم في لبنان، ثأر اميركي ? اسرائيلي، غير مسكوت عنه. قيادة العرب، واللبنانيين منهم، الى نسخة سلام اميركية ? اسرائيلية هي الصيغة الديموقراطية الفضلى. التطبيع الكامل مع اسرائيل هو الدواء الناجع لمرض"طبائع الاستبداد". في إزاء هذه المعاني، ما الموقف من هذا المستقبل الموعود؟ وما الموقع في مواجهته؟ أي كيف يؤسس لمعارضة لبنانية حقيقية اخرى؟ موقعها خارج طوفان الطوائف، وإطلالتها من منبر خاص، ودورها ليس ملحقاً"تجميلياً"بأي من الكتل الأهلية الكبرى. ثمة حاجة فعلية لمراجعة حقيقية لدروس التجربة السياسية اللبنانية عموماً، وذلك للتحصن بخلاصاتها ضد اغراءات التسويق الإعلامي، وفي مواجهة الاستسهال الذي يكاد يصير مذهباً عربياً، ينال بموجبه"اهل اليسار"دروع التثبيت من حاكم"دولي"هنا، او من مندوب سام هناك، بدعوى ان"العالم يتغير من حولنا"! لقد تعبت النخب العربية في اماكن كثيرة، لذلك تتعجل خلاصها الفردي، خصوصاً عندما يتبدى لها ان الخلاص العام، الذي نهضت بأعبائه ذات يوم، صار بعيد المنال... وعليه ينصرف الجزء الغالب من هذه النخب الى استعمال"سلاحه القديم"في تبرير انتقاله المستحدث، ويعمل"الفكر"جاهداً لنشر قناعة عصرية تقول: ان الأجسام تسقط من تحت! ودائماً بفعل قوانين الجاذبية الديالكتيكية! * كاتب لبناني.