تشهد دارفور، غرب السودان، تمرداً واسعاً منذ العام 2003 أدى الى سقوط عشرات آلاف القتلى وتشريد ما يقرب من مليوني شخص. وأخذ هذا النزاع أخيراً منحى دولياً تمثّل باحالة مجلس الأمن قضية الانتهاكات في الاقليم - والمتهم فيها 51 شخصاً غالبيتهم من مسؤولي الحكومة السودانية ومؤيديها - إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهو أمر رفضته الخرطوم في شدة. ديفيد موزارسكي، المحلل الكندي في"مجموعة الأزمات العالمية"والمقيم في نيروبي منذ اربع سنوات، يقدّم في مقابلة مع"الحياة"لمحة تاريخية لأسباب النزاع في دارفور وأبرز أطرافه. ما هي جذور النزاع الحالي في دارفور؟ - هناك جذور تاريخية لهذا النزاع، مرتبطة بالبيئة والتصحّر والمجاعة والجفاف والحروب الأهلية في المناطق المجاورة وتدفق اللاجئين من غرب افريقيا وتشاد وتحديداً اللاجئين من رعاة المواشي. وفاقم التصحّر هذه المسألة، مما أدى الى نزاع بين الرعاة والمجتمعات التي تعتمد على الزراعة. فالتصحر أرغم الرعاة على النزوح جنوباً أكثر فأكثر والانتقال الى مناطق مأهولة بالسكان. وفاقمت ذلك سياسةٌ معتمدة منذ الإستقلال تُقصي دارفور من المسؤوليات الأساسية ومن مركز صنع القرار في الخرطوم. وعلى مدى السنوات العشرين الماضية، ازداد الانقسام الإثني بين القبائل العربية والقبائل الافريقية، على رغم ان هذا الانقسام هو انقسام ثقافي أكثر مما هو انقسام إثني في دارفور. لمن الغالبية في ولايات دارفور الثلاث: القبائل العربية أم الافريقية؟ - القبائل الإفريقية هي الغالبة في شمال دارفور وغرب دارفور، واعتقد ان القبائل العربية هي الغالبية في جنوب دارفور. لكن القضية مغلّفة كذلك ليس بعدد السكان وإنما ايضاً بنِسب الأراضي والمُلكيات، وذلك مرتبط بدوره بمشاكل البيئة. الانقسام حاصل فعلاً بين القبائل العربية والافريقية. لكن الطريقة الأسهل لتحديد المشكلة هي بين رعاة المواشي وهم في الغالبية من العرب وبين المزارعين وهم في غالبيتهم من القبائل الافريقية. لكن هذا الانقسام ليس واضحاً مئة في المئة، لأن بعض القبائل الافريقية لديه مواش ويمارس الرعي والعكس صحيح. وعندما بدأ التمرّد 2003 استمد قوّته من القبائل الإفريقية وتحديداً من الفور الدارفوريين والزغاوة والمساليت، وهي القبائل الإفريقية الثلاث الأكبر في دارفور. وعلى رغم ان جوهر التمرد كان هذه القبائل، لكنه لم يحمل برنامجاً اثنياً، ولم يستهدف المجتمعات العربية، ولم يحمل خطاباً ايديولوجياً إثنياً. وقد شدد المتمردون على هذه النقطة، خصوصاً ان هناك قبائل عربية من دارفور تحارب في صفّهم منذ البداية. ويكون ذلك في بعض الأحيان بموافقة من قادة القبائل وفي أحيان أخرى يكون فردياً. مشكلة دارفور تعود الى ما قبل الحكومة الحالية في الخرطوم. فسياسات تفضّيل القبائل العربية بدأت في الثمانينات في أيام حكومة الصادق المهدي عندما كان الهدف منع"الحركة الشعبية لتحرير السودان"بزعامة جون قرنق من التمدد نحو دارفور. ومنذ مجيء الحكومة الحالية عام 1989 صار هناك تاريخ من القرارات السيئة من الحكومة في ادارة دارفور. فمثلاً صدر قرار تقسيم المنطقة الى ثلاث ولايات، وانشاء مناطق ادارية جديدة لمصلحة القبائل العربية على حساب الإفريقية. وحصلت مشكلات محلية كثيرة في السنوات العشرين الماضية، لكن ليس بهذا المستوى. وعندما بدأ التمرد الحالي وجدت الحكومة نفسها أمام مشكلة. فالمتمردون حققوا مكاسب عسكرية سريعة، ووجدت الحكومة ان قواتها المسلحة ليست قادرة على المواجهة. ويعود جزء من ذلك الى ان ليس لديها وجود عسكري كبير في دارفور أصلاً وجزء آخر يعود الى ان عدداً كبيراً من الضباط والجنود هم أصلاً من دارفور وليسوا مستعدين لكي يقاتلوا أهاليهم. فردت الحكومة بحشد قادة القبائل العربية مستخدمة العامل الإثني ومقدمة وعوداً بمزيد من الأرض الى العرب واستخدمت سياسة العامل الاثني. ثم جاءت الاستراتيجية العسكرية التي نصّت على استهداف المدنيين. فما دام لا يمكننا النجاح في المعارك ضد المتمردين وجهاً لوجه فلنواجههم باستهداف قواعد تأييدهم ولننظف المنطقة من السكان خصوصاً من القبائل الثلاث المؤيدة لهم. ونتيجة هذه السياسة باتت واضحة الآن: 300 الف قتيل ومليونا مشرد... نسمع دائماً عن"الجنجاويد". فمن هم هؤلاء وكم عددهم؟ - كل فريق من فرقاء النزاع لديه تعريف مختلف للجنجاويد. وجزء من المشكلة التي تعوق ايجاد تصوّر لحل الأزمة هو ان الأطراف لا تلتقي مع بعضها في كلامها عن الجنجاويد. تعبير الجنجاويد مُستخدم منذ فترة طويلة في دارفور وهو يعني قطاع الطرق والخارجين عن القانون. وبين منتصف الثمانينات ونهاياتها حصل نزاع كبير بين القبائل العربية وقبيلة الدافوريين وهي أكبر القبائل في دارفور، وكان ذلك أول اشارة الى الجنجاويد، إذ اُطلق هذا الإسم على مقاتلي القبائل العربية التي شاركت في ذلك النزاع. وقد أطلق هذا التعبير معارضو الجنجاويد عليهم. وفي الحالة الراهنة أُطلق تعبير الجنجاويد في شكل فضفاضي، وهو يعتمد في تفسيره على الطرف الذي تسأله. فبالنسبة الى المتمردين الجنجاويد تعبير واسع يشمل أي ميليشيات تستخدمها الحكومة خصوصاً الميليشيات العربية ولكن ليس فقط قبائل دارفور السودانية وانما ايضاً التشادية. كذلك يشمل هذا الوصف السودانيين من خارج دارفور الذين شاركوا في النزاع. إذن الجنجاويد ليسوا قبيلة واحدة؟ - ليسوا قبيلة واحدة، وإنما هو تعبير فضفاض. وفي المقابل، عندما تتحدث الحكومة عن الجنجاويد فإنها تتكلم عن مجموعة صغيرة جداً هي تحديداً قطاع طرق واللصوص والأشخاص الذين يقومون بعمليات نهب. لكن التعريف الدولي للجنجاويد، في رأيي، أقرب لتعريف المتمردين من تعريف الحكومة لهم. وهذا يشمل كل القوات شبه النظامية التي استُخدمت لاستهداف المدنيين تحديداً. وعلى الحكومة ان تحدد ما هي الميليشيات التي تخضع لسيطرتها، وانطلاقاً من ذلك يمكن ان يعرف المجتمع الدولي ان الحكومة تسيطر على هذا الطرف أو ذاك في هذه المنطقة او تلك، ويطلب منها تحييد هؤلاء من النزاع التزاماً بتعهداتها السابقة. والحكومة وافقت على ذلك الصيف الماضي لكنها لم تقدّم حتى الآن الى الأممالمتحدة لائحة بالميليشيات التي تسيطر عليها. اذن تعبير الجنجاويد نفسه مشوش ويجب ان يُبذل جهد أكبر لايضاحه. لكن القول ان الصراع عربي - افريقي فيه تبسيط كبير. فكثير من ممثلي العرب يقاتلون مع القبائل الافريقية وكثير من أفراد القبائل الافريقية يقاتلون الى جانب الحكومة. الى أي مدى تمثّل جماعتا التمرد في دارفور - حركة تحرير السودان وحركة العدالة والمساواة - سكان الإقليم فعلاً؟ - حركة تحرير السودان نمت انطلاقاً من مخاوف محلية داخل دارفور ومن ممارسات تحصل على الأرض وبسبب نظرتهم الى طريقة عمل النظام في الخرطوم وكيف ان دارفور مستبعدة من ذلك. لذلك فإنها بدأت كحركة لها امتدادات شعبية محلية على الأرض. أما حركة العدل والمساواة فإنها منذ البداية تشكّلت من سياسيين موجودين، ومنذ البداية كانت تسعى الى تصوّر قومي وحل قومي لمشكلة دارفور. إذن العدل والمساواة هي تعبير عن مشكلة أوسع داخل السودان. والى درجة ما، فإن حركة تحرير السودان هي ايضاً تعبير عن مشكلة واسعة داخل السودان، لكن قواعدها محلية في دارفور أكثر من العدل والمساواة. واعتقد ان حركة تحرير السودان هي الأكثر انتشاراً على الأرض في دارفور، وهي كحركة أكثر تمثيلاً للطبقة الشعبية وأكثر تعبيراً عن معاناة الدارفوريين. لكن يجب الاشارة الى ان أياً من الجماعتين لا يمثّل كل دارفور. فهناك جماعات أخرى. هل هناك مناوشات بين الجماعتين للسيطرة على مناطق النفوذ على الأرض في دارفور؟ - لا، لم اسمع بحصول مثل هذا الصراع. لكن هناك تنافساً سياسياً بينهما. هل تعتقد ان ما حصل في دارفور ابادة فعلاً؟ - موقف"مجموعة الأزمات العالمية"هو انه ليس مهماً إن كان ما حصل إبادة أم لا. الإبادة تعبير قانوني، وبغض النظر عما اذا كان ما حصل ابادة ام لا، فالأكيد إن انتهاكات جسيمة ارتكبت على نطاق واسع وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات. والنقاش حول الابادة يزيح النظر عما يحل فعلاً على الأرض. حصلت جرائم رهيبة واسعة النطاق ويجب ان يكون لها رد فعل عالمي. ويجب ان يخجل المجتمع الدولي لأنه لم يقم بدور أكبر في وقت أبكر. لماذا احتاج مجلس الأمن الى كل هذا الوقت ليحيل قضية جرائم دارفور على محكمة الجنايات الدولية؟ - هناك مصالح داخل مجلس الأمن. هناك حلفاء سياسيون للخرطوم داخل المجلس، وتحديداً الصين وروسيا والجزائر، وكان يُتوقع ان تكون فرنسا أيضاً بين هؤلاء الداعمين للخرطوم لكن في النهاية تبيّن ان هذا الافتراض خاطئ تبنت باريس مشروع قرار في مجلس الأمن يحيل جرائم دارفور على المحكمة الجنائية. أصدر مجلس الأمن قرارين في تموز يوليو وايلول سبتمبر من العام الماضي يطلبان بوضوح ان تتخذ الحكومة السودانية خلال 30 يوماً خطوات لتجريد الجنجاويد من السلاح. لكن ذلك لم يحصل. وفي أيلول صدر القرار الثاني ولم يحصل أي عمل من الحكومة. وفي كل قرار كان هناك تهديد بعواقب اذا لم يتم التنفيذ. وكان مندوب الأممالمتحدة في الخرطوم يكتب تقريراً شهرياً الى مجلس الأمن يؤكد فيه ان أي خطوة لتجريد الجنجاويد من السلاح لم تتخذ بعد. وكان الصينيون الأكثر صراحة في القول انهم لا يؤيدون فرض عقوبات، على رغم تلويح قرارات مجلس الأمن بعواقب. لقد كاد مجلس الأمن ان يفقد صدقيته بسبب قضية دارفور. يرفض السودان في شدة تسليم مواطنيه للمحاكمة أمام محكمة الجنايات الدولية. فما هي الخطوة المقبلة، وهل يمكن ارغام السودان على تسليم مواطنيه؟ - اعتقد ان الذي يحصل الآن هو ان المحكمة الدولية تجري تقويماً للأدلة ضد الأشخاص المشتبه في تورطهم في انتهاكات دارفور. وانطباعي هو انه سيكون من الصعب ارغام الحكومة على تسليم المتهمين اذا رفضت ذلك. والرئيس عمر البشير نفسه أكد رفضه القاطع لذلك. هل يمكن اجراء تسوية تنص على اجراء المحاكمة الدولية ولكن في السودان نفسه وليس خارجه؟ - لا اعتقد ان ذلك سيكون ممكناً. المحكمة الدولية هي أداة لتحقيق العدالة وليس لمساومة سياسية.