قبل ان اخوض في موضوع تأثير مؤسسات المجتمع المدني في الاقتصاد, اود ان اعرض نبذة عن ماهية مؤسسات المجتمع المدني. تتكون هذه المؤسسات والتي تدعى ب"Institution of Civil Society"من الجمعيات المهنية والاتحادات والغرف والنقابات والنوادي والأحزاب والجماعات والصحف والكثير من التنظيمات الأخرى غير الحكومية"Non-Governmental Organisations". إن هذه المؤسسات هي نتيجة لعملية التطور العام في البلد كما هي، في الوقت نفسه، دافع لعملية التطور وباعث عليها. دور مؤسسات المجتمع المدني ان موقع هذه المؤسسات هو بين المواطن والحكومة. وهي إذ تعمل لتحقيق برامجها وأهدافها ورعاية مصالح اعضائها، فإنها، بالوقت ذاته، تعمل لخدمة المصلحة العامة من خلال تخصصها في مجال يمس حياة المجتمع ومصالحه. ان هذه المؤسسات، بنشاطها المستقل، تعمل على الحيلولة دون هيمنة الحكومة المطلقة على المضامير الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما تؤثر بوسائلها المختلفة في المراكز الحكومية في صنع القرار. فمؤسسات المجتمع المدني بصيغتها هذه هي وسيلة للمشاركة Participation كما هي مراكز يطرح فيها الرأي والرأي المخالف، وتجرى فيها المناظرة، ويتم فيها تداول المسؤولية بصورة سلمية. وهي بهذه الصيغة مدارس للتمرس على الأسلوب الديموقراطي وتحمل الرأي المخالف والتعايش، وهي إذن، حجر الزاوية في النظام التعددي الديموقراطي. وتلعب مؤسسات المجتمع المدني، كل بحسب اختصاصها وتوجهها، دوراً مهماً في الاقتصاد، وكذلك في عملية التنمية الاقتصادية في البلدان النامية. فمن هذه المؤسسات من تشارك في إعداد خطط التنمية وبرامج الاستثمار وصوغها، فتبدي الرأي وتقدم الدراسة وتسلط الضوء وتقترح التعديل او الإضافة او التغيير. ومن هذه المؤسسات من تساهم مباشرة في عملية البناء الاقتصادي وتحفيز عملية التنمية ونشر الأفكار الاقتصادية وزيادة الإنتاجية ومراقبة النوعية وتحسينها وتعبئة الموارد في خدمة التنمية. الخضوع لهيمنة الدولة لم تعش هذه المؤسسات اجواء الحرية الكاملة في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة، وعندما جاء حكم البعث في سنة 1968 فقدت حريتها تماماً. وبدأ تسلط الحزب الحاكم يزحف على إداراتها وتنظيماتها، ففقدت بذلك استقلاليتها وأصبحت تابعة للحكومة والحزب الحاكم. وتحولت وظيفتها من العمل لتحقيق اهدافها وبرامجها وخدمة المصلحة العامة، الى خدمة الحكومة وتحقيق اغراضها. وتحولت النقابات المهنية الى نقابات صفراء لا عمل لها سوى الاشتراك بالمسيرات والتظاهرات السياسية الموجهة من السلطة، ولا هم سوى التطبيل والتزمير للقائد البطل والتغني بأمجاده وإنجازاته الوهمية. وفقدت الجمعيات المهنية، كجمعيات الاقتصاديين والمهندسين والحقوقيين, ادوارها كمراكز لنشر البحوث ومنابر لإبداء الرأي وحشد الطاقات الفكرية والموارد البشرية لخدمة مسيرة البلد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وأزيح عن مراكز القيادة العلماء والمفكرون ورواد التطور الحضاري، ليحل محلهم جهلاء الحزب الحاكم من محترفي التجسس، ذوي الولاء المطلق لرموز السلطة الحاكمة، وتحولت بنايات المؤسسات من مراكز لإقامة الندوات وطرح الآراء الرصينة والنقاش وإبداء الرأي والرأي المخالف الى مقرات للخلايا الحزبية ولجان التحقيق، وأوكار للتجسس وكتابة تقارير الوشاية. تهميش دور المؤسسات الحكومية لم يقتصر التشويه على المؤسسات غير الحكومية، فقد شمل الكثير من المؤسسات الحكومية المصير نفسه. فعند قيام حكومة البعث بالعراق بدأت ادوار المؤسسات الحكومية تتقهقر وأخذت تنحسر مهماتها امام الزحف السلطوي للحزب الحاكم. وما ان تربع صدام حسين على منصة الحكم حتى سُحقت هذه المؤسسات تماماً - ومنها المؤسسات الاقتصادية والتخطيطية ، وتلاشت ادوارها الاساسية لتتحول الى مؤسسات واجهية، فارغة المحتوى، منفذة لما يصدر لها من الأعلى. فالبنك المركزي ووزارة المال فقدا دوريهما في صوغ السياسة النقدية والمالية اللازمة لإحداث الاستقرار الاقتصادي الكلي Macroeconomic Stability وفقد البنك المركزي دوره في السيطرة على احتياطات النقد الأجنبي، وتحول الى وسيط للتحويل الخارجي لجماعة النظام ولتمويل الصفقات الحكومية السرية. وانحسرت سلطة وزارة المال في تحديد الموارد المالية وتنميتها، كما فقدت السيطرة على الإنفاق الحكومي. وتقهقرت كذلك سلطات وزارات مهمة كالتخطيط والصناعة والتجارة والنفط والزراعة، وانحرفت واجباتها وتشتت مسؤولياتها، وأصبحت ادوارها مقتصرة، في كثير من الأحيان، على تنفيذ القرارات الارتجالية الفردية النازلة إليها من صدام، والتقيد بالتعليمات الآنية من دهاليز القصور الرئاسية ومن اقبية الأمن والاستخبارات. ولعل من اهم المؤسسات التي سحقت هي المؤسسة الدستورية. فتغييب الدستور وتركيز السلطات بيد الديكتاتور افقد سلطتي التشريع والقضاء دوريهما في خدمة الاقتصاد. فلا السلطة التشريعية قادرة على توفير البيئة القانونية للأداء الاقتصادي الكفي، ولا القضاء قادر على حماية الملكية وفض المنازعات التجارية باستقلالية تتطلبها طبيعة القضاء ودونما تدخل من السلطة التنفيذية، ولقد نتج من ذلك ان عيث في اقتصاد البلد فساد من الديكتاتور وأعوانه ومريديه في ظل غياب كامل للمسؤولية. تدهور النظام التعليمي ولا يقل الأذى الذي لحق بمؤسسة التعليم اهمية عما لحق بالمؤسسات الحكومية الأخرى. فالنظام التعليمي لم يتطور تحت حكم البعث ليتماشى مع متطلبات قطاع خاص ناهض يقود عملية النمو الاقتصادي كما نريد له في العراق. بل انتكس التعليم مادياً وعلمياً. اضف الى ذلك ان تدهور دخل المعلمين وأساتذة الجامعات، وكذلك المهنيين من اطباء ومهندسين وغيرهم، ادى الى انخفاض الرغبة لدى الطلبة في الحصول على التعليم العالي، خصوصاً بعد ان اصبحت المهن الأخرى، وحتى قيادة سيارات الأجرة، اكثر مردوداً من العمل كمهندس او استاذ جامعة. ولا يُنكر ما لهذا الأمر من اثر رهيب عكسي في الاقتصاد الوطني، خصوصاً اذا اضفنا الهجرة المليونية التي شملت عشرات الألوف من ذوي الكفايات. بروز النظام القبلي وشهدت الفترة الماضية بروز مؤسسات اخرى تمت رعايتها بتصميم من الديكتاتور، ولعل على رأس تلك المؤسسات مؤسسة العشيرة والتي جاءت لإحكام السيطرة على شرائح الشعب المختلفة، فالارتداد الى النظام القبلي، إضافة الى انعكاساته السلبية الاجتماعية والقانونية، له انعكاسات سلبية على الاقتصاد ايضاً. ذلك ان النظام القبلي يرسخ مبادئ الأوتوقراطية والتفرد باتخاذ القرار بعيداً من سلطة القانون والدولة. وإن الولاء للوطن في ظل هذا النظام يتراجع ليصبح بصورة رئيسة ولاء للعشيرة او القبيلة. وينتج من ذلك ان تتقدم الصلات القبلية ، ولربما الصلات الطائفية والعرقية ايضاً التي كان يؤججها النظام - المؤهلات والجدارة الشخصية المتعلقة بالمهارات والتحصيل العلمي والخبرات المهنية في ملء الوظائف الحكومية وغير الحكومية، كما قد تؤثر تلك الصلات في اتخاذ القرارات والمساءلة في العمل، فيتراجع الإنتاج كماً ونوعاً تبعاً لذلك. الأجندة الجديدة؟ اما وأن نظام صدام سقط وانتشرت الحرية، ولاحت بوادر الديموقراطية ونريد لها ان تترسخ خصوصاً بعد وضع الدستور الدائم وإجراء الانتخابات في نهاية السنة الجارية، يتوجب على الحكومة اجتثاث الطائفية والتحزب داخل المؤسسات الحكومية، ذلك ان خطر هاتين الآفتين يعادل، بل يفوق خطر العشائرية والمناطقية من حيث انحراف الولاء وبعثرة الكفايات واستلاب الحقوق وانتشار الفساد وتكريس الخراب الاقتصادي، كما جرى في العراق بعد سقوط النظام وحتى اليوم. على ان اهم مؤسسة ، برأيي ، يجب مداراتها ورعايتها وحمايتها وتوفير اسباب القوة لها هي الصحافة الحرة المستقلة وغير الحزبية. ان صحافة كهذه تكون هي السباقة في فضح الفساد وكشف الخلل. وهي بهذه الصفات تصبح سداً منيعاً لحماية الاقتصاد الوطني وأداة فاعلة في التنمية الاقتصادية، فهي عين الشعب الساهرة. خبير النفط والاقتصاد في مركز دراسات الطاقة العالمية في لندن.