كأنّه التّعَب 1 ذلك ما كانت تُعلنه الأوقات المتلاحقة في الجسد. ربما قدُم العهدُ بها. ربما كانت هناك كامنة مع الميلاد البعيد. لا أعرف بالضبط، لكن الجسد كل مرة يعود ليذكر. كأنّه التعب. في النوم. الوسن. كانت الأعضاءُ تذهب وتجيء. يصعب أن تفهم. ثمة ما يَفلت من التحديد. في الجسد. الذي أصبحتَ تُحسه في كل حركة. لا تتأوهُ. إنه الذي يلازمك وهو يحتاج لتصريح ولإعلان متكرّر. هو هناك وأنتَ معه تتبادلان الكلمات. ما الذي أصاب الجسد؟ تهمسُ في كلماتك التي أصبحتْ تكرر عليك الجملةَ ذاتها. ألستَ تفكّر بالجسد؟ بين السؤال والتفكير في السبب ما يخرج الجسد عن صمته. كان الصباح. وكان المساء. والحالة هي ذاتُها. لا يتغير الإحساس بما أصبح يتملّك الجسد. جالساً. ماشياً. متمدداً. متكئاً. مائلاً. متكوماً. مسرعاً. أشكال أراها تتوالى في انقلاب الجسد على نفسه. وأنا هناك. أنصتُ لمَا يبدأ. مَا يستعيد البدايةَ ويتخلى عن الأنين. فقط هواءٌ ساخنٌ يمر بين الأعضاء. وفي الهواء صورةٌ معلقةٌ لما تحس. لو كنتُ أستطيع النفاذ إلى الزمن الذي جاء منه الجسد. لو تعلمتُ في كتاب أو مدرسة كيف أفتح الجلدَ وما بعدَ الجلد لأستطلعَ الحالة في طبقاتها. ولكن ذلك فات. عليّ أن أنسى كلّ ما يساورني في صيغة تمنّيات. لا ينفع التعاملُ مع التعب بمثل الكلمات الاعتيادية في ضبط الحالة. التعبُ. لأجل ذلك بدا لي أن العبارة الأقرب إلى ما لا أعرف هي: كأنّه التّعب. فأنا ألاحظُ. أحس الوقت والوقت المقابلَ. بين مُدتين. والزمن الذي تعودتُ أن يطول هو فقط زمن يمتد متقطّعاً. شيء من الحيرة كلما أرغمتني الأعضاءُ على الاستراحة. تلك الأيامُ التي كان التعبُ يغادر الجسد ويتركني خفيفاً. لا أعني أنني أعْبُر الجحيم. لا. أبداً. هو المساء مرة. هو الصباح. منتصفُ النهار. هو الوقت الذي يمتدّ. في الجسد قبل أن يمتدّ في الأيام. كان علي دائماً أن أحافظ على المُراقبة. هو وأنا. أسير جنبَه أو يسير جنبي. لا أحدَ يفارق الآخر. كنت أتعجب من جسد لا يفارق صاحبَه. نتكلم في أمور العافية. والقُدرة. والتحمّل. واللعب. وأنا متغافلٌ عن الذي يحدث في الأوقات الممتدّة حتى لا تتوقف عند لحظة معلومة. ما تعرف هو أن التعب ينتقل من وقت إلى وقت، ولك ما لا تدركُ من إحساس بأن هذا الذي يصاحبك غريبٌ عنكَ وهو معك لن يتركك ولن ينساك. الليلُ. ربما. وكنت أفضل الليلَ لأنه وقت فارغٌ. يمكن أن تتعب في الليل. بعد أن تغيبَ الشمس وتوقدَ الأضواء وتعودَ أنت للبيت. التعب. لن تُعاتبه. كان لك الوقت الطويل على هيئة كلمة طويلة. يومٌ طويل. نطقت الكلمةُ التي استدعتْها الساعات المتلاحقةُ للنهار. ثم الليل. والتعبُ. يمكن أن يكون الحديثُ مع التعب حديثَ صديق لصديق. حديث جار لجار كما عشْنا ذلك في الطفولة. لكن الصباح. والزوال والعصر والتعب. شيءٌ يستدعي الحديثَ صراحةً مع الجسد الذي يرافقك. جنباً إلى جنب. يسيرُ معك. 2 لم أفكر في كل ذلك هذه المرة. هو معي. وأنا أكتبُ: كأنه التعب. هل هناك حيرة أوسعُ من هذا الحيرة؟ أستغرب من كون التّعب يصبح موضوعاً للكلمات. التعب يبحث عن الكلمات التي تلائمه. والكلماتُ تتردد في الحضور. كلمات في جملة. والجمل تصمتُ حيناً. وتتخلّى عنكَ حيناً. ما العيب؟ أليس الجسد هو الذي يكتب؟ أليس الجسد هو الذي يفكر؟ انتهى ذلك العهد الذي علّمونا فيه أن الكلمات تأتي من الكلمات وحدها. وأن الكلمات كلها مخزونة في الرأس وبطريقة إرادية من طرف الكاتب تعلن عن نفسها. أو علمونا ما جعلنا نتأوّه. بل الأكثر. علمونا أن الكلمات تدلّ على صاحبها. فللكلمات صاحبٌ. هو مالكُها ومُعتقلُها وسيّدُها. كل ذلك يبدو لي غيرَ متطابق مع التعب وكَلمات التعب. وأنا أفضل، على عادتي، أن أتبع التأملَ من هذه الزاوية. التفضيل ليس الكلمة المناسبة. من الأحسن ذكر أنه اختيار. لنا أن نختار عندما نصبح قادرين على الاختيار. أحس هذا التعب يجري في العروق. يندفع بهدوء في جميع أنحاء الجسد. كأنه الدبيب. دبيب ووخزات حادة مرة بعد مرة. هل أجلس؟ أسأل نفسي. أجلس إذن. آخذ مقعداً وأجلس. أبحث عن عتبة في شارع وأجلس. يعنيني أن أستمعَ إلى هذا الذي يصاحبني. هو الأقرب إليّ من سواه. هو يعرف هذا المرضَ وأنا أعرف. هو وأنا. في الطريق التي أقطعها. والعمل. والتنقلات. يمكن أن أنصت إلى جسدي كلما وفدَ عليه التعب. هذا منْ حق التّعب. وأنا أفكر في التعب بالتّعب نفسه. لمدة طويلة كان التعبُ يلازمني. وكلّ مرة كنت أتجرّأُ على التعبير عنه. كنت أفكر في معنى الزمن. منذ خمسين سنة. في مدينة عربية قديمة. عمارةٌ تعود لقرون. الأذان في أوقات الصلاة. الأعياد. والأسواق والأغاني والسحاب. عهد كان الفونوغراف يجْمع حوله أمةً وهي تسمع مطرباً قادماً من بعيد. ثم الذي تلا الفونوغراف. وما أصبح عليه الجسدُ في مدن بعمارتها الأوروبية. ووسائل النقل الحديثة. والسنوات التي تطول ككلمة طويلة. لأن التعبَ من هنا كان يصعدُ نحوي. شيئاً فشيئاً كان يظهر. يطول. خيوطٌ من الألم. دوخةٌ. وارتطامٌ فوق الأرض. كان التعب ينفذ إلى الجسد وأنا لا أفهمُ كيف يتكاثر سنةً بعد سنة. عندما كنتُ أصرح لصديق بالتعب كان يعاتبني. كيف يصيبكَ التعبُ يَا السّي محمد؟ وأصمتُ. المظهر لا يُخبر عن التعب. وأنا بين أن أتكلم لغة جسدي وبين أن أتكلمَ لغة الآخرين. نعم. تربّيتُ على أن أتكلم لغةَ الآخرين. أتكلم الكلمات التي توجد محفوظة في مناديل مطرّزة. العيب. الحْشُومة. مَا شِي صْوَابْ. والتعب الذي يكبرُ لا يحشم. إنه في جسدي. وأنا بمجرد ما أبدأ النطقَ بلغة جسدي ينهرني صديق وصديق. خلاص. آ السّي محمد. وأتعفّف. أحشم. أتبع قواعدَ الكلمات المحفوظة في مناديل مطرزة. كذلك قالوا لنا عندما أقبلوا على إعطائنا الدروس الأولى في التربية. أن نكون منضبطين للقواعد الاجتماعية في مجتمع سهر على انتقاء القواعد بعناية الحكماء. هم الذين أمروا بتطريز المناديل وحفظ الكلمات فيها. كنتُ مثل غيري أهزّ رأسي هزةً خفيفة معبراً عن انصياعي للكلمات. ولما يجب أن ننطق به كلما واجهنا ما يستدعي الاحتياط من قول ما لا يتطابق والكلمات المحفوظة في المناديل المطرزة. العيب. الحْشُومة. مَا شِي صْوَاب. لي أن أتحاشى ما لا توافق عليه القواعدُ السابقةُ على جسدي في الوجود. كمْ عُمر هذه القواعد؟ سألت مرة نفسي. لم أتعامل مع السؤال باستخفاف. كنت أريد أن أعرف تاريخ الكلمات. وكنت أريد أن أفهمَ دلالتها. تاريخُ ودلالةُ كلمات تسنّ لي قواعدَ كلام لي أنا الذي يعيش في زمن وأنا الذي لجسدي قواعده. 3 بماذا يمكن أن يوصفَ شخصٌ لا يحترم القواعد، قواعدَ الكلام؟ بخدْش الحياء؟ بالمسّ بالأخلاق العامة؟ كذلك بدأ العهد الرومانسي العربيّ. عدمُ مُجاراة الكلمات المحفوظة في المناديل المطرزة. كان الرومانسيون العرب، في العصر الحديث، يصرون على خدش الحياء والمس بالأخلاق العامة. إنهم أولئك الذين كان لهمْ مع القواعد معارك. كانوا مُشاكسين ثم تحوّلوا إلى مُناوئين. محاربين. لقواعد الحياء وقواعد الأخلاق العامة. وأنا كنت أريد أن أعرف تاريخ القواعد ودلالتها. أقصد أن أعثر لها على بداية. فهي ليست مفارقة للتاريخ. ولا سابقة على التاريخ. إنني أعيش في التاريخ. من حقي أن أعرف. وبعد أن أعرف من حقي أن أعلن بداية تاريخ مختلف لقواعد مختلفة. التعب. التصريح بالتعب. خلاص. التعب. هذا لا يُقال. لا حياءَ لمن يتحدث عن التعب. نحنُ جئنا من أجل ألاّ نتعب. وألاّ نتعبَ لا يسمح بالتعب. ولا بالتصريح بالتعب. التعبُ يبطل اللاتعب. والتصريح بالتعب يفسدُ العقول. أنت تبالغُ. التعب. التعب. كنت أستحْيي. عليّ أن احترمَ ما اختاروه لهُمْ ولي. أنا منهم وهم منّي. هذه هي القاعدة الأولى التي عليّ احترامُها. وفي احترامي لها احترامٌ للقواعد اللاحقة. وهكذا أكون محبوباً. مقرّباً من الوُجهاء. نموذجَ المطيع. الممتثل. هنا مكارمُ الأخلاق. والشرفُ. والسموُّ الذي لا سموَّ بعده. وأنا لي هذا التعب. الحياءُ لا ينفع مع جسد يبحث عن لغته. يتدرب عليها. إنه يتدرب على التفكير بالجسد. وتلك محنتي. لا أسميها محنة إلا لأنني ملزم بالمرور عبر تجربة مواجهة القواعد. وتلك كانت تجربة الرومانسيين. وبعد الرومانسيين كان المعاصرون بمختلف تياراتهم يُمعنون في مخالفة القواعد. قواعد عدم التصريح بما يخدش الحياء. والتعب الذي يبقى ناطقاً في الكلمات هو التعب الذي يرفضُ القواعد. إنني ابن الثقافة الحديثة قبل أن أكون ابنَ مدينة أو بلد أو قواعد. إذا كنتُ وُلدتُ ذات يوم على يد القواعد فأنا يمكنني أن أولد مرة ثانية وثالثة ومرات لا حدّ لعددها. لا شيءَ يمنعني من الحق في الميلاد المتعدد. لا القواعد ولا المحافظون على القواعد. أدرك الأمر. وأعمل من أجل أن يكون موقفي علنياً. وهو لا يخدش حياء أحد ولا يمسّ بالأخلاق العامة. شخصٌ له جسدٌ يكلمه. وبجسده يفكّر. ما العيب في قول كهذا؟ ثم إن كلام الجسد لصاحب الجسد هو كلامُ التّعب. ليس كلاماً عن التعب فقط. الأعضاء التي لم تعد تحسّ أنها أعضاء. الوقت الذي تعيش. ما يصيبها من تعب. في النهار. منتصف النهار. بل في الفجر. أو في العصر. هي أوقات بعيدة عن الليل. ولا شيءَ يبدو جاء وضغط عليها. لا. هي في حالة تعب. التعب والنطق بالتعب. متلازمان في حياة يومية لا تتأخر عن التشطيب عن الكلمات الفاسدة. ولك من التعب الأعوام. ليس في جمع عامٍ بالأعوام ما يتحول إلى بلاغة. أعوام محصورة في عمر الجسد. لن تكون ألفَ أو ألفَ ألفِ عام كما يحلو لشعراءَ أن يتباهوا فيما بينهم بالعمر الذي عاشوه. كلنا يعرف أن الشاعر يعيش أكثر من عمر جسده. عُمر شعره أطولُ من عمر جسده. وتلك حالة لا نفطن إليها. كنت أحدث نفسي لأن صديقي أصرّ على احترام قواعد الكلام. القواعد التي تمنع التصريح بالتعب في وقت يختار الجسد أن يكون وقت التصريح. هذا غير مسموح. أخبرني بذلك عبر الهاتف النقال وأنا أسند ظهري على زجاج نافذة القطار. فقط التصريح. حتى التصريحُ ومن دون شكوى لا تسمح به القواعد. ولك أن تختار، قال لي وأغلق الهاتف بانفعال. 4 الرومانسيون. نبلاء الرفض في العصر الحديث. ومن يذكرهم اليوم؟ أو كيف نذكرهم؟ لك أن تضحك من هذا الزمن. بلاد عربية بكاملها نسيت الرومانسيين بدعوى التجاوز. بدعوى البدعة. بدعوى عدم احترام القواعد والأصول. هي محاكمة خفية في كلمات. وننسى أن نفكر من جديد في هذه القضية كما في قضايا أخرى كتمناها التزاماً باحترام قواعد الحياء والحشمة. اللاحقُون على الرومانسيين فرضوا بدورهم قواعدَ تحظر الكلام عن الرومانسيين. عندما أتأمل نبلاء الرفض هؤلاء أجد أنهم أول من جعل من التصريح بالمرض مبدأ شعرياً. مرض متعدد الدلالة. طبعاً، هناك مرض الجسد. الجسد الرومانسي، العاشق، الغريب، جسدٌ مريض. ولهذا المرض علامات كما له صور وفضاء. عالم الرومانسي هو المرض قبل الطبيعة، الغاب، وهو يقابل فحولة الشاعر التقليدي وبطولته. ذلك الرومانسي، نبيل الرفض، بصوته الخفوت، هو الذي علمني الحقّ في كلمة التعب. وكنتُ عندها أبحث في أعمال شعرية وفلسفية حديثة عن التصريح بالمرض، الذي يبلغ الجنون. الرومانسي هو نفسه الذي صرح بجنونه وقدس الجنون. مريض. هذا النبيل الرومانسي، الذي ننساه اليوم احتراماً لقواعد الكلام. الخطابات جاهزة لمنع الحديث عن الرومانسيين. ولا ريب. من يتحدث اليوم عن الرومانسيين العرب لن يكون إلا مريضاً يتفحص أحوال مرضاه. هو وإياهم لا بد من أن يكونوا نزلاء مستشفيات. مرضى. هناك يجب أن يكونوا. مريضٌ بالتعب. وأولئك مرضى. القلب هو العضو الأكثر ذكْراً في كتابات الرومانسيين. قلب مريض. وعندما نعيد قراءتهم في ضوء المرض نكتشف من جديد توبوغرافيا مرضهم، الذي هو بالإجمال متشابه. لا يكاد يختلف أحدهم عن الآخر. الأرق. مرض قريب من مرض القلب. ثم التعب. تعبي. لست رومانسياً ولكن الرومانسيين من شجرة العائلة. تلك الشجرة التي أجهل جذورها وإلى أين تمتد أغصانها. هي هناك. شجرة السلالة الشعرية. وأنا أحيّي منها في تعبي هؤلاء الرومانسيين، نبلاء الرفض، الذين لم يعد أحد منا يتذكرهم بما همْ أهلٌ له عند ذكر الشعر الحديث. 5 ربما كان ذلك مقصوداً. هذا الحديث عن الرومانسيين العرب الذين نسيناهم. أودعناهم القبْوَ وغادرنا المكان. في برد النسيان يظلون. لن يفتح أحدٌ بابَ القبو. وفي البرد أذكرهم. هذا الصباح. والصباح السابق على هذا الصباح. وقت لتعبي الذي يتذكر العائلة التي مرضت وأعلنت في كتابتها عن المرض، مرضها، في لغة لا تحترم قواعد العروض ولا قواعد القصيدة ولا قواعد الحياء والحشمة والصواب. هي قواعد لمن كان لا يجد في الحياة إلا ما يتطابق معها. أما هؤلاء النبلاء الرومانسيون فهم من هنا جاؤوا ومن هنا مروا. ومن لغتهم أدركتُ كيف أكتبُ أني مريض بشيء. كأنه التعب. أمكنة مختلفة