منذ أكثر من عام، وبعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق، فكّرت منظمة اليونيسكو وبالتعاون مع الجهات العراقية المختصة، في دعوة مئات المثقفين العراقيين العاملين في مجالات الفنون والآداب والمؤسسات الثقافية، من داخل العراق وخارجه، الى لقاء موسّع او مؤتمر يعقد في باريس، حيث المقر الرئيس للمنظمة العالمية. لقد عاش العراق ما يزيد على ثلاثين عاماً في ظلّ أجواء رقابة صارمة وهيمنة فكرية وثقافية مارسها نظام الحزب الواحد، ويضاف الى ذلك الحصار الدولي الشامل على العراق في أعقاب غزو الكويت في مطلع التسعينات من القرن الماضي. وكنتيجة، فقد أصبح المثقفون العراقيون أو على الأقل الذين يعيشون منهم في الداخل في عزلة شبه كاملة عمّا يجري في هذا العالم، وخصوصاً منذ بدء عقد التسعينات. كما حصل ما يشبه الانشطار في الثقافة أو في شكل أدق في الانتاج الثقافي والفني والأدبي العراقي، نتيجة هروب العشرات من المثقفين والمبدعين الى خارج العراق بسبب الديكتاتورية والأوضاع الاقتصادية الصعبة. لقد فكّرت اليونيسكو بجمع المثقفين العراقيين في أجواء جديدة من الحرية والانفتاح، وكذلك في وضع هؤلاء المثقفين في مواجهة مباشرة مع العالم الخارجي، ومع أبرز التطورات والتغيّرات الفكرية والفنية والثقافية والسياسية الحاصلة في السنوات الأخيرة في العالم. ولأسباب عدة، فإن هذا المشروع لم يتحقق في وقته، وتمّ تغيير مكان عقد المؤتمر الى العاصمة العراقيةبغداد. وبسبب الظروف الأمنية السيئة جداً في الأشهر القليلة التي سبقت إجراء الانتخابات العراقية، فقد تمّ تأجيل موعد المؤتمر الى ما بعد إجراء الانتخابات. وأخيراً، عقد المؤتمر في الفترة ما بين 12 و14 نيسان ابريل 2005، بحضور مئات المثقفين والأدباء والفنانين من داخل العراق، بينما تعذّر حضور معظم المدعوين من خارج العراق لأسباب مختلفة، وكان من بين أبرز الحضور من الخارج الروائي الكبير فؤاد التكرلي. ومن المصادفات المؤلمة، وفاة الفنان المسرحي الكبير جعفر السعدي وهو يحضر حفل افتتاح المؤتمر بسبب حالته الصحية المتدهورة. لم يكن المؤتمر مجرد لقاء احتفالي او مجرد إلقاء لكلمات واستعراض لمنجزات المرحلة السابقة، إذ انبعثت عن المؤتمر ورش عمل عدة في حقول ومجالات مختلفة، ورش تمّ التحضير والاعداد المسبق لها منذ أشهر عدة، ورش مهمتها كانت مناقشة الواقع الراهن وصعوباته وآفاق التطوّر والنهوض المستقبلي. لقد توزّعت هذه الورش على مجالات السينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية وثقافة الطفل والمرأة والتراث الشعبي والموروث المعماري والترجمة والنشر والثقافة العلمية والآثار والمكتبات وغيرها. مناقشات ورشة السينما "... عاشت السينما العراقية مفارقة هائلة، وهي ان الدولة قد أنفقت عليها مبالغ طائلة، ولكن من دون ان تحقق أي إنجاز يذكر. ولا يتعلّق الأمر بالتوجّه الدعائي والتعبوي الذي فرض على السينما العراقية فقط، بل بالضعف الاداري الذي يعيشه قطّاع السينما في العراق، وتدهور حال السينما العراقية في شكل عام ...". هذه الفقرة من ورقة عمل ورشة السينما تلخّص الى حد بعيد وضع السينما العراقية على مدى العقود الثلاثة الماضية. وبالطبع، فإن هذا الوضع ازداد سوءاً الى حد كبير، بسبب أعمال السلب والتخريب التي تلت الحرب على العراق. حملت ورقة العمل هذه تواقيع كل من الدكتور طاهر عبد مسلم، رئيس منظمة"سينمائيون بلا حدود"، والدكتور صباح الموسوي والدكتور عمار هادي، الأستاذين في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. وانضمّ الى الدكتور طاهر في ادارة نقاشات الورشة، المخرج العراقي المخضرم عبدالهادي مبارك، والدكتور حمودي جاسم رئيس"اتحاد السينمائيين العراقيين". وانتقد الكثير من الحاضرين ورقة العمل لتجاهلها او تغاضيها عن مسائل أساسية"مثل دور القطاع الخاص والمؤسسات المدنية المستقلة في الانتاج السينمائي، الواقع المتردّي لدور العرض السينمائي العراقية وخصوصاً في المحافظات، إذ تحوّل معظمها الى مقرات لأحزاب سياسية او جمعيات دينية. كما ان اللجنة التحضيرية لم تنسّق في شكل كافٍ مع جهات مهمة أخرى، مثل دائرة السينما وأكاديمية الفنون الجميلة، في إعدادها لورقة العمل. لكنّ الهيئة التحضيرية نجحت في تحمّل كل الملاحظات والانتقادات الموجهة الى ورقة العمل، وأدخلت التعديلات والتوصيات اللازمة لاحقاً. تركّزت معظم النقاشات على واقع السينما العراقية الراهن، ووضع البنى التحتية والهياكل الادارية المختلفة في هذا المجال. فدائرة السينما جزء من دائرة أكبر، هي"دائرة السينما والمسرح"التي تخضع منذ سنوات لنظام الشركات او التمويل الذاتي، ما يشلّها فعلياً عن الانتاج السينمائي او المسرحي في الظروف الراهنة. لقد طالب الحاضرون بضرورة فصل دائرة السينما عن دائرة المسرح أولاً. وثانياً، إنشاء كيان اداري جديد للسينما، مستقل معنوياً ومادياً وقانونياً، يتولّى مهمة الانتاج السينمائي، ويُموّل مركزياً من موازنة الدولة العراقية"الغنية". وتحدّث مدير دائرة السينما، قاسم محمد، عن الجهود التي تبذلها الدائرة منذ أشهر لتحقيق او لتحريك هذين المطلبين الأساسيين في الأوساط الحكومية، كما تشكّى من ضياع الأجهزة والمعدات المتخصصة، إضافة الى فقدان معظم أشرطة الأفلام العراقية المنتجة على مدى عشرات السنين. مسألة مهمة أخرى أخذت اهتماماً أكبر من حجمها الحقيقي او الفعلي، هي"هوية"السينما العراقية، هل توجد مثل هذه الهوية أم انها في مرحلة التبلور؟ لكن - وكما قال أحد الحاضرين - كيف نتحدث عن مشكلة الهوية والسينما العراقية تشبه الجسد الميت الذي يحتاج الى الإحياء قبل كل شيء. وتقريباً يتفق معظم المراقبين على ان هناك سينمائيين عراقيين، لكن لا توجد سينما"عراقية"بالمعنى الدقيق للكلمة. مسائل أخرى حضرت بقوة في النقاشات، مثل تشجيع الانتاج المشترك والسماح بتصوير أفلام على الأرض العراقية، واقامة دور عرض سينمائية من شركات التوزيع الدولية والعربية... لكن أكثر الحاضرين كانوا مترددين في الموافقة على هذه القضايا باعتبارها وسائل او اساليب للهيمنة على السينما العراقية. وقد اتفق معظم الحاضرين على ضرورة تشجيع اقامة نوادي السينما في شكل واسع، وفي المحافظات خصوصاً، كبديل من غياب دور السينما في معظم المدن العراقية، لكنهم أكدوا في الوقت نفسه ضرورة رعاية الدولة العراقية - وزارة الثقافة تحديداً - لهذه النوادي من خلال ربطها ببرنامج بيوتات الثقافة والفنون التي تنوي الوزارة انشاءها... وهي تجربة مشابهة لتجربة قصور الثقافة والفنون في مصر. التطورات حين تحضر وبالطبع فإن التطورات السياسية في العراق لم تغب عن النقاش الدائر، وطالب الكثير من الحاضرين بضرورة تقديم اقتراحات عملية، يمكن تنفيذها ضمن التغييرات الدستورية والحكومية المقبلة، لكن الحاضرين في الورشة كانوا متحمسين للتحدث في كثير من الاشياء"غير الواقعية"بسبب انعدام مثل هذه اللقاءات"الحرة"لعقود من السنين. كما طالب الحاضرون بعقد مؤتمر للسينمائيين والمهتمين بالفن والانتاج السينمائي لوضع استراتيجية او خطة لاقامة كيان سينمائي جديد، لئلا تقتصر هذه العملية على الجهات الرسمية فقط. وأكدوا ضرورة الاهتمام بالسينما المستقلة التي تصنعها مؤسسات المجتمع المدني الناشئة والاتحادات الجماهيرية والشعبية، وضرورة منح التسهيلات المختلفة للقطاع الخاص العراقي. لقد كانت المناقشات فرصة للجميع للتعبير عن طموحات وأحلام مخنوقة على مرّ السنين من نظام ديكتاتوري جائر، ومن أوضاع راهنة خطيرة يعيشها المجتمع العراقي تحت ظل الاحتلال الاجنبي والإرهاب الأعمى وتعثر المسيرة السياسية السلمية. ومن هذه الأحلام او الطموحات، كان تأييد الدعوة التي أطلقتها منظمة"سينمائيون بلا حدود"منذ عام تقريباً لاقامة"مهرجان بغداد للأفلام التسجيلية والقصيرة"السنوي في كانون الاول ديسمبر من هذا العام. بهذه الروحية، اندفع الحاضرون الى اقتراح اقامة مهرجان آخر للافلام الروائية الطويلة باسم"مهرجان الرافدين السينمائي الدولي"على ان يعقد كل عامين. ويلاحظ في معظم المطالب والتوصيات التي تقدم بها السينمائيون العراقيون، مسألة الالحاح على الدولة - او وزارة الثقافة بالأحرى - لأن تتحمّل المسؤليات المالية والادارية خصوصاً، وفي هذا السياق جاءت مطالبتهم بإنشاء صندوق خاص لدعم السينما العراقية... اذ لا تبدو في الافق اي فرصة واضحة لأن تتحمل جهات عراقية أخرى - غير حكومية - مثل هذه المسؤوليات او حتى المشاركة في جزء منها. بالطبع فقد تناست ورقة العمل، وكذلك النقاشات الدائرة، دور وسائل الإعلام المرئية الجديدة في العراق في دعم الانتاج السينمائي وتمويله وتوزيعه. اذ لا يزال ينحصر التفكير في العراق بالدور التقليدي لوسائل الإعلام المرئية، ونقصد التغطية الاعلامية فقط، متناسين امكاناتها الانتاجية والفنية التي يمكن ان تعوض الى حد كبير عن غياب دور الدولة المركزية. وربما كنا بالفعل بحاجة الى خبراء او مختصين"حقيقيين"في بعض المجالات لتوجيه التفكير والمقترحات باتجاهات عملية مفيدة احياناً، وربما هذه كانت فكرة اليونيسكو الأصلية بتوفير فرصة اللقاء مع خبراء من هذا النوع لتبادل وجهات النظر والاستماع الى آراء مختلفة، غير مقيدة بالتجربة العراقية او ظروفها المعقدة، واقامة شبكة مفيدة من العلاقات مع سينمائيين أجانب او عرب لتطوير السينما العراقية واخراجها من محنتها... لكن هذا لم يتحقق بالطبع، فأطلقنا العنان لكل أحلامنا وأمنياتنا المدفونة منذ سنين.