يستطيع تقرير تيري رود لارسن ان ينتظر اسبوعاً آخر ليستطيع ان يقول فيه ان سورية نفذت المطلوب منها بالانسحاب من لبنان، جيشاً ومخابرات. لكنه لن يتخلى على الأرجح عن خلاصة متوقعة وهي ان القرار 1559 لم ينفذ كاملاً بعد، فالجزء الآخر منه مطلوب من لبنان وسورية معاً، خصوصاً في ما يتعلق ببسط سلطة الدولة اللبنانية على كل أراضيها، بما يعنيه ذلك من إنهاء لسلطة"الميليشيات"، والمقصود هنا هو"حزب الله"ووجوده المسلح في جنوبلبنان. الفارق بين ان يقدم رود لارسن تقريره في 19 الجاري أو بعد اسبوع، هو امكان مواصلة الضغط على سورية فيما هي تنفذ الانسحاب قبيل انتهائها منه، لذلك اتخذ الأمين العام للأمم المتحدة مبادرة تأجيل التقرير، مجازفاً بتحمل الاستياء الاميركي والفرنسي من عدم احترامه المواعيد المحددة مسبقاً لمراجعة التقدم الحاصل في هذا الملف. لكن شيئاً لن يمنع واشنطنوباريس من استخدام الضغط لأن الاستحقاقات المتبقية من القرار 1559 ومنها ايضاً اجراء الانتخابات، لها علاقة بسورية ودورها المرشح للاستمرار في لبنان من خلال الموالين لها داخل الحكم والدولة والوسط السياسي. ولم يتأخر الرئيس الاميركي في اعلان نيات ادارته حيال سورية في المرحلة المقبلة. فالانسحاب سيبقى تحت المجهر للتأكد من استكماله، وسيكون من الصعب القول انه انجز في جانبه الاستخباري، في انتظار ان تبدأ الاجهزة اللبنانية العمل بطريقة تبرهن على استقلاليتها. ثم ان المطالب"الثابتة"من سورية لا تزال مطروحة، كما توحي تصريحات جورج بوش، سواء في ما يتعلق بالعراق أو بمكاتب الفصائل. وعلى رغم الترحيب الأميركي بالحكومة اللبنانية الجديدة، فإن واشطن تعرف جيداً ان الرئيس نجيب ميقاتي تسلم منصبه بتزكية سورية، واستطاع تأليف حكومته بتسهيلات سورية، بل ان تسعة من أربعة عشر وزيراً مصنفين كموالين، والموالاة كانت ولا تزال لسورية لا لأي جهة أخرى. لكن شخصية ميقاتي ومواقفه وعلاقاته الهادئة مع مختلف الأطراف وميله الى الانفتاح والتحاور جعلت منه سورياً"لايت"مناسباً لمرحلة انتقالية يفترض ان تغتنم لحل المشاكل بدل مفاقمتها. الافضل ان تحترم واشنطن كما يبدو ان باريس تفعل متطلبات هذه المرحلة الانتقالية لبنانياً. فهذه الحكومة لا يمكن الضغط عليها بمسألة"حزب الله"التي أصبح واضحاً انها تستلزم توافقاً لبنانياً يعالجها من دون تشنجات. ففي مقابل الفريق اللبناني الذي يعتبر ان مهمة المقاومة التي يتولاها"حزب الله"انتهت وبات عليه ان يكتفي بوجوده كحزب سياسي، هناك فريق آخر كبير مقتنع عن حق بما يقوله الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله، وهو ان حزبه ليس ميليشيا بمعنى انه ليس زمرة مسلحة ضد الدولة اللبنانية أو متمردة عليها أو متحدية لسلطتها، وانما هو خيار موجود بعلم الدولة والجيش وهدفه ردع أي عدوان اسرائيلي، وطالما ان نية العدوان ونهجه موجودان بقوة في السياسة الاسرائيلية فلا مجال للاستغناء طوعاً عن خيار المقاومة. الواقع ان هذه الاشكالية، بصيغتها هذه تحديداً، مرشحة لأن تحول أيضاً دون التوصل الى توافق لبناني على حلها. فهذا يعيدنا الى جدل مزمن في لبنان ولم يمكن حسمه لأنه لا يتعلق بخيارات داخلية فقط. كما يعيدنا الى طروحات تحييد لبنان في الصراع العربي الاسرائيلي، ومع وجود ايران في المعادلة اصبح ذلك الصراع اقليمياً اسرائيلياً. لذا بدا"التحييد"مستحيلاً بل غير عملي، والسبب ان الجميع، الجميع بلا استثناء من سورية وايران الى اسرائيل والولاياتالمتحدة، غير مستعدين لاحترام هذا التحييد وانما قد يقبلونه بشرط ان يعتبر لبنان"ساحة"مفتوحة لهم جميعاً، وان يكون لكل منهم زبائنه اللبنانيون فيتصارعون بطوائفه وفئاته. في مثل هذه الحال، قد يفضل اللبنانيون ابقاء الوضع الراهن كما هو، لأنهم لا يحبذون الانتقال من تحت الهيمنة السورية الى وضعية استخدام لبنان ضد سورية. فهذا أفضل وصفة لعدم استقرار داخلي مبرمج لا يرغب فيه أحد. ستحتفل الولاياتالمتحدةوفرنسا آخر نيسان ابريل بأول"انتصار"سياسي يحققه تحالفهم المستعاد عبر الانسحاب السوري من لبنان، بعد خصامهم الشرس على حرب العراق. لكن الاحتفال سيكون فاقد المعنى إذا لم تكن لديهما أفكار ل"اليوم التالي"في لبنان، وهذا اليوم التالي بدأ منذ الآن. إذا كانت اميركا ستستخدم طريقتها المعهودة بجلافتها ونشوائيتها للتعامل مع قضية"حزب الله"فلن يعني ذلك شيئاً آخر غير ان واشنطن هي التي تسعى هذه المرة الى حرب أهلية في لبنان. وإذا كانت اميركا مستعجلة حقاً لحسم هذا الملف فما عليها سوى ان تفعل ما هو بمقدورها، وهذا يتوفر من طريقين: اما استئناف التفاوض السوري الاسرائيلي، أو حظر أي تدخل اسرائيلي من أي نوع كان في لبنان. هناك حاجة ماسة الى ضمانات دولية تجنب لبنان في المرحلة الانتقالية من الانزلاق الى توترات طائفية حتى لو لم تكن قادرة على التحول الى حرب أهلية. يتضح من تصريحات بوش ان واشنطن لا تزال تعارض استئناف المفاوضات بين سورية واسرائيل، فهل هي تعارض أيضاً منع التدخل الاسرائيلي في لبنان، وما رأي فرنسا في ذلك، خصوصاً انها حريصة على ان تبدو معنية فعلاً بالاستقرار في لبنان؟ ما يجري على الساحة الفلسطينية لا يعطي اللبنانيين أي شعور بالاطمئنان، كذلك ما يجري في العراق، فالولاياتالمتحدة تتبرع بتبشيرات التغيير لكنها لا تتحمل أي مسؤولية بتوفير ضمانات لما بعد التغيير.