قبل 30 سنة تقريباً، تم افتتاح الحوض الجاف لبناء وإصلاح السفن في البحرين. وكان هذا المشروع الضخم والأول من نوعه في الشرق الأوسط، والذي كلف نحو 300 مليون دولار وساهمت في تمويله الأقطار الأعضاء في منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول أوابك، واحداً من مشاريع البنى التحتية والصناعية المتعددة إلى جانب البتروكيماويات والألمنيوم التي أقدمت عليها البحرين إثر الطفرة النفطية الأولى في أوائل عقد سبعينات القرن الفائت. أما اليوم، وبعد اكتمال البنى التحتية والصناعات الثقيلة، تحاول مملكة البحرين إيجاد دور اقتصادي جديد لها يتلاءم ويتفاعل مع متغيرات المنطقة المتخمة بالسيولة النقدية الناتجة عن الطفرة النفطية الثانية. يتميز الدور الاقتصادي الجديد في تأسيس المشاريع والخدمات الصغيرة ذات النوعية الجيدة، والمتجهة إلى التصدير من جهة، وتطوير وتحسين اداء ودور المؤسسات المالية القائمة والتي تأسست في العقود الثلاثة الماضية من خلال التحديث المستمر للأنظمة والقوانين لكي تتوافق مع الأعراف الدولية الجديدة من جهة أخرى. وتقدم البحرين على هاتين الخطوتين في آن واحد، آخذة في الاعتبار أن ريعها النفطي محدود جداً إنتاج 36 ألف برميل يومياً من حقل البحرين و150 ألف برميل يومياً من حقل أبو سعفة المشترك مع السعودية، وسوقها الداخلية المحدودة، وشبح البطالة المخيم على الكثير من الشباب، والتأقلم مع انفتاح الخطوة خطوة نحو الديموقراطية، والذي هو ربما أصعب التحديات التي تواجهها الدول العربية في هذه المرحلة. استطاعت مؤسسة نقد البحرين البنك المركزي طوال الحقبة الماضية تطوير صرح مالي صغير بالمقياس العالمي، ولكن ذات سمعة ونوعية جيدتين مدعومتين بالثقة والشفافية. كما استطاعت استقطاب الكثير من رؤوس الأموال في ظل المنافسة القوية من المراكز والمؤسسات المالية الأخرى في المنطقة. فليس من باب الصدفة، مثلاً، أن يتواجد في البحرين اليوم نحو 360 مصرفاً مالياً، منها البنوك وشركات التأمين والبيوت الاستثمارية والمؤسسات المالية الإسلامية. وليس من المستغرب أن تحوز البحرين على ثقة المستثمرين، وقد صنفت من قبل ستاندرد أند بور وفيتش-A لناحية العملات الأجنبية و A لناحية العملة المحلية. وخير مثال على ما تحاول البحرين تحقيقه مستقبلاً هو تقديم نفسها كمركز مالي إسلامي من خلال استضافة العديد من المصارف المالية التي تتبع الشريعة الإسلامية في معاملاتها المصرفية. وتم منح أول رخصة مصرف إسلامي عام 1979. ويكمن النجاح في تطوير الأدوات والخدمات التي توفرها هذه المصارف، وتشريع الأنظمة والقوانين التي تؤهل مؤسسة نقد البحرين الإشراف الدقيق والمستمر على أعمالها من أجل توفير الثقة اللازمة لدى المستثمرين من ناحية، والمؤسسات المالية الدولية من ناحية أخرى. هناك في البحرين اليوم 28 مصرفاً إسلامياً و 16 مؤسسة تكافل تأمين وخمس مؤسسات مالية مساندة ذات علاقة. وتقوم مؤسسة النقد ليس فقط بالإشراف على هذه المؤسسات والتأكد من تنفيذها الأنظمة المرعية، بل تعمل أيضاً على توسيع سوق الخدمات والأدوات التي يتعاملون بها. ومن الجدير بالذكر، أنه قد تحقق نمو وازدهار البنوك المالية الإسلامية في البحرين بعد 11 أيلول سبتمبر والتداعيات ضد المؤسسات المالية العربية والإسلامية في الخارج. فقد بلغت قيمة صكوك الإجارة السندات التي سوقت حتى الآن أكثر من بليون دولار. ولم يكن في إمكان البحرين استقطاب هذه المؤسسات والأموال بالكمية والنوعية المتوافرة لولا وجود الإطار القانوني الذي يضمن الشفافية من جهة، والذي تم تطويره باستمرار وخطوة خطوة، ولولا ابتكار خدمات جديدة تتلاءم مع الشريعة الإسلامية والمنطلقات المصرفية العالمية من جهة أخرى. كما تحاول البحرين التركيز مستقبلاً على المشاريع الصغيرة ذات القيمة المضافة، بدلا من المشاريع الصناعية الضخمة، واستقطاب الصناعات التصديرية المتخصصة التي تطمح الى ولوج السوق الأميركية الضخمة بعد التصديق على اتفاق التجارة الحرة. إلا أن السوق الأساسية للبحرين كانت وستبقى دول الخليج الأخرى، وهذا يشمل عمل المصارف، والنشاط السياحي، وخدمات التأمين. وقد ساعد بناء الجسر مع السعودية، والتخطيط الآن لبناء جسر آخر مع قطر، على إعطاء زخم كبير للبعد الاقتصادي يتضح في زيادة السياحة، وفي فتح المجال لتوسيع آفاق فرص العمل وتسهيلها ما بين البحرين والدول المجاورة، بحيث يستطيع الموظف والعامل الذهاب والإياب إلى مقر عمله في الدول المجاورة والعودة إلى مسكنه في المساء، وفي الفوائد العائدة للجميع من هذه العملية. وقد كثفت البحرين جهودها في الأعوام القليلة الماضية من أجل تنويع قاعدتها الاقتصادية، وهناك مشاريع بمئات الملايين من الدولارات قيد التنفيذ أو التخطيط لهذا الغرض، منها تشييد مرفأ البحرينالمالي، ومنتجع العرين الصحراوي الذي يوفر منتجع الواحة الصحي فيه نظاماً كاملاً للرعاية الصحية والعلاجية، ومشروع جزر أمواج، ومدينة المرسى العائمة التي تشمل 215 فيلا ذات واجهة مائية وشاليهات وشقق، وتوسيع مطار البحرين، والمدن الرياضية بعد أن شجع سباق"الفورمولا - 1"على تشييد المزيد من المرافق الرياضية. وتحاول البحرين أن تبني وجوداً إعلامياً لنفسها على الخريطة الدولية من خلال برامج عدة، لربما أهمها سباق السيارات"الفورمولا واحد". لكن، من الملاحظ، أن إلى جانب البعد الدولي يتطلب إعطاء اهتمام أكبر لدول الجوار لتواجد الكثير من عشاق سباق السيارات في المنطقة والذين كان من الممكن أن يكون لهم حضور أوسع في السباق الأخير لو تم التوجه إليهم بشكل واف. أخيراً، إن ما يميز البحرين عن معظم الدول الاقليمية الاخرى في هذه المرحلة بالذات هو محاولتها اتخاذ خطوات صغيرة ولكن مهمة على طريق الاصلاحات السياسية إلى جانب الاقتصادية منها. وهذا هو الأصعب. وتكمن أهمية البحرين في أنها تخوض هذه المرحلة الصعبة الآن وقبل غيرها، مما يعطيها موقعاً مميزاً في المستقبل. والمعادلة صعبة وليست سهلة، فمن دون الاستقرار السياسي والأمني لا يمكن اجتذاب رؤوس الأموال. ومن دون توفر الاستثمارات لا يمكن التغلب على البطالة وتحقيق الضمان والسلم الاجتماعي.