أصبح الإعلان أحد المحاور الرئيسة التي تمارس تأثيراً مباشراً في المستويين الثقافي والإعلامي العربي, بما يحتله من مكانة خاصة في مضمون وسائل المعرفة الجماهيرية. ويمكن حصر خطورة الإعلان وتأثيراته الجانبية في الدول العربية, من خلال الالتجاء إليه كوسيلة مهمة من وسائل تمويل المؤسسات الثقافية والإعلامية، خصوصاً هيئات الإذاعة والتلفزيون والاتصال والثقافة الجماهيرية وصناعة المعلومات, مع اتساع تطبيق أشكال متفرقة من نظم الاقتصاد الحر. ولعل لتعدد الفضائيات التلفزيونية الدولية والعربية تأثيره الكبير في تنمية ثقافة الإعلان التجاري والمغالاة في الالتجاء إليه وما يعكسه من مضمون، قد يعكس تطلعات وأفكاراً تسير غالبيتها في اتجاهات معاكسة للدور الثقافي والاجتماعي المنوط بهذه الفضائيات وأهدافها التنموية, ولما يمكن أن تحققه في مجالات ترشيد الفكر والمعرفة في مجتمعات الدول العربية. ويطرح هذا المنطلق الكثير من النقاط المحورية التي تدور حول علاقة الإعلان وتنامي دوره في المضمون الإعلامي, خصوصاً التلفزيوني الأرضي والفضائي العربي, على حساب عدم الأخذ في الاعتبار تنمية المضمون الكلي للبرامج المختلفة وتجويدها في وسائل الثقافة الجماهيرية المتعددة, خصوصاً في عصر الهيمنة والاستراتيجيات الفكرية المعادية القائمة على أطروحات عدة مثل هندسة التاريخ واستغلال الفكر في تحريف المفاهيم والحقائق, والغزو الثقافي والمعرفي من طريق جمع المعلومات عن الآخر, والتي تحاصر الفرد وتحلل أهم عاداته وتقاليده واتجاهاته المختلفة وقيمه لنسج أفكار توجه كلها لصنع ملامح عصر جديد يتضمن آليات جديدة للسيطرة والتحكم الفكري والثقافي, بهدف مزيد من التحكم والسيطرة الاقتصادية والسياسية. نهتم بصفة خاصة بالإعلان التلفزيوني لأنه أصبح الوجه المتكامل لمنظومة السيطرة الحديثة الفكرية والثقافية والاقتصادية, الناتجة من تطويع فنون وعلوم تتصل بالعلاقات العامة والنفس والاقتصاد والسياسة لصنع مضامين حديثة لمخاطبة العقل والإحساس والعاطفة في آن, من طريق لغة الإبهار المرئي والمسموع, واستدعاء فنون مختلفة لترجيح جوانب الإبهار البصري، ما يعزز ثقافة هابطة تتخللها كلمات وإيماءات, لا يراعى فيها النطق السليم, متخذاً في الكثير من الأحيان النموذج الغربي في إنتاج هذه الصناعة. ولعل هناك أسباباً أخرى تتعلق بتأثير الإعلان كشكل جديد لتقديم الفكر في مضامين إبهارية من طريق العرض والمعالجة, وبصفة خاصة في الأشكال الغنائية مثل "الفيديو كليب", في الفضائيات العربية وبعض أشكال الدراما التلفزيونية والفيلم السينمائي. ولإيضاح التحديات التي يمكن أن تواجه الدول العربية وثقافتها إذا ما استمرت في التوسع في الأخذ بسياسة الإعلان التجاري، نقوم باستعراض لمحة موجزة لأهم النقاط المحورية التي تباعد بين أهداف الإعلان ووظائفه في الدول الغربية المتقدمة في العلوم والتكنولوجيا... في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وأهم وظائفه في دول العالم العربي كدول آخذة في النمو, مشددين في تلك اللمحة على أهم الاختلافات. مع تأكيد أن هناك ضوابط ومعايير تتمسك بها الحكومات في الدول المتقدمة في الغرب, خصوصاً أوروبا, في مواجهة تلك السلطات الواسعة لوكالات الإعلان للحد من هيمنتها على مضمون البرامج التي تقوم بتمويلها. وإلى جانب ذلك هناك الرقابة الاجتماعية التي تمارس من خلال قوى الضغط الاجتماعي من الأفراد والجمعيات. ولأهمية إيضاح هذا المحور نقوم باستعراض أهم الاختلافات بين البيئة الاجتماعية للإعلان في دول العالم الصناعي المتقدم, والبيئة الاجتماعية للإعلان في دول العالم العربي, فهناك اختلافات تدور حول نقاط أهمها: أولاً: البيئة الحاضنة للإعلان في دول الغرب المتقدم ومجتمعاتها, دافعة للتطور والتقدم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والاستقرار السياسي. وينظر إلى الإعلان كعنصر من المقومات اللازمة والدافعة للتطور الاقتصادي والعلمي. فنشأة الإعلان في دول الغرب المتقدم كعنصر من العناصر المنشطة للإنتاج الصناعي الواسع والمتنوع في تلك الدول ارتكزت أساساً على نتائج التطور العلمي في مجالات بحوث وعلوم العلاقات العامة والنفس والاجتماع والاقتصاد, فأصبحت أهميته في تلك الدول تتضح مع تطور المجتمع وزيادة النزعة الاستهلاكية, بعدما حققت تلك الدول ارتفاعاً في مستوى الدخل القومي للفرد والجماعة, وحققت قدراً من الرفاهية والتحديث والرقي والانسجام بين الدخل والاستهلاك, بعد فترات من البناء الاقتصادي والاجتماعي والفكري, وبخاصة بعد الحروب العالمية الأولى والثانية وما لحقها من نكسات فكرية ونفسية واجتماعية واقتصادية. وكان من الطبيعي أن تتنامى لدى الأفراد والجماعات في تلك الدول رغبة في التعويض النفسي, عن تلك الفترة القاسية التي عاشتها دول أوروبا الغربية من دمار وهوان, خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية, فانطلقت بكل طاقاتها لتحقق هذا المخطط بالعمل الجاد لإعادة تشييد المدن والمصانع وهياكل البنية الأساسية اللازمة, وتحديثها لاستعادة قدرة الإنسان على التطوير والإجادة, وتهيئة ظروف حضارية حديثة للاستمتاع بأوقات الفراغ المتاحة, كمفهوم حديث لم ينشأ إلا مع نهاية الخمسينات بعد تحديث المجتمعات. فالإعلان كان من أهم أهدافه ووظائفه الأساسية في تلك الدول الحديثة, إرشاد الفرد والجماعة إلى أهم الاختيارات المتاحة, وأيضاً زيادة مقومات الترغيب في الاستهلاك نتيجة لزيادة الدخول, وخلق اهتمامات اجتماعية وسلوكية واقتصادية جديدة قائمة على مفاهيم اجتماعية نشأت بفضل التطور الواسع في التصنيع والعمل الجاد والمتطور, أتاحت وجود مناخ للمنافسة بين المشروعات, وتدعيم مدلول البقاء للأصلح في جودة إنتاج السلع والخدمات الأوروبية, وأيضاً في مجالات الرياضة والثقافة الجماهيرية, نتيجة لتعدد وسائلها واتساع أصدائها لدى الأجيال الجديدة في المجتمعين الأوروبي والأميركي, وبخاصة بعد التقدم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والصحة والاختراعات في مجالات عدة لبناء الجسم والعقل, وازدهار صناعة السينما ونشأة الجريدة السينمائية الناطقة التي استغلت لأهداف اقتصادية وأيضاً سياسية وثقافية لتدعيم صورة المجتمع الحديث, للإفصاح عما وصل إليه الإنسان هناك من رفاهية وقوة خلال عمليات التشييد والبناء والتطوير. ثانياً: تفرض هذه النقطة كمنطلق فكري وقفة تأملية, خصوصاً في تلك المرحلة من التحول الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي, في مفهوم الإعلان كأحد العناصر المهمة من منظومة عملية الإعلام والاتصال الجماهيري من حيث الأهداف والوظائف, خصوصاً في المجتمعات العربية. فيجب التأكيد أن وظائف الإعلام وأهدافه يجب أن ترتبط بمفهوم يختلف في أهدافه ودوافعه وآلياته عن الدول والمجتمعات النامية. ذلك أن تلك العملية هي في حقيقة المعنى والمفهوم متنوعة ومختلفة نظرياً وعملياً وتطبيقياً في أمور جوهرية، وبصفة أساسية إذا أدركنا أن الإعلام كمفهوم حديث في المجتمع الإنساني, لم تتأكد وتترسخ في الأذهان مهماته ووظائفه, إلا مع البدايات الأولى للقرن العشرين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة بعدما ظهر كوسيلة لها قدرة فائقة على التأثير والإقناع يمكن توجيهها في مجالات الدعاية السياسية والاقتصادية والتنمية الفكرية وتعميمها, وأيضاً في مجالات تنشيط العملية الاقتصادية, ثم استغل في ما بعد في تنمية الإدراك بالمفاهيم الفكرية والعلمية المختلفة للدعاية السياسية للترويج لمفاهيم قد تحل محل مسارات فكرية قائمة, لخدمة اقتصاديات الدول المتقدمة وأفكارها السياسية. من هذا المنطلق يمكن التأكيد أن الإعلان كمكون يدخل في إطار المضمون الكلي الإعلامي والثقافي يجب أن يأخذ في الاعتبار الأهداف الاجتماعية المحورية, وبصفة خاصة مقومات الفرد والجماعة كقوة بشرية يجب تهيئتها فكرياً وعلمياً وصحياً وثقافياً واجتماعياً, لئلا تقع في براثن الدعاية السياسية والاقتصادية التي قد تكون براقة في أحيان كثيرة للحض على توجهات ومسارات قد توظف في غير المصلحة العامة. ويلقي هذا البعد المهم الضوء على ضرورة إجراء الإصلاحات في مجتمعات الدول العربية, خصوصاً في المجالات المتصلة بظروف الفرد والجماعة كقوة بشرية يجب تنشئتها حتى تصبح أقدر على مواكبة التطور العلمي والاقتصادي، وكما حدث في دول الغرب المتقدم تحدث تغيرات جذرية في بيئة الفرد الاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية حتى يصبح الفرد أقدر على التعرض لمضمون المعرفة والثقافة الحديثة وانتقاء مضمون الثقافة والمعرفة وتقويمه, بما في ذلك فقرات الإعلان والدعاية المقبلة من دول ومجتمعات ليست مجتمعاتنا, همها الأول والأخير السيطرة الاقتصادية والفكرية. المشكلة في مجتمعاتنا النامية والعربية أن الإعلان أصبح بكل صوره هو الشق المهيمن على العملية الإعلامية, فأصبحنا لا نهتم إلا في أضيق الحدود بالمضمون الثقافي والفكري والتربوي بصفة عامة. وبصفة خاصة أصبحنا نهمل في إنتاج المضمون الفكري والثقافي والتربوي, هذا المضمون المتقن المدقق الذي يستطيع وحده أن يعزز صورتنا أمام أنفسنا ويعيد إلينا الثقة في ثقافتنا وتراثنا وقيمنا التي نريد تأكيدها، بدلاً من أن يصبح الإعلان أهم شق في عملية الإعلام بالمفهوم الواسع, فيدرج في أحيان كثيرة في المضمون الذي يتصل مباشرة بفكر الأمة وثقافتها وقيمها, وبطرق وأشكال لا تخدم سوى أهداف مادية تدعم أفكاراً استهلاكية في المقام الأول, كأشكال مفرغة من مضمونها وأهدافها التنموية. يلعب الإعلان في وسائل الإعلام العربية دوراً معاكساً تماماً للأدوار التي يقوم بها في البيئة الأوروبية والأميركية, فهو يعزز تغيير مسارات فكرية وثقافية في اتجاهات غير مرغوب فيها, نظراً إلى هيمنة مؤسسات الإعلان كمؤسسات تجارية تقوم على مبدأ الربح المادي في المقام الأول, وسيطرة هذه المؤسسات على جوانب متعددة وعلى تمويل البرامج المتعددة, التسجيلية منها والدرامية, وامتلاك بعض القنوات الفضائية. والهدف الأول هو جذب أعداد غفيرة من جمهور الشباب خصوصاً, فيقدم لهم محتوى لا يخدم أهداف التنمية الفكرية والثقافية المستقبلية. ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى هذا الكم من البرامج الدرامية والمسلسلات والأفلام والأغاني العربية المصورة, والتي تعرض أشكالاً للحياة تختلف عن عادات وتقاليد ونمط الحياة الاجتماعية العربية, بل عن متطلبات التنمية الاجتماعية والفكرية, فهو إعلان غير مباشر لأسلوب حياة مشوه للنمط الغربي. وتصاحب هذا كله استهانة باللغة الإعلامية العربية لتتلاءم الألفاظ مع تركيبات لغوية مغلوطة حتى يصبح الإعلان أكثر جاذبية, فتدخل ألفاظ لغوية جديدة في مجالات اللغة الدارجة في حياة الأفراد والحديث اليومي, والتي لاقت أصداء واسعة لدى الشباب العربي, الذي يعاني أصلاً من الكثير من القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن هذا المنطلق المتعدد الاتجاهات, والذي يوضح خطورة عدم ترشيد المضمون الإعلاني في مضمون إعلامنا العربي, يجب التشديد على ضرورة وضع آليات جديدة لصناعة الإعلان كجزء من المضمون الثقافي والإعلامي الكلي, والأخذ في الاعتبار أهمية العناية بثقافة الفرد وحقوقه في تلقي المعلومة الصادقة وغير المضللة بفعل ثقافة الإعلان, التي أصبح يغلب عليها في كثير من الأحيان ليس فقط مصلحة أصحاب رؤوس الأموال على مصلحة ثقافة وفكر الأمة, بل قد تستغل في ترجيح مصالح أفراد وحكومات وسياسات وثقافات خارجية مغرضة في الكثير من الأحيان, فيوظف الإعلان, في عصر تتنامى التحديات التي يواجهها المجتمع العربي حديثاً, خصوصاً الفكرية, لذلك يجب أن نتدارك خطورة هذا الموقف بالتدقيق في توظيف الإعلان التجاري, ووضع آليات جديدة لئلا يصبح أداة للسيطرة من خلال لغة الإبهار لتعزيز مواقف وأهداف قد تكون لها تأثيراتها الجانبية بمزيد من التغييب للعقل العربي. أستاذة الإعلام - جامعة القاهرة.