بدأ الرئيس التركي احمد نجدت سيزار أمس زيارته الرسمية الأولى الى سورية. و تأتي الزيارة تتويجا لتقارب متميز بدأ بين البلدين عام 1999 وتسارعت خطواته مع وصول حكومة حزب"العدالة والتنمية"الى السلطة في تشرين الأول نوفمبر 2002، خلال هذه الفترة زار دمشق عدد كبير من المسؤولين الأتراك، من رجال أعمال وأكاديميين وبرلمانيين ووفود شعبية في ما يبدو محاولة لوصل ما انقطع مع تفكك الدولة العثمانية وظهور دولتي سورية و تركيا الحديثتين. لكن المتتبع لمسار التحول السياسي - الاجتماعي في البلدين الجارين يجد أن القطيعة التي سببتها الحرب العالمية الأولى وعمقتها سنون الحرب الباردة ولعبة التحالفات الإقليمية التقليدية لم تستطع أن تخفي التماثل الهائل في مسيرة تطورهما التاريخي. فالقومية العربية هي توأم القومية التركية, والاثنتان وليدتا الفكر الألماني. تأثرتا ببسمارك وحاولتا السير على خطاه في تحقيق الحلم القومي. وبسبب نزوع الفريقين الى إقامة مشروع قومي أساسه العرق والاثنية واللغة كان لا بد من الافتراق. لكن الأتراك كانوا أوفر حظا من إخوانهم العرب فلم يقعوا تحت الاحتلال الغربي بل قاوموه بشدة وأحبطوا محاولاته احتلال بلادهم وتقسيمها الى مناطق نفوذ. وبعد التخلص من التهديد الخارجي بدأ اتاتورك - الذي قاد الجيوش التركية في معركة"جناق قالة"الشهيرة ضد الحلفاء - مشروع تحديث الدولة والمجتمع. فقاد أول انقلاب عسكري في العالم الإسلامي على النخب السياسية الحاكمة التي اتهمها بالضعف والفساد, وأعلن قيام دولة تركيا الحديثة. قرر اتاتورك أن نتائج الحرب لم تكن كلها كارثية بل ساعدت تركيا على التخلص من أعباء أقاليمها في المنطقة العربية والبلقان, وبالتالي أفسحت المجال أمام انطلاق مشروعها النهضوي الحديث. ولتأكيد عدم وجود طموحات إقليمية لبلاده أطلق الزعيم التركي شعاره الشهير"سلام في الوطن، سلام مع العالم". اعتبر اتاتورك الذي تأثر بالتجربة الأوربية أن الإرث الديني والثقافة الشرقية هما أسباب تخلف تركيا عن الركب الحضاري فاخذ يحاربهما رافعا ثلاثيته الشهيرة"العلمانية، الجمهورية، الدولة المركزية". وانطلاقا من الحاجة الى ما اعتبره نهجا انقلابيا، اعتمد اتاتورك في مسيرته التحديثية على النظرية النخبوية معتبرا أن تطوير المجتمع التركي"المتخلف"هي مسؤولية النخب"المتنورة", فحاول فرض مشروعه على المجتمع بالقوة مستلهما في ذلك كتابات الفيلسوف التركي الشهير ضياء غوكالك حول التتريك والتحديث والتغريب. وتحول اتاتورك الى ملهم لكثير من قادة العالم الإسلامي الذين حاولوا تقليد مشروعه بنجاح متفاوت, فكان له تأثير طاغ على محمد علي جناح مؤسس باكستان الحديثة والشاه محمد رضا بهلوي الذي انتهت محاولاته تقليد اتاتورك الى كارثة. في العالم العربي أيضا كان للزعيم التركي معجبون. إذ استلهم الحبيب بورقيبة الكثير من سياساته في حين حاول البعث في سورية والعراق تقليده في فرض التغيير من الأعلى والتأكيد على دور المؤسسة العسكرية والحزب الواحد في قيادة عملية التحديث، والقضاء على النخب المجتمعية التقليدية وفرض هيمنة الدولة على المجتمع في إطار مشروع التحول الاجتماعي - السياسي. بعد وفاة اتاتورك استمر الجيش في لعب دور مهم في الحياة السياسية التركية. وحتى عام 1950 ظل حزب الشعب الجمهوري الذي أنشأه الحزب القائد للدولة باعتباره وصيا على ارث مؤسس تركيا الحديثة. لكن الضغوط الداخلية والخارجية دفعت في اتجاه إصدار قانون للأحزاب عام 1945 ثم إجراء أول انتخابات تعددية بعد ذلك بخمسة أعوام. منذ ذلك الوقت اخذ الجيش ينأى بنفسه تدريجا عن السياسة باعتبار أن دوره حماية الأمة وليس قيادتها, وكان يتدخل فقط عندما يشعر بوجود خطر على الدستور والقيم الجمهورية العلمانية. وعليه تدخل الجيش في ثلاث مناسبات مختلفة في أعوام 1960 و1971 و1980, لكنه كان ينسحب بهدوء بعد ذلك ويعود الى تسليم السلطة الى المدنيين. الا ان نقطة التحول نحو ديموقراطية حقيقية بدأت فقط عام 1983 عندما سمحت المؤسسة العسكرية بإجراء انتخابات تعددية حملت تورغوت اوزال ? الأب الروحي لنهضة تركيا الاقتصادية الحديثة - الى رئاسة الحكومة. جاءت هذه الخطوة بعدما سادت قناعة مفادها أن تركيا تجاوزت اصعب المراحل في تاريخها المعاصر وأسست لاستقرار سياسي عماده سلطة المركز. لكن سرعان ما تبينت هشاشة هذا الاستقرار المصطنع المفروض بقوة الدولة بدل أن يكون نتيجة حالة سلم اجتماعي تعاقدي أساسها العدالة الاجتماعية والحرية الفردية والرخاء الاقتصادي. وبذلك بدأ الربط بين الاستقرار السياسي والاستقرار الاجتماعي الذي يتطلب بدوره حل المشكلات الاقتصادية وتحريك عجلة التنمية, ومن هنا كانت البداية. خلال هذه الفترة اتضح للأتراك أن الدولة المركزية القوية قد تكون نجحت في الحفاظ على وحدة البلاد، تأكيد هويتها الوطنية وحمايتها من أعداء الخارج، لكنها في المقابل فشلت فشلا ذريعا في حل المشاكل الاقتصادية كما أسهمت في تفشي ظواهر اجتماعية خطيرة أبرزها الفساد وتصدع الإدارة وتدهور القضاء وتفسخ قيم المجتمع وانعدام أخلاقيات العمل. وهكذا بدا التحول نحو اقتصاد السوق وتقليص دور الدولة - الذي أكد عليه اتاتورك - كمخرج وحيد من الأزمة الخانقة. لكن هذا التحول كانت له مشاكله، فقد تبين أن نقل بعض مسؤوليات الدولة الى المجتمع سيؤدي الى نتائج اجتماعية خطيرة إذا لم يترافق مع إصلاح سياسي حقيقي تتحمل فيه الحكومة مسؤولياتها أمام الشعب ويمارس البرلمان دوره الرقابي بشكل يقضي على الإفرازات السلبية التي غالبا ما ترافق عمليات التحول الاقتصادي. فالشعب لا يمكنه تحمل آثار الانتقال الباهظة من دون الحصول على مقابل مغر يكون عماده إطلاق الحريات العامة والسماح بإنشاء أحزاب سياسية وصحافة حرة ومؤسسات مجتمع مدني تتحمل جزءاً من مسؤوليات الدولة المتقلصة في مراقبة القطاع الخاص والدفاع عن مصالح الفقراء والسيطرة على أمراض التحول الاقتصادي - الاجتماعي. وهكذا بدأت عجلة الإصلاح السياسي بالدوران فجرى وضع دستور جديد حفظ الحقوق الفردية واقر مبدأ فصل السلطات بغية قيام نظام ديموقراطي برلماني. و راعى الدستور توزيع مهمات السلطة التنفيذية بين مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية الذي تنتخبه الجمعية الوطنية البرلمان بغالبية الثلثين لمدة سبع سنوات, وصلاحياته بشكل عام هي صلاحيات أي رئيس في أي نظام دستوري برلماني ديموقراطي، أي انه يلعب دور الحكم المحايد ويقف فوق جميع الأحزاب. لكن الخطوة الأكثر أهمية كانت في تشكيل مجلس للأمن القومي يرأسه الرئيس ويضم كبار القادة المدنيين والعسكريين. لا يتدخل المجلس في تفاصيل الحياة اليومية و ليست له توجهات أو انتماءات حزبية إنما يعالج الأمور الاستراتيجية التي تهم البلد ويناقش القضايا الكبرى, ويمثل كل الأمة. أما القضايا المحلية فتترك معالجتها للحكومة التي يحاسبها البرلمان بكل شفافية وفق مبدأ التوازن بين السلطات, ولا يتدخل المجلس في الأمور الداخلية إلا بغرض حماية الدستور أو الإرث العلماني كما حدث عام 1997 عندما جرت أطيح بحكومة زعيم حزب الفضيلة الإسلامي نجم الدين اربكان. هذا هو النظام الذي وضع تركيا على طريق الديموقراطية وفرض على اسلامييها درجة ملفتة من الاعتدال والبراغماتية على أساس أن أي حزب قادر على حكم البلد إذا التزم روح الدستور وقواعد اللعبة الديموقراطية التي تكفلها المؤسسة العسكرية وعلى رأسها مجلس الأمن القومي. السؤال الآن هو هل يمكن تطبيق النموذج التركي في سورية؟ من الملفت أن التجربة التاريخية لكلا البلدين تتقاطع مع الأخرى في كثير من النقاط على رغم بعض الخلافات التفصيلية. لكن الفارق الرئيس يبقى أن تركيا تتقدم على سورية في سياق تطورها السياسي - الاجتماعي بنحو ربع قرن تقريبا, وهي فترة القطع التي حدثت في تاريخ الأخيرة بسبب الاحتلال الفرنسي. بخلاف ذلك يكاد المراقب يشعر أن التجربة التركية تكاد تتكرر بشكل أو بآخر في سورية. فالبلدان يتميزان بوجود تنوع اثني وطائفي يجري التعامل معه بحزم من خلال التأكيد على العلمانية ? باختلاف الدرجة طبعا ? كضمان للسلم الأهلي، وشهد البلدان فترات من عدم الاستقرار السياسي كما عاشت الحياة الديموقراطية فيهما تجربة متقطعة قبل أن تستقر أخيرا في تركيا، ولعب الجيش دورا مركزيا في الحياة السياسية لكلا البلدين قبل أن يتراجع دوره في تركيا، ويتميز البلدان بوجود دولة قوية جدا في مواجهة مجتمع ضعيف قبل أن تعود العلاقة الى طور التوازن في تركيا، كما دخل البلدان في مواجهات دامية ? مع تفاوت في الدرجة ? ضد النزعات الدينية قبل أن تستقر الأمور لصالح النخب العلمانية، واعتمدت الدولة في كلا البلدين على الأدوات الأمنية والاقتصادية لتأكيد هيمنتها على المجتمع قبل أن تتراجع أهميتهما في الفترة الأخيرة، واعتمد البلدان في مرحلة معينة على الرمز - الأسطورة - والحزب الواحد للتأسيس لدولة الحداثة، وقامت نخب جديدة في كلا البلدين بالانقلاب على المجتمع التقليدي وقيمه حاملة مشروع تحول حداثي عماده التغريب والدولة والقومية والعلمانية. هناك بالتأكيد نقاط تماثل أخرى لا يتسع المجال لذكرها لكن المهم في الأمر أن المرحلة التي بلغتها تركيا عام 1983 تكاد تبدأ في سورية اليوم. فقد لوحظ خلال الشهور القليلة الماضية أن سورية بدأت تتخلى عن حذرها في التوجه نحو اقتصاد السوق لمصلحة القيام بقفزات نوعية كبيرة. هذه القفزات قد تكون لها نتائج وخيمة على الاستقرار الاجتماعي إذا لم تترافق بقفزات من النوع نفسه في المجال السياسي. والمعروف أن سورية حاولت خلال السنوات الأخيرة تجنب هذه المرحلة التاريخية الحتمية عبر محاولة الفصل بين السياسي والاقتصادي في عملية اللبرلة عملا بالنموذجين الصيني والماليزي. لكن هذه المحاولة لم تنجح لاختلاف الظروف السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بين سورية من جهة والصين وماليزيا من جهة أخرى. في حين تبدو التجربة التركية بجوانبها الفكرية والتطبيقية الأقرب والأكثر احتمالا ما يجعل النموذج التركي خيار سورية الوحيد في المستقبل المنظور. ولعل أهم ما يجب التركيز عليه في النموذج التركي في إطار الإصلاح السياسي المحتمل هو فكرة إنشاء مجلس للأمن القومي يحل محل الحزب القائد للدولة والمجتمع يقوم بدور الحارس على الدستور في حين تترك للأحزاب السياسية إدارة شؤون البلد اليومية من تحت قبة البرلمان في ظل حياة سياسية تعددية تتكافأ فيها فرص الجميع. * كاتب سوري.