انقضت سبعة شهور تقريباً منذ اجتماع عقد حركات وتيارات المعارضة اللبنانية على إنشاء حلف عريض ومتماسك. وكان ظهور عزم السياسة السورية وقيادتها على تمديد ولاية الرئيس اللبناني, او تجديدها، وتعديل الدستور لهذا الغرض الظرفي والمخالف مصلحة معظم اللبنانيين، جمهوراً وسياسيين، هو الباعث على التئام العقد الصعب هذا. فلما صدر القرار 1559 استباقاً للتدخل السوري الفظ، ولم يحل صدوره بين السياسة السورية وبين قسر النواب اللبنانيين على التمديد, ولا حال بينها وبين إلزام رفيق الحريري وكتلته الاقتراع للتمديد وتهديده بالقتل بحسب رواية تقرير بعثة فيتزجيرالد الدولية، وصرفه وحكومته، وتأليف حكومة مطواعة من سياسيين ثانويين، خطت حركات وتيارات المعارضة خطوات حثيثة صوب التنسيق فيما بينها. وآذن اغتيال واسطة عقد الحركات والتيارات هذه بتقريبها بعضها من بعض، وشد روابطها وأواصرها. وأظهر عرضُ جمهور المشتركين والمتظاهرين في اوقات كثيرة منذ الاغتيال، وأثرُ الجمهور العريض في المناهج السياسية الحزبية والتقليدية السائدة انشقاق بعض الأحزاب على نفسها جراء مواقفها من الاغتيال وذيوله، إحجام سياسيين عريقين في موالاة النظام السوري ووليده اللبناني عن المشاركة في الحكم، انتقال سياسيين آخرين الى مواقع جديدة... ? أظهر الأمران عمق التيار الوطني والمدني الناشئ عن رفض السياسة السورية ومفاعيلها اللبنانية. وشمل الرفض ابنية و"تقاليد"كانت للسياسة هذه اليد الطولى في ترسيخها بعد ابتدائها وابتكارها. وفي رأس الأبنية والتقاليد هذه علو مكانة اجهزة الظل ودور"ألوية موت"مستترة في تسيير السياسة العامة وتوجيهها، والحط بالسياسة العلنية وهيئاتها وأصحابها الى مرتبة تنفيذية وثانوية، وتقسيم الدولة والإدارة إقطاعات تجتمع خيوطها في يد خفية. وتصدر ربما الأبنية والتقاليد التي رسختها السياسة السورية، ورفضتها كثرة اللبنانيين وانحازت إليها جماهير غفيرة اعلنت انحيازها في تظاهرات سبقت اغتيال رفيق الحريري وأعقبته، شق اللبنانيين صنفين ومرتبتين: صنفاً اول عروبياً أي"سورياً", على قول رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الراحل محمد مهدي شمس الدين، يوالي السياسة الحزبية السورية، الإقليمية والدولية والمحلية، على مذاهبها واجتهاداتها كلها، وصنفاً ثانياً يُنسب تارة الى معنى اسرائيل, وتارة ثانية الى معنى"اميركا"المرادف المعنى الإسرائيلي، ويُنفى هذا الصنف في الأحوال كلها من الوطنية والعروبة والأهلية السياسية والإنسانية. والترتيب على مرتبتين يترتب، بدوره، على وقف"السياسة"على تلك التي ترسمها عقول القيادات العظيمة والخفية بمنأى من اهواء سواد الناس وانقسامات عامتهم، وبعيداً من رغبتهم العميقة في ارتكاب"الكوارث"على ما كان يقول"القوميون - الاجتماعيون"اللبنانيون - السوريون، وتابعهم على قولهم كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي الراحل. وبذريعة هذا الترتيب استبعد اللبنانيون، نخباً و"قيادات"طريفة وتليدة وجمهوراً، من إبداء الرأي المستقل والملزم في قوانينهم ودستورهم وهيئاتهم ومن يتولى التدبير فيهم. فنسبت سياسة المصرف المركزي النقدية الى موظف سوري سابق في البنك الدولي، قبل ان تصرفه"قيادته". ونيط التشريع الدستوري بمستشار حقوقي غير لبناني. وأهِّل ضباط القوات المسلحة وقوى الأمن في اكاديميات عسكرية"قومية". وتولت موظفة"ادبية"كتابة بعض خطب ورسائل وزراء خارجية لبنانيين. ورُد على إنكار هذا وغيره بتهمة العنصرية. وعيّر المنكرون والمتحفظون بسليقة لبنانية قديمة تبعث اللبنانيين على الاستنجاد بالقناصل الأجانب، على ما قال رئيس اقليمي في خطبة"لبنانية"قريبة، ونَقَل عن احد"المفكرين"السياسيين و"المؤرخين"المحليين و"العالميين" الموارنة. فانتُزع، على هذا، تدبير الأمور والشؤون الجدية من ايدي اللبنانيين، السذج والعملاء والمفتونين بالغرب وبأنفسهم وضعفاء النفوس وقليلي الخبرة ب"لعبة امم"لم يجيدوها يوماً ولا اجادوا"قوانين صراعها"و"إرادة ازماتها". وجعل التدبير هذا بيد من ينوب محلياً، تحت مراقبة حثيثة وصارمة، عن خبراء"لعبة الأمم"المعقدة، ومهندسي الصراع على الشرق الأوسط على الجبهات كلها: المقاومات الإسلامية والوطنية والفلسطينية والعراقية والإيرانية والتركية والأفغانية، وعلى جبهة البلديات والأقضية والمحافظات والطوائف والمذاهب والصحافة والمناهج المدرسية وكتب التاريخ والتربية الوطنية وفصل السلطات وأصول المحاكمات والهيئات النقابية والجبايات والمناقصات والتلزيمات والكفايات والمراتب الإدارية... ? اللبنانية. وفي اثناء الأشهر السبعة المنصرمة انبرى خطباء معارضون كثر للتنديد بالنظام الأمني وبعض اغتيالاته وسجونه واعتقالاته، وباصطناع طبقة سياسية هجينة ومتعادية، وتبديد المال العام، وسوس اللبنانيين بالتخويف والإهانة المتعمدة، والتستر على الكذب، وتوجيه الإعلام وكمّ الحريات والأحرار. ولكن قلة، ما عدا السهو والخطأ، تناولت اساس الأعراض والأمراض التي يندد بها ومقدماتها الأولى، وأرست خطبها وأقوالها ومواقفها طريقة مختلفة في معالجة الأمور والمسائل. فدعا الخطباءُ الجمهور العريض الذي ايقظه اغتيال رفيق الحريري - في اعقاب محاولة اغتيال مروان حمادة والتمديد القسري وحكومة"المخبرين"على ما سماها وزير مزمن سابق - على وطنيته المدنية اللبنانية والجامعة، الى التزام عهود ومواثيق وقوانين وسياسات ومنظمات أُقر بعضها او انشئ على نحو أريد به التفريق والاستعداء، وفي ختام عقود من التدمير العمد، وليس القصد او المقصود وحسب. فإشهاد"الطائف"في المناسبات والظروف كلها، وكأن"الطائف"كتلة واحدة، من غير تمييز ولا تخليص ما تماسك وصمد في الاختبار مما تهاوى وبدا عليه تقصد افتعال الخلاف وذرّه، وتضييع المسؤولية، وإضعاف السيادة، الإشهاد على هذا النحو اقرب الى أدب الخطابة"القومي"منه الى آداب السياسة المدنية والوطنية. وتنبيه"زعيم"المعارضة المفترض - وهو حقيقة مقدم احد تياراتها ولعله اقل هذه التيارات تجانساً مع معظمها - الى ان"الطائف"ينص على"العلاقات المميزة"بالنظام السوري وقيادته الحزبية والأمنية على خلاف القرار الدولي 1559، يلقي بتبعة شطر متنازع من"الطائف"على عاتق جمهور لم يُسأل رأيه، طوال الشهور السبعة المنقضية في الاتفاق العتيد وأجزائه ووجوهه وتأويلاته. والاستقواء ب"الطائف"، من غير فحصه ولا التأريخ الحقيقي والفعلي لملابسات صوغه وإقراره والاقتصار على القول انه"انهى الحرب الأهلية"وهي صفة لم تأخذ بها بهية الحريري في خطبة 14 آذار/ مارس، بل نددت بها وأنكرتها، هذا الاستقواء اشبه بالتخويف، ويبدو رداً على دواعي مناقشته الناجمة عن الوقائع وأطوارها وسياقاتها. وليست مناقشة ضرب"التعريب"الذي نجم عن الاتفاق ارتداداً عليه، ولا تنكراً لالتزاماته الوطنية العامة، وهذه بدورها ينبغي مناقشتها في ضوء مآلها العملي والتطبيقي، منذ اليوم. وكان الأحرى بالخطباء مناقشتها اثناء الأشهر السبعة المنصرمة. وأما التلويح ب"الطائف"، اليوم، لتثبيت"العلاقات المميزة"و"موضوع حزب الله سياسياً وعسكرياً"، و"حداثة ... إلغاء الطائفية السياسية"، و"وحدة الرؤية حول فلسطين"وحماية"الحرم الشريف و الهوية العربية والإسلامية للقدس"، وإفضاء"الانتخابات الفلسطينية ... الى دولة قابلة للحياة"، و"مصير الاحتلال الأميركي للعراق"وهذه كلها بنود في مؤتمر وليد جنبلاط الصحافي، في 10 نيسان/ ابريل، فيخرج التلويح من المناقشة الثلاثين سنة المنصرمة من تاريخ لبنان. والآراء والأحكام التي يدلي بها تقطع الطريق على محاسبة الثلاثين سنة، والسياسات التي ملأتها ب"الضجيج والغضب"أو بالقعقعة والعصف الأهوج. فالمسائل التي يعددها الزعيم الدرزي، ويقضي فيها بأحكام قاطعة يُلبسها لباس"سؤال"، على قوله، هي تلك التي سوغت ابتداء الحروب الملبننة، ولبننتها. وسوغت من بعد تطاولها، وانقلاب"السياسة"الى اللبننة والمطاولة هاتين، قبل ان تسوغ الوصاية و"الرعاية"الأمنية, واصطناع طبقة متسلطة ووكيلة. وكرست هذا كله في قسمة سياسية تُعلي الى مرتبة"استراتيجية"، وينبغي حجبها عن ايدي اللبنانيين، المسائل"الصراعية"التي يجردها جنبلاط باسم"الطائف"، وتحط الى مرتبة"المنافع"اموراً وعوائد توزع على سندة"الثوابت الاستراتيجية". فدفع القرار 1559، وحمله ضمناً على السياسة الأميركية و"مشروعها"، ونفض اليد منه وكأن ما انجزته المراقبة والمحاسبة الدوليتان هو من صنع"حماة طريق الشام"، بذريعة ان زعامات لبنانية"تسأل"عمّ بعد الانتخابات العراقية"الجميلة"، ونقلت لأن"هناك شريحة عراقية كبيرة لم تصوت"، وترى ان"إعادة التموضع حول غزة ... غير كاف"، يكاد يكون هذا دعوة ملحة الى الانفضاض، وإلى عودة المنسحبين وأجهزتهم الى"التموضع"في مواضعهم. فالمنطق الذي تنم به المقالات"المعارضة"هذه، وأشباهها، هو المنطق عينه الذي جعل لبنان واللبنانيين"ساحة"، او مسرحاً فرعياً واحتياطياً للمنازعات الإقليمية. ونسبة الاعتراض على هذا المنطق الى"الانفصال عن المحيط"، وتهمة الانعزال، تكرار ل"حجج"تستغني عن الاحتجاج بالكهانة ولغتها وقيافتها. وملء الشهور القادمة بمثل هذه الكهانة قد يكون"وفاء"، ولكنه ليس"وفاء لرفيق الحريري"قطعاً. وتخمين أسباب استئناف الارتكاس هذا في موقع الزعيم الدرزي الجبلي، وفي ضعف هذا الموقع المزمن الذي يكشف عنه في كل مرة فيها انحسار دور الوساطة"العربية"بين"الكتلة"المسيحية وبين القطب العربي الظرفي أو انكفاء هذا الدور، لا يقدم ولا يؤخر في المسألة الأساس. وهذه المسألة هي افتتاح الحركة التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري طوراً جديداً ومختلفاً في سياسة اللبنانيين، أي في إقبالهم على السياسة، ومناقشتهم السياسة وقراراتها العامة، ونصبهم في قلب الطور الجديد جامعاً وطنياً وتاريخياً مشتركاً ومركباً يرتضونه من غير إكراه. وتوريث هذا الطور مشكلات الطور السابق ومنها"مكانة"الزعيم الدرزي الجبلي من غير مناقشة، وفي ضوء حوادث تاريخ منصرم، تعسف وإكراه. وهو يبدو رداً ضيقاً على تآكل دور ومكانة لا راد له إلا ببعث منطق آفل ومدمر. وهذا يشبه شبهاً قوياً السياسة الحزب اللهية المستقوية بمكانة خسرت ثقلها وضمانها في إطار قواعد جديدة للعلاقات السياسية اللبنانية. و"حلف"القوتين إذا ثبت،وهذا بعيد، لا يثمر إلا تعظيم تورط الحليفين ولبنان معهما شأن قوم شمشون في استعادة"غلبة"، على قول حسن نصرالله"الخلدوني"، نهضت على الخواء، ولا تدوم إلا عليه وجراءه. كاتب لبناني.