قبل عامين ونصف العام، وقف الرئيس الأميركي جورج بوش منتشياً بين جنوده على متن حاملة طائرات في المياه الأميركية وخلفه شعار موجز معبر هو:"المهمة أنجزت". كان الخطاب احتفالياً وحماسياً ومشحوناً بتهنئة الذات على نجاح المهمة الجليلة التي بشر بها الرئيس وإدارته العالم: مهمة غزو العراق واحتلاله. قبل أربعة أيام، وقف الرئيس الأميركي نفسه بين جنوده في الأكاديمية البحرية الأميركية مخاطبا لهم بحماس جديد، ولكن الشعار خلفه هذه المرة هو"خطة للنصر"في العراق. في ما بين المناسبتين، لم يتشكك أحد في أن الغزو الأميركي للعراق قائم ومستمر والقوات الأميركية هناك مئة وستون ألفاً بخلاف ثمانية آلاف من بريطانيا وأقل من ذلك كثيراً من بضع دول تابعة قليلة يتناقص عددها شهراً بعد شهر. لم تكن الكلفة هي فقط عشرات البلايين من الدولارات، ولكنها أيضاً ألفاً قتيل أميركي بخلاف عشرين ألف جريح، وتلك هي الأرقام الرسمية التي تتجاوزها الأرقام الفعلية لأسباب عدة، من دون أن نذكر مئة ألف قتيل عراقي تتجاهلهم البيانات الأميركية. قبل عامين ونصف العام، كان أكثر من ثمانين في المئة من الشعب الأميركي متحمسين لمشروع غزو العراق. أما الآن، فإن ستين في المئة من الشعب الأميركي يطالبون حكومتهم بجدول زمني للانسحاب عسكرياً من العراق. جدول من شهور وليس سنوات. حديث الانسحاب الأميركي من العراق بدأ خجولاً ومتردداً ومتقطعاً قبل فترة، واحتاج إلى وقت طويل لكي يعلو ويتراكم. لكن الذروة لخصها في منتصف الشهر الماضي عضو الكونغرس الأميركي جون مارتا، وهو نفسه ضابط سابق في قوات المارينز ومن صقور الحزب الديموقراطي المعارض في الكونغرس وكان من الأصل متحمساً لمشروع غزو العراق مصوتاً وداعماً له منذ تلك الأيام التي كانت فيها الإدارة الجمهورية الحاكمة تحشد الرأي العام لمناصرة ذلك الغزو. وبعد زيارة ميدانية أخيرة قام بها للعراق عاد إلى أميركا ليقرر أنه أصبح مقتنعاً بأن:"قواتنا قامت بكل ما تستطيع عمله في العراق عسكريا ونحن لا نستطيع انجاز أي شيء إضافياً هناك، وحان الوقت لكي نبدأ في إعادة جنودنا إلى أرض الوطن". النائب الأميركي قال إن الحرب في العراق لا تسير كما تروج لها بيانات مسؤولي الإدارة، وان الفترة الزمنية التي يراها معقولة لسحب القوات الأميركية من العراق من دون الاضرار بها أثناء الانسحاب هي ستة أشهر، يقترح بعدها أن تبقى قوة رد أميركية سريعة في المنطقة تعززها قوات المارينز في سفن حربية قرب سواحل المنطقة. هذه الدعوة للانسحاب خلال ستة أشهر أثارت غضب الإدارة وحزبها الحاكم فناورت ضدها في الكونغرس. على رغم ذلك، قام 79 من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الجمهوري والديموقراطي بمطالبة الرئيس بوش بخطة واضحة ومفصلة للعراق تتضمن أهدافاً محددة وخطة زمنية لتحقيق كل هدف. مع تصاعد الأصوات المطالبة بالانسحاب الأميركي من العراق احتشد اليمين المحافظ - وليس فقط المحافظون الجدد - لدعم موقف الرئيس بوش وإدارته للبقاء في العراق عسكريا كقوة احتلال. فلننحِّ جانبا وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الذي كتب أن أي انسحاب أميركي من العراق سيكون كارثة بالنسبة لأميركا، وكذلك وزير الدفاع في إدارة ريتشارد نيكسون سنوات السبعينات ميلفين ليرد الذي كتب هو الآخر أن ما هزم أميركا في فيتنام لم يكن الفيتناميون، وإنما الكونغرس الأميركي. تابعنا مثلاً المقال الافتتاحي في الطبعة الأوروبية من جريدة"وول ستريت جورنال"بعنوان"انسحاب واشنطن"، ومقالاً افتتاحياً مماثلاً في مجلة"الإيكونوميست"البريطانية على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي بعنوان"لماذا يجب على أميركا البقاء"في العراق. كلتا الصحيفتين مهمة، من حيث تعبيرهما عن المصالح المالية الكبيرة في جانبي الأطلسي، مع ملاحظة أن"الإيكونوميست"تحديداً كانت سابقاً من أكثر المؤيدين والمتحمسين للحرب الأميركية في فيتنام مزايدة حتى على الحكومة البريطانية وقتها. الآن، تقول"الإيكونومنيست"إنها ترفض بشدة أي دعوات للانسحاب الأميركي من العراق، بل حتى مجرد وضع جدول زمني لهذا الانسحاب. حجج المجلة هي: أولاً، إن العراق ليس فيتنام حيث العرب الشيعة والأكراد يمثلون ثمانين في المئة من السكان، وهم يشاركون أميركا في معظم أهدافها من الاحتلال العسكري الأميركي المستمر في العراق. ثانياً، إن العالم العربي يتحول ضد الجزء الأكثر راديكالية من"التمرد"في العراق. وثالثاً، إن جهود مستر بوش لنشر الديموقراطية في المنطقة بدأت تعطي ثمارها، على رغم أن قليلين من العرب يقرون بذلك علناً. أما حجة عضو الكونغرس الأميركي جون مارتا من أن وجود القوات الأميركية في العراق أصبح في ذاته مانعاً من التقدم هناك، فمعظم ضحايا المتمردين هم من العراقيين، كما أن القوات الأميركية في العراق 160 ألفاً هي أقل مما يجب وليس أكثر مما يجب. أما الحجة الأخيرة، فهي أن دفع أميركا إلى الخروج من العراق سيضمن للإسلام الراديكالي المتشدد نصراً ضخماً، والعرب الراغبون في تحديث المنطقة سيعرفون أنهم لا يستطيعون الاعتماد على أميركا. لم تقم أميركا بغزو العراق لكي تضرب الإسلام الراديكالي. أميركا ذهبت إلى هناك بحجة تخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل لدى العراق. حينما ثبت كذب تلك الحجة أصبح المبرر الجديد هو تحويل العراق إلى منارة للديموقراطية في عموم الشرق الأوسط. بعدها، أصبح المبرر المستجد هو أن استمرار احتلال العراق عسكرياً لازم بشدة لمنع نشوب حرب أهلية. أخيراً، ابتكر ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي حجة مفحمة جديدة لإخراس أصوات المعارضين، هي أن هدف"المتمردين"في العراق إنما"يمثل جزءاً من خطة أوسع تستهدف فرض الإسلام الراديكالي على منطقة الشرق الأوسط بأسرها وجعل العراق قاعدة تنطلق منها الهجمات والضربات الإرهابية المعادية ضد الأمم الأخرى". بالطبع تشيني يتجاهل حقيقة أنه قبل غزو العراق لم يكن هناك إسلام راديكالي ولا زرقاوي أو صفراوي أو بقية الأسماء الهلامية المريبة الغامضة التي تصدر باسمها بين وقت وآخر بيانات غير محققة تخدم بالضبط تلك الحجج الأميركية. في الخطاب الأخير لجورج بوش، هاجم المعارضين لسياسته مقرراً أن الوضع الميداني في العراق هو الذي يقرر سياسته وليست الدعوات إلى وضع جداول زمنية مصطنعة للانسحاب يطلقها سياسيون في واشنطن."سنغادر المدن العراقية ونقلل عدد الدوريات، لكننا سنزيد من عدد القوات عند اللزوم"... تصفيق."لن أقبل في العراق أي شيء أقل من النصر الكامل"... تصفيق."أميركا لن تهزم أمام الإرهابيين والقتلة طالما أنا بقيت رئيسا للجمهورية"... تصفيق حاد."من خلال العراق سننشر الحرية والاعتدال في الشرق الأوسط"... تصفيق فاتر. بالطبع هذا هو نوع الجمهور الذي ينتقيه جورج بوش وتختاره له إدارته بدقة. جمهور من طلبة الأكاديميات العسكرية وما إليها. نفس التصفيق الحاد تابعناه قبل عامين ونصف العام وجورج بوش يخطب وسط الجنود على متن حاملة طائرات ليبشرهم بأن"المهمة أنجزت". الآن يخاطبهم تحت شعار"خطة للنصر"في العراق. هذا النصر الذي يبشر به بوش شريحة مختارة من الجمهور هو جوهر وثيقة جديدة من 37 صفحة أعلنها البيت الأبيض عقب خطاب بوش بعنوان"إستراتيجية قومية لتحقيق النصر في العراق". لكن الوثيقة ليس فيها جديد بل هي بدرجة أكبر تنويعات على ما كررته الإدارة سابقًا طوال العامين ونصف العام."الاحتلال الأميركي للعراق مستمر، فهذا مهم لأمن أميركا والعالم، مهم للحرية والديموقراطية في الشرق الأوسط، مهم لهزيمة الإسلام الراديكالي... الخ". قبل عامين ونصف العام، بشر جورج بوش جمهوره بأن النصر الأميركي في العراق تحقق فعلاً. الآن، يبشر الجمهور نفسه بأن النصر في طريقه إلى التحقق. المشكلة دائما هي تعريف هذا"النصر"المراوغ الذي لا يتحقق أبداً. الإدارة الأميركية تستبشر خيراً من مؤتمر تحضيري أخير للوفاق الوطني. في الجامعة العربية، كانت أميركا قريبة منه ومسهلة لانعقاده ومباركة لنتائجه. الإدارة الأميركية قررت أيضا تكليف سفيرها في العراق بالدخول في حوار مع إيران يتعلق بالعراق. الدخول في حوارات، أو حتى تحالفات مرحلية، جربته الإدارة الأميركية سابقا في أفغانستان.. مع إيران وغيرها. لكن الإدارة الأميركية نفسها انقلبت سريعاً على الأطراف نفسها بمجرد أن استهلكتها. الآن يعلن السفير الأميركي في بغداد أن حكومته تسعى إلى التفاوض مع المسلحين العراقيين وأنها طلبت مساعدة دول عربية لتسهيل المحادثات. المشكلة مرة أخرى هي في تعريف"النصر"الذي تريده الإدارة وما زال مراوغاً. إذا كان النصر هو الاحتلال العسكري، فإنه تحقق فعلاً قبل عامين ونصف العام. وإذا كان النصر هو القضاء على الإرهاب، فاستمرار تساقط الضحايا الأميركيين يدحض تلك الحجة. وإذا كان النصر هو تكيف الشعب العراقي مع الاحتلال الأميركي، فإن الواقع اليومي مفحم. حتى أعضاء الحكومة العراقية لا يستطيعون التجول في شوارع بغداد بعيداً عن المنطقة الخضراء التي يحميها الاحتلال. أما إذا كان النصر هو هزيمة الإسلام الراديكالي الذي يسعى إلى إقامة خلافة إسلامية تمتد من باكستان إلى المغرب، فإننا نصبح بصدد رواية من الخيال السياسي. في مرة واحدة لم يتطرق مسؤولو الإدارة الأميركية إلى الحديث عن بترول العراق. ولا مرة. وعلى رغم ذلك، ففي تقرير أخير لمنظمتي"الحرب على الطاقة"و"مؤسسة الاقتصاديات الجديدة"البريطانيتين، نقرأ أن المشروع الأميركي المعد من قبل غزو العراق يمضي الآن في طريقه. الطريق هو احتكار شركات أميركية وبريطانية ومتعددة الجنسيات لمهمة تطوير حقول البترول في العراق واستخراجه وتسويقه مقابل نسبة تتراوح بين 42 و62 في المئة، وهى نسبة تزيد أضعافاً حتى عما كان متعارفاً عليه في بدايات اكتشاف البترول حين لم تكن النسبة تزيد على اثني عشر في المئة. معنى هذا عملياً أن تلك الشركات، خلال فترة الامتياز التي تتراوح بين 25 و40 عاماً، ستحقق أرباحاً تتراوح بين 74 ومئتي بليون دولار. مع ذلك، فإن الربح المالي الفلكي هنا ليس سوى جانب واحد من القصة. فالبترول في نهاية المطاف ليس مجرد سلعة، وإنما هو سلعة... وإستراتيجية. ربما من أجل هذا، وبمجرد دخول جورج بوش إلى البيت الأبيض في كانون الثاني يناير 2001، بادر نائبه تشيني إلى عقد سلسلة اجتماعات غير معلنة مع رؤساء شركات البترول الأميركية لوضع تصور للمستقبل. من يومها وحتى الآن فشل الكونغرس الأميركي - بجلال قدره - في الحصول من الإدارة على صورة من وثائق تلك الاجتماعات. وفي كل مرة ترد الإدارة على هذا الطلب من الكونغرس بأن تلك الوثائق مشمولة بأقصى درجات السرية ومحظور الاطلاع عليها - حتى من الكونغرس - لأنها تدخل في صميم الأمن القومي الأميركي. وإلى أن تفرج الإدارة عن تلك الوثائق، ولو للسلطة التشريعية صاحبة الولاية في محاسبتها، سيظل مفهوم"النصر"الأميركي في العراق غامضا ومطاطا و.. مراوغاً. كاتب مصري.