درجت العادة في أميركا على شروع أعضاء الكونغرس بالتفتيش عن تمويل لانتخابات الكونغرس ومجلس الشيوخ للعام الذي يلي عودة كل منهم إلى دائرته الانتخابية، بمناسبة عيد الشكر. وهذه الفترة هي أيضا مناسبة كي يستشف السياسيون الراغبون بالترشح مجدداً الآراء السائدة في مقاطعاتهم من خلال استطلاعات الرأي الوطنية، قبل أن ينظموا استطلاعات خاصة في العام التالي، للإطلاع على آراء ناخبيهم. وتبدو الصورة قاتمة للجمهوريين الذين حققوا انتصارات في 2004، بسبب الرسالة الواضحة التي يبعث بها المتبرعون عن قلقهم بشأن العراق خاصة وخيبة أملهم في الولاية الثانية للرئيس بوش عامة. كذلك حصد بوش أدنى المراتب في الاستطلاعات خلال فترة رئاسته فيما انخفضت شعبية نائبه تشيني، المسؤول عن الإستراتيجية التي تنتهجها الإدارة عموما، فوصلت إلى 36 في المئة في تشرين الثاني نوفمبر الماضي بعد أن كانت 60 في المئة في 2001. وقد أجمعت الأغلبية من بين المستطلَعين ال1006 على أن مشورة تشيني للرئيس"سيئة". أما الرسالة فواضحة: بعد مرور سنة على بدء ولايته الثانية، خسر بوش دعم أغلبية الشعب وممولي الحزب الجمهوري وبعض الكونغرس، وربما للأبد. ومسبّبات الفشل متعددة: فضيحة كشف هوية فاليري بلايم، عميلة السي آي اي، التي أدت إلى إدانة مدير مكتب تشيني وقد تطال مستقبلا كارل روف، مستشار الرئيس بوش، وبروز عدم الكفاءة والإهمال والفساد بعد كارثة كاترينا في لويزيانا، وسخط الكونغرس المتعاظم حول تجديد العمل ب"القانون الوطني"، أي قانون مكافحة الإرهاب، وموافقة البيت الأبيض على ممارسة التعذيب في المعتقلات الأميركية، فضلا عن المماطلة الواضحة بتطبيق الخطط الطموحة لإصلاح الضمان الاجتماعي وأخيرا ارتفاع أسعار الوقود. إنما يبقى موضوع العراق الأهم في قلب الدعم الشعبي بهذه السرعة، ليس بسبب تضخيم خطر الأسلحة العراقية للدمار الشامل إن لم نقل اختراعها قبل غزو 2003، ولا بسبب المحاولة المكشوفة لربط الرد على 11 أيلول الذي سمي بشكل خاطئ"الحرب على الإرهاب"برغبة الليبراليين الجدد بالقضاء على نظام البعث في بغداد، وهي أمنية لازمتهم طوال التسعينات أي قبل 11 أيلول بكثير. ما حرك الرأي العام هو الوضع الحالي للقوات العسكرية، خصوصاً الثمن الضخم الذي تدفعه بالأرواح والدم. وعلى رغم كل محاولات الحكومة للحد من تأثيرات الحرب، عبر التكتم عن عودة القتلى أو المصابين وحول جنازات الموتى، وعبر ترويجها التفاؤل من خلال بث الأنباء عن التقدم في العراق، بلغ الأميركيين رسالة مغايرة تماما: لا يمكن الفوز بهذه الحرب وقد أصبحت القوات الأميركية مستهدفة وينقصها العتاد والمعنويات. أما حامل الرسالة فشخص غير متوقع هو جون مورثا، سيناتور ديموقراطي عن بنسلفانيا يبلغ 73 عاما وينتقل بجسده المكتنز بخطى متثاقلة. مورثا نهض بتصميم من مقعده الخلفي في زاوية مجلس النواب، الخميس في 17 تشرين الثاني، ليلقي خطاباً بليغاً وهادئاً وقاسياً يندد فيه باستراتيجية بوش في العراق. ويزور السيناتور مستشفيات بيثيسدا ووالتر ريد العسكرية بانتظام، كما زار القوات في العراق. وهو صاحب سجل عسكري لا شائبة فيه، إذ خدم كمحارب وملازم مدرب وعبر بكلمات لا لبس فيها: لا يمكن الفوز بالحرب، لا سيما أن الجيش يصيبه الوهن، وإلى جانب القتلى والجرحى، سيعاني 5000 جندي منه مشاكل نفسية. يتعين على أميركا أن تنسحب بأسرع مهلة ممكنة بعد الانتخابات. وفيما يشبه مورثا مالكي الحانات المحترمة في كاونتي غالوي بسبب شكله وبنيته، فلطالما اعتُبر هذا الرجل المتحفظ صديقاً صدوقاً للمؤسسة العسكرية في كابيتول هيل: فقد خدم كجندي مارينز لفترة طويلة وحصل على تقدير لمشاركته في حرب فيتنام ودعمَ المخصصات المالية العسكرية وحرب 1991 في الكويت وصوت لصالح الحرب في 2003، إلى جانب 80 من الديموقراطيين. لكنه غير رأيه بعد تجربته الخاصة في العراق، حيث عاد الجنود ولاحظ عدم ملاءمة المركبات المصفحة والوقاية الجسدية للوضع على الأرض، وبعد زيارته المنتظمة للمستشفيات العسكرية، تلك الأماكن التي لم يطأها جورج بوش. وقد هاجمه أنداده في الكونغرس، فأثاروا جدالا عنيفا و قدموا عرضا فاضحا لم تشهده برلمانات بريطانيا وفرنسا، كثرت فيه الإشارات إلى"الوطنية"والإشارات الفاضحة الى التاريخ العسكري لبعض النواب وقذفوه بعبارات كان أهونها"رافض"وأعنفها"جبان". إلا مورثا عبر عن آراء الأغلبية، إذ الشعب الأميركي بات يرى الآن الجرحى بعد عودتهم إلى ديارهم ويسمع القصص التي يروونها. وتعبر نسب التجنيد في 2005 أيضاً عن تراجع الدعم الشعبي: على رغم أن حملة التجنيد هي الأقوى منذ حرب فيتنام في السبعينات، تواجه المؤسسة العسكرية نقصا بنسبة 41 في المئة في عديد الاختصاصات القتالية وغير القتالية. أما في مواقع أساسية كفرق القوات الخاصة وخبراء المخابرات والمترجمين، فتوصلت إلى ملء ثلث المراكز. وخلال السنتين الماضيتين، واجه الجيش والمارينز نقصاً نسبته 20 في المئة في عديد مفككي العبوات على الطرقات وهذه نقطة ضعف كبيرة، نظراً لشيوع القنابل المزروعة على جوانبها. كما يعاني الحرس الوطني من نقص في عديد متخصصي الرماية وطواقم الدبابات. والحصيلة هي التالي: مع تدهور معنويات الجنود في العراق والتراجع في الالتحاق بالجيش داخل أميركا، يعجز جيش المتطوعين عن تحقيق الأهداف الأميركية، في ظل إدارة تفاخرت في البداية بقدرة الولاياتالمتحدة على خوض حربين ونصف حرب حول العالم في الوقت نفسه. ويستطيع الجميع ملاحظة حصار البيت الأبيض. إذ بعد مرور بضعة أيام على خطاب مورثا، أدلى نائب الرئيس تشيني بخطاب في"أميركان إنتربرايز إنستيتوت"حيث عمل سابقاً لحشد الدعم لدوام المشاركة في العراق. لكنه رغم انتقاء جمهور محبّذ ، رفض تلقي الأسئلة بعد خطاب دام 19 دقيقة بدا عليه القلق خلاله. وفي واشنطن كما في بغداد، يبدو على تشيني الانفصال التام عن الواقع ويقول بعض معارفه إنه تغير بعد جراحة خضع لها منذ بضع سنوات فأصبح غير واقعي في آرائه. أما بوش فانتقى أيضا مكانا آمنا كي يفصح عن استراتيجية النصر ويرفض الدعوات لوضع جدول زمني، إذ تكلم في الكلية البحرية في أنابوليس. وتتلخص ردود الإدارة بالكلام عمّا تراه كتطور إيجابي، كإنشاء البنية التحتية وتعليق الآمال على جيش عراقي أقوى يستطيع أن يستلم زمام الأمور عندما تعيد القوات الأميركية انتشارها وترجع إلى ثكناتها المحصنة، أي بمعنى آخر، تنسحب من ساحة المعركة. ويُنظر إلى الانتخابات النيابية العراقية التي جرت قبل أيام على أنها تحتل موقعا أساسيا في استراتيجية بوش. لكن سياسة"إعادة الانتشار"هي، فعلياً، انسحاب من المواجهة مع القوات المعارضة التي يعتبر الجيش الأميركي قتالها أصعب من قتال العصابات الفيتنامية بسبب توزعها على فرق مشتتة. ويعيد اقتراح"إعادة الانتشار"إلى أذهان الجميع، لا سيما العرب، أحداث 1983-1984 في لبنان حين أعادت القوات الأميركية انتشارها إلى السفن، بعد أن عانت من مئات الإصابات من جراء هجمات حزب الله على ثكناتها"وما كان من السفن إلا أن أبحرت بعد ذلك. وتظهر الاستراتيجية العامة هكذا: إعلان النصر ثم المغادرة، العبارة الشهيرة التي تلفظ بها السيناتور جورج ماكغوفرن، المعادي للحرب في السبعينات. لكن تظهر المشكلة في هذا القول، على رغم محاولات التغطية في خطابات الرئيس ونائبه، في أن الجميع على علم بأن أميركا تحاول أن تلوذ بالفرار، بدءا بالمتمردين، ومرورا بالساسة العراقيين الذين اشتركوا بشجاعة وبطرق شرعية بالعملية الدستورية، وصولا إلى الدول المجاورة المتزايدة القلق. وقد حضرت مؤخرا مؤتمرا في لندن إلى جانب مسؤولين عرب مؤيدين للسياسة الأميركية إجمالا، ولكن ما من مسؤول بينهم يؤمن بقدرة أميركا على الصمود في العراق. ومن المحتمل أن يصبح عيد الشكر للعام 2005 لحظة تاريخية تنحل فيها استراتيجية المحافظين الجدد في العراق، لا بل في"الشرق الأوسط الكبير"حيث لم تُلجم أحلامهم الإمبريالية منذ التسعينات"وهو وضع يشابه الكارثة الأنغلو-فرنسية في السويس في 1956. وفيما تكثر المقارنات بين العراقوفيتنام، ربما كانت المقارنة الوحيدة التي لا يأتي أحد على ذكرها هي الأقوى: أي مع حرب السوفيات في أفغانستان. فعندما بعث السوفيات بالجيش الأحمر إلى كابول في 1979، قلّصوا عديده، بهدف الحد من الكلفة الاقتصادية والسياسية، إلى 120 ألفاًَ، أي ما يكفي لتطويق المدن الرئيسية. ولذا سميت قواتهم رسمياً"القوى المحدودة"طوال السنوات العشر اللاحقة. مع هذا، لن يكون التأثير على الولاياتالمتحدة ذا أهمية على المدى الطويل، بحسب رأي أحد أهم المفكرين الأميركيين في السياسة الواقعية. فهي دولة قوية وستنجو من التجربة ويزدهر اقتصادها. بينما يدفع العراق خصوصاً، والشرق الأوسط عموماً، ثمن الحرب، حيث سيكبر نفوذ المتمردين السنّة كما حصل في أفغانستان، لفترة طويلة بعد رحيل القوات الأميركية المحدودة.