أنهى الانتحار المدوّي لوزير الداخلية السوري غازي كنعان، التراتب الخيطي للحدث السياسي السوري ? اللبناني، المعولم، بقرارات دولية ولجان دولية، والذي على رغم دينامياته الواضحة وفجائعيته الدموية، اتجه الى نمطية مقروءة مسبقاً بدءاً من 14 شباط فبراير 2005 في اللحظة التي اغتيل فيها الرئيس رفيق الحريري. على ان هذا الانتحار الذي اجهز على تلك النمطية المتوالية يوماً بيوم وضع الحدث السياسي، بمختلف اتجاهاته، على"منصة شكسبيرية"تزدحم، راهناً، بذلك النوع من الأشخاص ، الممثلين القابعين على حواف المعاني: ما بين العقل والجنون، البطولة والخيانة، الشجاعة والجبن، الشرف والعار... حيث الالتحام المرعب للثنائيات المتضادة يشير بوضوح الى الترادف المدهش للمعاني، والذي يفضي الى انتاج بيئة ملتبسة لا مكان فيها لأي نظام اخلاقي نهائي، ولا أفضلية فيها لأي نظام قيمي واضح. ويبقى ما يشكل بؤرة امل، في بعض نواحيها، تلك الملامح التراجيدية التي تطل من وقت الى آخر، لتعيد تأسيس امكنة التعاطف الذي يستعيد الدم المسفوك، اغتيالاً في لبنان او انتحاراً في دمشق، من انابيب المختبرات والفحوصات المجهرية ل"محللي"أجهزة الشرطة المحلية، او الفرنسية او الأميركية ليلقي بها مجدداً على تراب قان، يشكل وطناً، يبدو انه في حاجة الى مزيد من الدماء. لم يكن كنعان رجل امن، بالمعنى التقليدي، أي رجل استخبارات، بل كان رجل سياسة في موقع رجل امن، والملفات التي تعاطى معها شكلت في التاريخ القريب جزءاً من الملفات الاستراتيجية للسياسة السورية، خصوصاً في لبنان. على ان المسرح المكشوف الذي اشتغل فيه كنعان بعيداً من اقبية الاستخبارات وزنازينها، وتميز بأحداث كبرى شكّل الاجتياح الإسرائيلي في 6 حزيران يونيو 1982 حدها الأول، كما شكل تحرير الجنوب اللبناني من هذا الاجتياح نفسه في 25 ايار مايو 2000 حدها الأخير. هذا المسرح الذي كُلف كنعان بإدارته التنفيذية، فنجح كثيراً وأخفق احياناً، لم يستطع المحافظة على معناه في الذاكرة المجتمعية العامة، التي تبدو راهناً خالية خاوية، اسيرة لذلك النوع من"المعلومات"التي تضخ على مدار الساعة وفق رؤية"تلفزيون الواقع"الذي يدفع المتفرج نحو عالم يوهم بالواقع، فيما هو لا يعدو كونه مشهداً تلفزيونياً وحسب. السبب المعلن لانتحار كنعان، المتعلق بالحملة الإعلامية التي طاولت سيرته في لبنان، يطرح اشكاليتين: الأولى خاصة بالإعلام ووظيفته وأخلاقياته، والثانية تخص الذاكرة الاجتماعية، بل السياسية ومشكّلاتها وقابليتها للانقلاب على ذاتها. ان اياً من الاشكاليتين لا تطرح، هنا، بمعزل عن الأخرى، لأن الإعلام المعاصر يلعب دوراً حاسماً في صوغ الذاكرة الاجتماعية، في اضافاته لعناصر جديدة في مكوناتها، كما في قدرته على حذف عناصر فيها كان توهم بثبات واستقرار دائمين. اعاد الإعلام، خصوصاً منه الموجه، ليس بالضرورة الموجّه من الدولة، بل الذي يلتزم نظام التوجيه الصارم الذي تلتزمه اجهزة الإعلام الرسمية، أعاد إنتاج المرحلة المنصرمة من تاريخ لبنان الحديث، بالتوازي مع الخطاب السياسي"الجديد"لبعض القوى الذي اعاد صوغ ذلك التاريخ على نحو ذرائعي، بل وفق منظومة اهداف بدت في راهنيتها محكومة بالأبعاد الانتخابية النيابية. هكذا انقلب بعض الخطاب السياسي على ذاته، فالمسار المشترك او التحالف الاستراتيجي الأخوي بين سورية ولبنان اصبح"النظام الأمني اللبناني - السوري"في مصطلح اثير لحلفاء سابقين لسورية، راهناً، خصوصاً منهم المعادين سابقاً. وعلى التوازي مع هذا الانقلاب في الخطاب السياسي، عمد الإعلام الى اعادة انتاج سيرة الرجال والسياسيين وماضيهم، اولئك الذين كانوا يشغلون حقبة"عهد الوصاية"- الذي يستطيل عند البعض ليمتد من العام 1976 - على نحو نمطي اختزالي تبسيطي. فوفق هذه العملية تم تناول غازي كنعان في سيرته وماضيه، لإعادة تظهير صورته الراهنة على نحو يتوافق مع مقتضيات الخطاب السياسي وهيجانه المحموم، وربما ايضاً ذعريته وهلوساته، وفي النهاية ابتعاده عن نظامه الرئيس الذي شكله، وانقلابه على ذاته. فلم تعد سيرة كنعان"اللبنانية"محكومة بحدّي الاجتياح 1982 والتحرير 2000، ولا بملاحظة دوره في عمليات المقاومة، والمعارك الأخرى في بيروت وطرابلس والجبل، ولا في أي ترتيبات سياسية، ولا حتى في اية عمليات مصالحة بين جهات سياسية متخاصمة، او عشائر متصارعة... بل ووفق تبسيطية منهجية. فليس غازي كنعان سوى قابض للمال والشيكات، وممن؟ من الرئيس الحريري نفسه!. وفي وقت تتم فيه تبرئة الراشي افتراضاً من عملية الرشوة هذه، فإن ادانة المرتشي افتراضاً ايضاً ستحصل على نحو متكرر وعلى مدار نشرات الأخبار المتلاحقة. ووفق هذه العملية ينمط غازي كنعان ومن في حكمه في الموقع المهني او السياسي في اطار من الصفات لا تتجاوز في كونها صفات"الشبّيح"، ويتم في المقابل نزع صفات: القائد والسياسي ورجل الأمن والعسكري عنه. وبهذه العملية فككت وتفكك علاقته بالمسرح السياسي اللبناني على مدى عشرين عاماً، بحذف العناوين الكبرى المؤسسة لهذه العلاقة، وإعادة رسم علاقة له، ليس مع المسرح السياسي على نحو محدد، وإنما مع لبنان عموماً، عبر عناوين غاية في الصغر. وفي وقت تستهدف هذه العملية محاصرة الرجل بصفات صغيرة، وتجريده من العناوين الكبرى والملفات الاستراتيجية، بما يمكّن من الانتقام منه، ومن موقعه، فإن هذه العملية السياسية ? الإعلامية لم يكن مدرجاً في برنامجها أي تصور يشير الى ان هذا الرجل الفولاذي لديه من درجة الشعور بالألم ما يدفعه الى استخدام فولاذيته نفسها، إنما ضد حياته هذه المرة ! ومع هجومه على نفسه، في مكتبه، في وزارة الداخلية السورية، اعاد النكهة الشكسبيرية الى منصة تراجيدية يرجّح ان العروض ستستمر متوالية عليها، ولكن بتكاليف باهظة!! كاتب سوري.