إذا كان العام الماضي بدأ بقيام الرئيس بشار الأسد بزيارة الى موسكو في بداية كانون الثاني يناير الماضي، فان نهاية العام شهدت قطف سورية بعض ثمار هذا الخيار الذي فرضه ارتفاع وتيرة الضغوط الدولية على دمشق، عندما بذلت موسكو في نهاية كانون الاول ديسمبر جهودها الدبلوماسية لتخفيف حدة القرار الدولي ذي الرقم 1644. ولا شك ان الحديث عن العام الماضي والبحث في اسباب التوتر مع باريس وواشنطن، يتطلبان الانطلاق من خريف العام 2004 كخلفية مهمة في التحليل. وقد يكون اساس الخلفية الغزو الاميركي للعراق في ربيع العام 2003 او منذ قيام الرئيس جاك شيراك بالمشاركة في تشييع الرئيس حافظ الاسد في حزيران يونيو العام 2000 وربما منذ زيارة الدكتور بشار الاسد الى قصير الاليزيه في تشرين الثاني نوفمبر العام 1999. وطالما ان التمديد للرئيس اميل لحود، كان نقطة تحول اساسية في العلاقة السورية - اللبنانية والعلاقات بين سورية والمجتمع الدولي، من المهم معرفة كيف نظر كل طرف اليها. دمشق تعتقد ان التحضير للقرار 1559 كان يجرى منذ حزيران يونيو العام الماضي خلال زيارة الرئيس جورج بوش الى شيراك، ذلك كي تقول ان التمديد جاء كردة فعل على الضغوط المتوقعة على سورية باعتبار ان لحود يمثل خياراً ضامناً لمستقبل"حزب الله"والتحالف مع دمشق. كان يمكن للقرار 1559 الذي دعا الى"انسحاب جميع القوات المتبقية"من لبنان، ان يأخذ مساره الطبيعي للتنفيذ. لكن الزلزال الذي حصل في 14 شباط فبراير باغتيال الرئيس رفيق الحريري، شكل نقطة مفصلية في تاريخ العلاقات بين سورية ولبنان وبين سورية ودول اخرى. وفيما اتهم عدد من ممثلي المعارضة اللبنانية"النظام الامني السوري واللبناني"بالمسؤولية عن الجريمة، نفت سورية وبلسان كبار المسؤولين فيها أي علاقة بالجريمة. ونتيجة الضغط الدولي الهائل، جرى الانسحاب السوري في 26 نيسان ابريل بحفل عسكري سوري - لبناني طوى نحو 29 سنة من الوجود الامني والعسكري في لبنان. وابلغ وزير الخارجية السوري فاروق الشرع الامين العام للامم المتحدة كوفي انان رسمياً ان"الانسحاب العسكري والامني استكمل"في ذلك التاريخ وان سورية"أوفت بالتزاماتها"في القرار 1559، في اشارة الى ان لا علاقة لسورية بنزع سلاح"حزب الله"، باعتباره بنداً في القرار. لكن، ما لبث ان فتح ملف جديد عبر بوابة القرار 1595 الذي شكل لجنة دولية مستقلة للتحقيق باغتيال الرئيس الحريري برئاسة القاضي الالماني ديتليف ميليس. وطالب القرار جميع الدول بپ"التعاون"لانجاح التحقيقات. كان التفسير السوري لمفهوم"التعاون"ان يجيب المسؤولون الامنيون على اسئلة القاضي ميليس بالمراسلات الدبلوماسية عبر الاممالمتحدة. لكن ذلك، لم يكن مقبولاً من اللجنة الدولية. عليه، كان شهر آب اغسطس يمثل بداية التصاعد في الضغوط الدولية عبر منصة مجلس الامن، اذ دعا بيان صادر عن المجلس سورية الى التعاون الكامل مع فريق التحقيق الدولي، بعدما اخذ عليها التأخر في التعاون في التقرير الذي قدم في 25 شهر آب، أي قبل تسلم القاضي الالماني الاجوبة الخطية التي كان حملها المستشار القانوني رياض الداودي اليه لدى لقائهما في جنيف في 26 آب. بلغت ذروتها في تشرين الاول اكتوبر الماضي عندما قدم ميليس تقريره الى مجلس الامن في حضور وزراء خارجية جميع الدول الاعضاء في مجلس الامن، اضافة الى الوزير الشرع وأنان، ذلك ان ميليس اشار الى اشتباهه بپ"تورط مسؤولين أمنيين سوريين رفيعي المستوى"باغتيال الحريري، الامر الذي مهد الارضية لصدور القرار 1636 باجماع دولي وعلى اساس الفصل السابع، قل نظيره في الملفات المطروحة في مجلس الامن. وتزامنت مناقشة تقرير ميليس مع تقديم مبعوث الامين العام للأمم المتحدة تيري - رود لارسن تقريره في شأن تنفيذ القرار 1559 تضمن اتهامات لسورية بتسهيل تهريب اسلحة الى المخيمات الفلسطينية، ما شكل عنصراً اضافياً في الحملة السياسية. لكن الذي كان مقلقا في دمشق اكثر، ان كل ذلك تصادف مع تصريحات انتقادية حادة اللهجة من قبل الولاياتالمتحدة الاميركية وفرنسا وبريطانيا، اضافة الى تلميح مسؤولين اميركيين الى نيتهم"تغيير النظام السوري"بحسب تعبيرهم، وظهور تسريبات من ان مسؤولين في الادارة اتصلوا بمسؤولين في النظام والمعارضة بحثاً عن"بديل"للنظام السوري. سياسياً، يمكن القول ان تشرين الاول اكتوبر مثَّل الذورة: الطروحات السياسية، الضغوطات الدولية، المشاكل الاقتصادية، التوتر السوري - اللبناني، والعزلة السياسية اقليمياً ودولياً. عشرة اسباب واذا كان النصف الثاني من تشرين الاول والنصف الاول من تشرين الثاني، شكل ذورة موجة الضغوط الخارجية والتجييش الشعبي ومخاطبة المشاعر الوطنية، فان المرحلة اللاحقة شهدت تراجع هذه الموجات لتبقى عند حد معادلة: استمرار الضغوط، لكن دون انهيار النظام. وساهمت عناصر عدة في الوصول الى هذه المعادلة: اولاً، الحملة التي قام بها المسؤولون السوريون سواء عبر الرسائل التي بعث بها الرئيس الاسد الى رؤساء الدول الاعضاء في مجلس الامن او في الجولة التي قام بها نائب وزير الخارجية وليد المعلم الى معظم الدول العربية بدءا من السعودية وانتهاء بتونس. ثانياً، تحرك الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز وقيامه بزيارات سرية وعلنية الى كل من دمشقوباريس وواشنطن. ثالثاً، المشاكل الاميركية التي تصاعدت في العراق والحاجة الى تمرير ادارة بوش الانتخابات العراقية، اضافة الى المشاكل الداخلية في مكتب نائب الرئيس ديك تشيني. رابعاً، انسحاب وزراء"حزب الله"وپ"أمل"من حكومة فؤاد السنيورة بالتزامن مع تصعيد في جنوبلبنان في منتصف تشرين الثاني. خامساً، الاستشارات الاميركية - الاسرائيلية التي لعبت دوراً اساسياً في اقناع ادارة بوش بعدم الدفع باتجاه التغيير في سورية تخوفاً من نظام اسلامي متشدد او فوضى تنعكس على المنطقة الشمالية لاسرائيل. سادساً، اظهار النظام السوري عناصر قوة وتماسكاً داخلياً في شكل تصاعدي بدءاً من المؤتمر العاشر لحزب"البعث"الحاكم الذي اظهر مدى قوة الرئيس الاسد، عبر ازالة جميع عناصر"الحرس القديم"، ومروراً بالتغييرات الامنية التي حصلت بعد المؤتمر، وانتهاء بعدم حصول أي منعكسات لعملية انتحار وزير الداخلية اللواء غازي كنعان. سابعاً، عدم وجود أي بديل للنظام القائم وعدم ظهور مؤشرات لأي من السيناريوات التي رسمت مثل نموذج"خوان كارلوس"بحيث يجرى في سورية كما حصل في اسبانيا الثمانينات او"برويز مشرف"عبر انقلاب عسكري يتصالح مع الغرب او"ميخائيل غورباتشوف"يقوم باصلاحات داخلية تؤدي الى انهيار. ثامناً، احداث بعض"الثقوب في سفينة"القاضي ميليس عبر تراجع الشاهد هسام طاهر هسام عن شهادته واعلانه ان الشهادة التي قدمها في لبنان أخذت"تحت الضغط بالترهيب والترغيب". تاسعاً، اعلان الامين العام للامم المتحدة كوفي انان ان جولته في الشرق الاوسط التي شملت السعودية ومصر ودولاً اخرى، اظهرت وجود"قلق عربي ان تكون سورية عراقاً آخر". عاشراً، ان الاشهر الاخيرة شهدت حملة سورية مكثفة ضد"الجهاديين العرب"ادت الى تسليم 1600 عربي الى بلدانهم و2550 عراقياً الى بلادهم، وحملة على"التكفيريين السوريين"شملت تفكيك نحو عشر"خلايا"والتحقيق مع اربعة آلاف سوري حاولوا"الجهاد"في العراق، اضافة الى الخطوات السياسية لدعم العملية السياسية في العراق. تم التعبير عن هذه الاستنتاجات السياسية على ارض الواقع في الملف الاساسي والساخن وهو ملف التحقيق باغتيال الرئيس الحريري، اذ قام انان وروسيا التي ترأست دورة تشرين الثاني في مجلس الامن بالضغط على ميليس ليقوم بأول تنازل او مرونة. القاضي الالماني كان بعث في الثالث من تشرين الثاني رسالة رسمية الى الداودي يطالب فيها باستجواب ستة مسؤولين امنيين سوريين وشاهد هو الوزير الشرع، في مقره في"مونتفيردي"شمال بيروت. وأعطى مهلة اسبوع كي يحصل ذلك، او انه سيرفع الملف الى مجلس الامن ويتهم سورية بپ"عدم التعاون"وعدم تلبية متطلبات القرار 1636، ما يعني فرض عقوبات فورية عليها. لكن الذي حصل، ان انان وروسيا طلبا منه البحث عن"خيار آخر". على هذا الاساس جرت اتصالات سياسية قام بها مبعوثون سريون مثل الأمير بندر وآخرون، مهدت للقاء الداودي وميليس في برشلونة في 18 تشرين الثاني. في هذا اللقاء، ابلغ ميليس المستشار السوري ان"خيار مونتفيردي لم يعد وارداً"ثم سلمه قائمة بخمسة مسؤولين امنيين وليس ستة كما طلب في رسالته السابقة. عملياً، جرى حل اشكاليتين: اسقاط"مونتفيردي"وإسقاط الاسم السادس مع تحديد 25 تشرين الثاني، موعداً نهائياً لتسلم الجواب او ان ميليس سيرفع الملف الى مجلس الأمن. لكن بقيت مشكلتان: المكان البديل والضمانات المقدمة الى المسؤولين السوريين. عليه، جرى سباق مع الزمن فحلت مشكلة المكان عبر موافقة ميليس على فيينا، نتيجة الاتصالات التي قام بها الأمير بندر وآخرون مع الرئيس شيراك وأنان. غير ان العقبة الاخيرة لا تزال قائمة، وهي الضمانات. اذ ان سورية كانت تريد توقيع بروتوكول تعاون يتضمن حقوق السوريين وعدم توقيف أي شخص في فيينا، بينما كان ميليس يقول ان القرار 1636 يعطي"صلاحية مطلقة بتحديد المكان والزمان والآليات". وكانت ذورة الاتصالات في مساء 24 تشرين الثاني لحل"عقدة الضمانات"، بل ان الاتصالات بقيت الى ما بعد منتصف الليل شاركت فيها قطر وتركيا وروسيا بعد السعودية، الى ان جرى الوصول الى حل وهو قيام روسيا بتقديم تأكيدات وضمان المحضر الذي سجل في شكل غير رسمي بين الداودي وميليس في 18 تشرين الثاني. أي ان روسيا تعهدت بعدم توقيف أي مسؤول امني سوري خلال استجوابات فيينا وبمساعدة سورية في مجلس الامن. عليه، جرى مساء 25 تشرين الثاني اعلان الوصول الى"حل وسط"بعد ابلاغ الداودي ميليس قرار سورية الموافقة على استجواب الخمسة، الأمر الذي حصل لاحقاً في فيينا بين 5 و7 كانون الاول أي قبل بضعة ايام من انتهاء المهلة المحددة للجنة الدولية ولتقديم ميليس تقريره الى مجلس الامن. ولاشك ان هذه الاستجوابات تركت اثراً ايجابياً على ثلاث جبهات: تخفيف حدة قرار مجلس الأمن 1644، وتقرير ميليس الثاني، وتقوية دعاة التعاون مع اللجنة الدولية داخل الادارة السورية. وفيما نجحت روسيا والصين والجزائر، في ازالة الكثير من النصوص القاسية في مشروع القرار الفرنسي مثل عدم الموافقة آلياً على توسيع صلاحيات اللجنة الدولية لتشمل جميع التحقيقات وعدم الموافقة فوراً على تشكيل محاكمة ذات طابع دولي وعدم تبني فقرة تقول ان"مسؤولين أمنيين سوريين ولبنانيين رفيعي المستوى متورطون في اغتيال الحريري"، بدا واضحاً ان روح القرار 1644 تدعو الى"التعاون الفوري واللامشروط"مع اللجنة الدولية. صحيح القول ان موجة الضغوط تراجعت ولم تتلاش نهائياً، لكن من الخطأ الكبير ان يسترخي الحكم السوري وكأن الازمة انتهت، لأن المستقبل يحمل أزمات جديدة أولها في الأسابيع الاولى من العام 2006. اذ بمجرد انتقال رئاسة اللجنة الدولية الى قاض جديد، يتوقع طلب استجواب مسؤولين أمنيين جدد وربما تقديم طلبات أخرى تشمل"احتجاز"سوريين مشتبه بهم وحصول لقاء مع الوزير الشرع والوصول الى ملفات أمنية تعود الى شهري شباط وآذار مارس الماضيين.