"ماتيتو" قصة نجاح لبنانية أخرى بين قصص الآلاف من اللبنانيين، الذين صاغوا إبداعهم في دول العالم بعيداً من وطنهم الأم على طول مدة الحرب ومدة السلم. فاروق ومعتز غندور صاحبا"ماتيتو"المجموعة المتخصصة بمعالجة المياه وتحليتها ومعالجة المياه المبتذلة وإعادة استعمالها، وبتصنيع الآلات والمعدات اللازمة للمعالجة، ووضع الدراسات والأبحاث العلمية والتكنولوجية، غرّبتهما الحرب في آذار مارس 1976 ، بعد 18 عاماً من العمل في بيروت. إذ كانت البداية في 1958 في مجمع كبير في الشويفات في ضاحية بيروت، عندما تأسست"ماتيتو"أول شركة عربية في لبنان متخصصة في هذا المجال، في وقت لم يكن اللبناني او العربي يفكر في المياه كثروة قد تنضب أو تثير النزاعات الإقليمية والدولية، في عصر طغيان الذهب الأسود أي النفط. ومع عودة السلم الى لبنان منذ تسعينات القرن الماضي، أراد آل غندور العودة للمساهمة في ورشة إعادة البناء وترجمة خبراتهم وإبداعهم في صناعة المياه العذبة في بلادهم الأم، التي تختزن ثروة هائلة مهدورة لسوء التدبير والادارة والتلهي بالفولكلور والمصلحة السياسية. إلا ان السلوك الذي قابلاه لم يغرهم، فهو لا يرقى الى مستوى أمثاله في دول العالم التي تعمل فيها"ماتيتو". فعدلوا عن القرار، وعادوا الى الوطن مجدداً"لقضاء العطل فيه وليس للعمل"، كما قال معتز غندور. غرّبت الحرب اللبنانية"ماتيتو"عن وطنها الام، وبنت لها مواقع في اوطان اخرى حول العالم. وكانت الانطلاقة اساساً من بيروت في 1958، قبل الهجرة، عندما عاد فاروق غندور من الولاياتالمتحدة حاملاً شهادة ماجيستر بالهندسة الكيمائية متخصصاً بمعالجة المياه. ويروي معتز الذي التحق بالشركة في 1965 حاملاً شهادة في ادارة الاعمال، ليتولى الادارة التنفيذية، ان الاختصاص الذي اراد شقيقه فاروق اطلاقه من بيروت،"لم يكن معروفاً ورائجاً"، فأسس الشركة الاولى في العالم العربي"لقناعته ان المياه ستكون أثمن من النفط ويجب الحفاظ عليها والانخراط في هذا المجال". واعتبر ان نظرته كانت"ثاقبة"، اذ أصبحت"ماتيتو"من الشركات العالمية الاولى والرائدة في حقل معالجة المياه وتحليتها ومعالجة المياه المبتذلة واعادة استعمالها. في البدء كانت"ماتيتو"تستورد المعدات اللازمة لمعالجة المياه، ثم تطورت خبرتها وبدأت في تصنيع هذه الآلات ذاتياً في 1968 ، وكانت دائماً الوحيدة في لبنان والشرق الاوسط في هذا المضمار، فدخلت الى البلاد العربية ودول الخليج في ذلك الوقت من الباب الواسع، في ضوء حاجة هذه البلاد الماسة الى هذه الخبرة والتي لا تزال قائمة الى الآن. واستعانت"ماتيتو"لتطوير اعمالها بخبرات اجنبية، نظراً الى افتقار لبنان والمنطقة في الستينات الى الاختصاصات في مجال معالجة المياه وتنقيتها، فاستقدمت مهندسين وفنيين من انكلترا والولاياتالمتحدة، ساهموا في وضع تصاميم الآلات وتطوير آليات المعالجة وتدريب المهندسين اللبنانيين وصقل خبراتهم. لكن الحرب اللبنانية التي حطت رحالها في نيسان ابريل 1975 دفعت بآل غندور في آذار 1976، بعدما دمر مقرهم الواقع على خطوط التماس، الى مغادرة لبنان، كما فعل لبنانيون كثر، حاملين معهم ما يملكون من الخبرة والمعرفة، الى انكلترا فبنوا فيها مقر الادارة العامة وموقع التصاميم الهندسية لخدمة اوروبا والبلاد العربية والشرق الاقصى، وانشأوا في هيوستن الاميركية مصنعاً لتوافر المكونات الاولية الاساسية لهذه الصناعة فيها، وكذلك المكاتب الاقليمية والادارة العامة لخدمة اسواق الاميركتين. وذكر غندور انهم كانوا المستثمرين غير السعوديين الاوائل الذين بنوا مصنعاً لتحلية المياه في المملكة العربية السعودية في 1979 وكان رقم الرخصة واحد، تبعه مصنع في الشارقة في الامارات مع مكاتب اقليمية لخدمة الدول المجاورة. ولفت غندور الى ان"اول المشاريع المهمة في الخارج كانت تزويد المحطات العائمة في خليج المكسيك بالمياه النقية، وتم بناء 330 محطة تحلية لمصلحة اهم الشركات النفطية العاملة هناك مثل موبيل واكسون واركو ومحطات اخرى، وكذلك تزويد بعض الفنادق في جزر البهاماس بالمياه". واشار غندور الى انه بعد دخول"ماتيتو"الى اسواق الدول العربية ودول الخليج"توسعت اعمال الشركة لتنجز في ايران مشاريع عدة لتنقية المياه الجوفية، من بينها مشروع معالجة مياه مدينة قم لتلبية حاجة 200 ألف نسمة. كما نفذت في الهند مشاريع تحلية وتنقية المياه، وتقوم الآن بتنقية المحطات المائية وتعقيمها باستخدام تقنية الكلور وكذلك في باكستان، والصين، ولدينا خبرة في هذه السوق حيث نستثمر في مشاريع بصيغة"بي أو تي"البناء والادارة والاسترداد. وتكتمل هذه السلسلة من مصانع"ماتيتو"ومكاتبها الاقليمية في مصر لخدمة القارة السوداء، وصولاً الى اندونيسيا لخدمة الشرق الاقصى. ويرى غندور ان في اندويسيا فرصاً للاستثمار، نظراً الى حاجات السكان فيها الى المياه، مشيراً الى ان"اندونيسيا التي تعد 220 مليون نسمة وتضم 14 ألف جزيرة وتملك موارد طبيعية مهمة، لا يزال جزء منها غير نام"، لافتاً الى"نسبة تقل عن 20 في المئة من السكان تحصل على المياه النظيفة. لذا نرى ان هناك فرصة لتقديم خبرتنا وخدماتنا لتأمين المياه النظيفة والصالحة للسكان". المقر الجديد في دبي وفي النصف الثاني من 2006، سيرتفع المقر الرئيسي الجديد لپ"ماتيتو"في مجمع التقنية في دبي يضم الشركات المتخصصة بالتقنيات العالية ورقم الرخصة 001 ، على مساحة 42 ألف كيلومتر مربع لتصنيع اجهزة تحلية المياه ومعالجة المجاري. وتبلغ كلفة انشائه 50 مليون درهم. وسيكون المقر الجديد النافذة الجديدة على العالم. ولماذا دبي؟ يجيب معتز غندور، لأن"موقعها استراتيجي لاسواقنا في آسيا والصين والبلاد العربية". كما يعتبر انها"توفر لرجل الاعمال كل التسهيلات في كل مجالات بناء الاستثمار، من الترخيص الى المعاملات المتصلة بالموظفين وصولاً الى البنية التحتية للخدمات المتطورة وبالكلفة المعقولة". ويأسف غندور"لعدم اتاحة الفرصة ليكون لبنان مستقطباً لشركتنا وانتقال التقنيات التي تملكها اليه". ويرى ان"التلهي بالفولكلور السياسي الذي عطل التقدم الاقتصادي في لبنان كان المعوق لعدم عودتنا الى لبنان". وتهدف"ماتيتو"من اتخاذ دبي مقراً الى تقريب المسافة الى العالم العربي، اذ يعتبر غندور ان"حاجة دول الخليج الى المياه المحلاة كبيرة، وهي تتكل في شكل اساس على تأمينها من مصدر وحيد هو مياه البحر". ويتوقع ان يزيد حجم الاعتماد على المياه المحلاة في الخليج، مقدراً ان"يبلغ حجم الاستثمارات في هذا المجال 30 بليون دولار حتى 2025". في ضوء هذا الانتشار الواسع لپ"ماتيتو"في العالم، كيف تمكنت من ادارة هذه الاسواق الشاسعة؟ يرى غندور ان"النجاح في سوق خاصة يتطلب حضوراً دائماً فيها، اذ لا يمكن ادارة اسواقنا انطلاقاً من لندن وهيوستن فقط. لذا فإننا نعتمد استراتيجية تقوم على شعار"الحضور المحلي والخبرة العالمية". وترجمنا هذا الشعار ببناء دعائم الشركة في السوق المحلية وتقديم الدعم الكامل من خلال نقل تكنولوجياتنا وقدراتنا التقنية والمالية والادارية اليها. وأثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها لأننا وضعنا كل مواردنا في تصرف هذه السوق. كما يعزز حضورنا في السوق المحلية وتسلحنا بالموارد التقنية العالمية، قوتنا تجاه المنافسين المحليين الذين لا يملكون خبراتنا وكذلك تجاه المنافسين العالميين الذين يفتقرون الى خبراتنا في هذه السوق". لا غربة عن اللبنانيين صحيح ان آل غندور غرّبتهم الحرب، ولكنهم لم يتغرّبوا عن مواطنيهم، فهم يفتشون دائماً عن مهندسين وفنيين لبنانيين من جامعات في الخارج ليعملوا معهم. وتضم"ماتيتو"الآن نحو 1200 مهندس وفني واداري، منتشرين في كل انحاء العالم ومعظم اعضاء مجلس الادارة والمديرين هم لبنانيون. اما لماذا يختارون اللبنانيين المتخرجين في جامعات في الخارج، فيجيب معتز غندور لأنهم"يجمعون المهارة التي يشتهر بها اللبناني كما الخبرة، والسلوك العملي الذي يكتسبونه من الذهنية الاجنبية". واللافت انه على رغم ضخامة الشركة وتعدد مواقعها في العالم وتنوع جنسيات العاملين فيها نحو 23 جنسية، فهي تمثل"جزءاً من عائلة كبيرة بالنسبة الينا والى الموظفين"، كما يقول غندور، الذي يؤكد انه"قريب من كل موظف فيها ويعرف كل واحد منهم عن كثب وباسمه الاول". وعن كيفية مراقبة اعمال الشركة التي تمتد شبكتها عالمياً؟ يعتبر غندور ان"الرقابة الفضلى تتمثل بالشعور بالانتماء، اذ تعتبر الكادرات العاملة في الشركة انها جزء منها". ويشير الى ان الشركة توصلت الى هذه النتيجة بپ"احتضان موظفين شباب ومتخرجين جدد في مجالات الهندسة والادارة سنوياً، يخضعون الى تدريب ويحققون تطوير خبراتهم داخل الشركة". ويلفت الى وجود موظفين منذ 40 عاماً"وقد انضم ابناؤهم الينا". آلية المعالجة المفاجأة في كلام معتز غندور عن عملية معالجة المياه، ان الدول المتقدمة التي تحترم البيئة وتحرص على سلامة مواطنيها وصحتهم وتحمي مياه البحر والانهار، تعالج المياه المبتذلة ومياه المجاري، لتصب فيها نظيفة وخالية من أي جراثيم، طبقاً لمواصفات منظمة الصحة العالمية. فهذا جانب من نواحي المعالجة التي تنفذها"ماتيتو". وهنا يتذكر غندور لبنان ويتحدث عن"مدى حاجته الى تقنيات شركتنا، التي تعالج المياه المبتذلة في كل دول العالم للحفاظ على المساحات المائية لديها، في ظل التلوث الذي تعاني منه الشواطىء البحرية والتي تعتبر من الاعلى في العالم بسبب المجاري الحية التي تصب فيها مباشرة من دون أي معالجة او تكرير". ويعتبر ان هذا التلوث"يؤثر مباشرة على الثروة البحرية كما في سلامة المواطنين". كما تعالج الشركة ايضاً مياه الامطار والمستنقعات والبحيرات والبحار والآبار لتصبح صالحة للشرب. ويوضح غندور ان"لكل نوع من هذه المياه معالجة خاصة". ويعطي مثالاً عن سنغافورة العائد منها حديثاً بعد مشاركته في منتدى المياه العالمي، الذي تنظمه المؤسسة العالمية للتحلية وهو عضو فيها، بالتعاون مع الحكومة السنغافورية، ان"جزيرة سنغافورة تعاني نقصاً حاداً في المياه، وهي تلبي 60 في المئة من حاجاتها باستجرار مياه معالجة من ماليزيا بواسطة انبوب. وتؤمن نسبة 15 في المئة منها بتحلية مياه البحر. وتوفر نسبة 15 في المئة أخرى من معالجة مياه المجاري واعادة استعمالها، لتصبح نقية وصالحة للشرب، وتعبئ قسماً من هذه المياه المعالجة في قناني، وتؤمن النسبة المتبقية وهي عشرة في المئة من مياه الامطار". وأشار غندور الى ان حكومة سنغافورة"أدرجت في مناهج التعليم بالتعاون مع المدارس برنامجاً خاصاً يشرح للتلامذة كيفية معالجة المياه المبتذلة وتحويلها الى مياه نقية وصالحة للشرب، كما توزع مجاناً عبوات المياه على المدارس ليعتاد التلامذة منذ صغرهم على شربها، وأطلقت عليها اسم"New Water". وتعمل"ماتيتو"ايضاً في مجال معالجة المياه الصناعية، أي تأمين المياه الصالحة لأي مصنع، كما تعيد معالجة المياه المبتذلة الناتجة عن الصناعات المختلفة لتصب في البحر او في النهر خالية من أي رواسب او سموم. إعداد الأبحاث لا تتكل"ماتيتو"على استيراد التكنولوجيا لمعالجة المياه، بل تنشط أيضاً في إعداد الأبحاث والدراسات التي تتطابق مع المعايير المحددة من منظمة الصحة العالمية. وقال غندور ان الشركة"تخصص نسبة سبعة في المئة من الأرباح لتمويل هذه الدراسات". استثمارات 2006 وسألت"الحياة"غندور إذا كانت الشركة ستتحول الى شركة مساهمة عامة في ظل التحولات التي تحققها معظم الشركات في العالم، وبالتالي الشركات العربية لمواكبة التطورات الاقتصادية الدولية، خصوصاً ان"ماتيتو"حققت"عولمتها"بطبيعة عملها بانتشارها في مختلف قارات العالم. فألمح غندور الى ان الشركة"في صدد دراسة الموضوع، ولم تتخذ قراراً في شأنه بعد". كما أعلن ان الشركة"سترصد مبلغ 60 مليون دولار لتمويل مشاريع بنى تحتية جديدة في السنة المقبلة، وتنفذها بصيغة"بي أو تي"، لافتاً الى انها"تعمل وفقاً لهذه الصيغة منذ سبعة اعوام في مختلف مدن وقرى دول العالم". ورأى ان"المستقبل هو للتخصيص وللمشاريع المنفذة بصيغة"بي أو تي"او"بي أو أو"البناء والادارة والتملك. وعدّد الدول التي ستؤسس فيها هذه المشاريع الجديدة وهي: مصر ودول الخليج واندونيسيا والصين. في ضوء ما تقدم، الا يستحق لبنان ومياهه لفتة من مسؤوليه لحماية موارده المائية وايصال المياه الصالحة لمواطنيه، فيمكن عندئذ ان يكون ل"ماتيتو"اللبنانية التي تعالج مياه دول كثيرة دور في معالجة تلوث بحره وتنقية مياهه؟ يؤمل مع"عهد التغيير"وفي حال صدقت النيات ان تعود الشركة الى وطنها الام، وان يقيم اصحابها فيه"للعمل وليس فقط لقضاء العطل"، خصوصاً ان معتز غندور"متفائل"بأفق لبنان مستقبلاً.