ولد جورج تراكل في 3/2/1887 في مدينة زالسبورغ النمسوية. كانت عائلته ميسورة الحال فتعلم في صغره اللغة الفرنسية والعزف على البيانو. كانت علاقته بأمه معقدة ينتابها الشعور بالكراهية والحب، وهذا ما جعله ينطوي على نفسه ويبتعد عن البشر في طفولته. ورافقته عملية الانزواء حتى مماته. وبعد حصوله على الشهادة الثانوية انتقل العام 1908 الى فيينا لدراسة الصيدلة، لكن والده توفي العام 1910 ما أثر في وضعه المادي حيث اصبحت عائلته فجأة من دون مورد مالي، وفي فيينا كانت له علاقة مع مجموعة أدبية اسمها "اتحاد الأكاديميين للفن والأدب" وكانت له اتصالات مع أدباء نمسويين ونال الدعم الكبير من الأديب الساخر كارل كراوس ومن الفيلسوف لودفيغ فيتقنشتاين. كان تراكل مدمناً المخدرات والكحول، ما أثر سلباً في حالته الصحية والنفسية التي أخذت بالتدهور. وإدمانه المخدرات بدأ وهو في الخامسة عشرة. في البداية نشر قصائده في مجلات تهتم بالتيار التعبيري في الأدب. وأصدر عام 1913 ديوانه الوحيد اثناء حياته. كانت تربطه علاقة حميمية جداً بشقيقته غريتا التي كانت ذات موهبة موسيقية عالية. وكان حبه لها يتعدى حدود الحب الأخوي. بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 التحق بالجيش ليعمل مسعفاً طبياً في صفوفه. وبعد معركة غروديك الدموية وجد نفسه فجأة أمام تسعين جريحاً في حظيرة للمواشي. وعندما أطلق أحد المصابين النار على نفسه اصيب تراكل بصدمة نفسية. لم يستطع تحمل كل هذا الشقاء فحاول الانتحار، لكن رفاقه حالوا دون ذلك فأدخل الى أحد المصحات النفسية، لكنه تناول في يوم 3/11/1914 جرعة كبيرة من الكوكايين وضعت حداً لحياته ودُفن في مدينة اينسبورغ النمسوية. كانت فكرة الانتحار تراوده منذ الصغر وقد رمى بنفسه مرة وهو في الخامسة في أحد المستنقعات، ولكن تم انقاذه. وبعد سنوات رمى بنفسه امام الترامواي. ورأى المقربون منه في رغبته في الموت دليلاً على "شروده الذهني". كان تراكل من اوائل شعراء المدرسة التعبيرية الألمانية, هذا الشعر الذي كان يتمحور حول الانسان الوحيد المضطرب وما يعانيه من مشكلات العزلة. وكان يُركز على المعايشة الروحية والنفسية وما تنطوي عليه من احلام ونشوة وجنون وخيال مستهدفاً الكشف عن أعماق النفس والمشاعر الداخلية المنبعثة من أعماق الانسان. كانت لديه اتصالات مع الكاتب الساخر كارل كراوز والفيلسوف نيتشه الذي تأثر به كثيراً وقد رأى في الدمار فرصة للارتقاء بالحياة وبعث الانسان من جديد. قصائده حافلة بالصور المتشعبة التي تكشف عن صوفية فيها السحر والفتنة والدهشة، وتهجس بالحزن والبحث عن الإيمان. اهم موضوعاته الليل والخريف. لغته مفعمة بالايقاعات وتأثر كثيراً بهولدرلين ونوفاليس وبودلير ورامبو. واستمد الكثير من الموضوعات والصور الشعرية من المسيحية. الشعور بالوجود والحياة كان لديه مقروناً دوماً بوعي عميق لحقيقة الموت والفناء. وكان الخيال والموت والجنون والفناء تشكل المحور الأساس في اعماله الأدبية، التي امتازت ببعض التعابير شبه الرمزية، خصوصاً في استعمال رمزية اللون. وظهرت مشكلة اليأس وفقدان الأمل والخوف من الوجود في قصائده الأخيرة التي تركها بعد وفاته. من خلال شكواه الحزينة كان يتطلع الى عالم آخر افضل، عالم آخذ بالزوال ولا يمكن الوصول اليه الا من طريق الفناء. ليلاً زرقة عيني انطفأت هذه الليلة حمرة قلبي الذهبية آه من احتراق النور بصمت معطفك الأزرق يضم الهاوي الى الأسفل والثغر الأحمر يؤكد فرحة العَته. لقاء في طريق الغربة نظرنا بعضنا الى بعض وتساءلت اعيننا المتعبة ماذا فعلت بحياتك اصمت اصمت دعهم يشتكون اصبح بارداً من حولنا ذابت السحب في البعد شعور يدركني، لا نسأل بعد ولا احد يوصلنا الى الليل. الأغنية العميقة تحررت من اعماق الليل تندهش روحي في الخلود وتنصت روحي فوق المكان والزمان الى لحن الأبدية ليس النهار واللذة، ليس الليل والشقاء هم لحن الأبدية ومنذ ان استرقت السمع الى الأبدية لم اعد اشعر ابداً باللذة والشقاء اغنية مسائية في المساء عندما نسير على درب مُعتم تظهر امامنا وجوهنا الشاحبة عندما نعطش نشرب ماء المستنقع الأبيض، عَذبَة طفولتنا الحزينة موتى نَخلد الى الراحة تحت شُجيرة البَيلَسان النوارس الرمادية تنظر الينا غيوم الربيع تتصاعد فوق المدينة القاتمة التي تكتم عن النوارس الأوقات النبيلة ولأنني أمسكت بيديك الرشيقتين تفتحي بهدوء العينين المتسعتين كان ذلك من زمن قديم ولكن عندما تبتلي الروح بالعذوبة السوداء تظهرين انت ناصعة البياض في الطبيعة الخريفية الصديقة. التقديم والترجمة : سليمان توفيق