تحول استشهاد الحريري لمدخل جديد للبنان ولسورية. فالتاريخ لا يسير بهدوء والاحداث الكبيرة تصنع اكثر مما هو متوقع خصوصاً عندما يمس الحدث نظامين سياسيين تداخلا بأكثر مما هو متوقع، بل لو تساءل اي لبناني منذ فترة من الزمن عن مستقبل لبنان لكانت الاجابة تحمل في ألوانها صورة عن انشقاق اللبنانيين وتناقض مواقفهم وميولهم الدينية والسياسية. ولكن طرح السؤال نفسه ثانية اليوم سيعطي بطبيعة الحال اجابة مختلفة فيها الكثير من الوحدة بين تيارات وديانات اللبنايين. ان موت الحريري بهذه الطريقة المؤسفة أعاد بعث الوطنية اللبنانية من جديد. ولكنه فوق كل شيء ربما اعاد التساؤل في سورية حول صحة سلوكها في لبنان وحول امكان التغيّر في سورية نفسها. ربيع لبنان هو اذن ربيع سورية بالوقت نفسه. فبلا عودة السيادة للبنان لن يكون هناك مستقبل لسورية ايضاً. فسورية التي وجدت في لبنان تراجعت على مدى السنوات هي الاخرى لأن وجودها في لبنان ترك أثراً سلبياً على جنودها وضباطها واجهزتها كما انه زيف الحقيقة حول ضرورات قيام سورية وأيضاً لبنان بإصلاحات داخلية تعيد الحياة وتسمح بالتطور والتجديد. فالوجود السوري في لبنان أدام صورة غير واقعية حول سورية ودورها وحول الوحدة بين الشعبين وحول مستقبل مشترك لم يكن حقيقياً وفعلياً. لقد ترك الوجود السوري في لبنان أثراً سلبياً على القوات السورية. فما لا يمكن القيام به في سورية كان يمكن ممارسته في لبنان وما هو محرّم وغير قانوني في سورية كان مسموحاً به في لبنان وذلك بحكم عرف القوة المفتوحة تجاه المناطق الواقعة تحت سيطرتها. ان وجود جيش كبير وقوات خاصة وغير خاصة واجهزة تعمل خارج بلادها وخارج أطر القانون ساهم في حال من الفوضى وخلق الارضية للصراع بين البلدين. هذه القصة السورية اللبنانية ليست جديدة. فهي القصة ذاتها لأي جيش يعمل خارج بلاده وهي قصة كل احتلال مهما كانت ظروفه ومسمياته ولغته. لقد مثل لبنان صيغة خاصة للعالم العربي. ففيه طوائف وديانات ومن خلاله التقى الشرق بالغرب بنمط من الحرية والابداع. لهذا ظل لبنان عبر تاريخه الحديث يعيش تجربة خاصة تمثل الحرية والتعدد والعقلية العملية والمعتمدة على القطاع الخاص. لقد تميز لبنان بهذه الصفات رغم ظروف الحرب الاهلية وظروف التخلص من ارثها. وقد كانت احتمالات اختفاء هذه الصفات من لبنان في السنوات القليلة الماضية احد مصادر الخوف عليه. من جهة اخرى نجد ان النظام السياسي في سورية أميل للقطاع العام. ويخلو من التعددية، وسلطة الدولة فيه مطلقة، والحريات محدودة في ظل سيطرة الحزب الواحد. وسورية لم تختلف في هذا النظام عن انظمة عربية كثيرة جمهورية وملكية تبنت الاسلوب ذاته في الحكم. وبينما من حق سورية ان تكون ما تكون ومن حق لبنان ان يكون ما يكون الا ان الوحدة والتداخل والترابط المصيري بين نظامين فيهما هذا الاختلاف تثير الكثير من الاشكالات. ان التناقض بين النظامين عنى عملياً ان الوحدة والتداخل السوري اللبناني لن يخرجا عن كونهما وحدة اجهزة لها طابع سياسي تتحكم فيها الأبعاد السياسية. لهذا كانت اقوى ابعاد العلاقة السورية اللبنانية تحريك الوضع في الجنوب والتضامن مع"حزب الله"أمام إسرائيل. وفي الوقت نفسه عنت الوحدة السورية اللبنانية أن أحد الطرفين سيفرض نموذجه على الآخر وسيقدم تصوراته واحتياجاته على الآخر. وبطبيعة الحال، سيفرض النموذج الأقوى أمنياً وعسكرياً نفسه على النموذج الأضعف أمنيا. ففي كل النماذج السابقة عربياً ودولياً فرض النموذج الأمني نفسه. والجدير بالذكر أن العرب لم يعرفوا في السابق نجاحاً في بناء نموذج في العلاقات يشبه ذلك الذي بنته الصين مع هونغ كونغ. لقد وقعت في لبنان في الأسابيع الماضية خطوات باتجاه الانعتاق من هذه الثنائية التي تسبب الأذى الدائم لكل من لبنان وسورية. كما أنه انعتاق من الحالة التي تمنع كلاً من لبنان وسورية من مواجهة مسؤوليات التغير والاصلاح على كل صعيد سياسي واقتصادي. بلا حدث كبير بمستوى فقدان الحريري وبلا فاجعة كبيرة بمستوى فاجعة الحريري لما كان للخطاب اللبناني أن يتغير والسوري أن يتاثر ويستمع لما يقال حول دور سورية في لبنان. إن قوة الحدث تترك أثرها الكبير في كل مكان. إن انعتاق لبنان من علاقات غير صائبة مع نظامه السياسي ونظامه السيادي ومن وضعه مع سورية هو مدخل للنهضة اللبنانية ثم للسورية. فما تحتاجه سورية هو ما يحتاجه لبنان، وما يحتاجه لبنان هو ما تحتاجه كل الشعوب العربية: حرية في الطرح والنقد وعلنية في القول وصدق في الاحساس الوطني وتعبير عن الديموقراطية الصادقة والحركات التنموية. إن ما لا تحتاجه الشعوب العربية الآن هو من يقول لها ان فقدان الحرية ضرورة لتحقيق الأمن، وان فقدان الوطن هو الآخر ضرورة وطنية لانقاذه من نفسه، وان فقدان الكرامة والحقوق الشخصية والسياسية هو الآخر مقبول من أجل تحقيق أهداف التحرير والقومية. لقد بدأ الخطاب الذي يجمد النهضة من أجل قومية شكلية وتحرير لن يتحقق، يسقط. فبلا الحرية وبلا النهضة وبلا الانعتاق من الخوف من بعضنا البعض لن يكون هناك قومية وتحرير وخلاص. فالعبودية الداخلية هي المدخل للاحتلال الخارجي وليس العكس. آن الأوان لتعميق العلاقة بين الحرية والنهضة وبين الحرية والاستقلال بعدما أضعنا العقود في بناء دول تفصل بين الاثنين وأحزاب شمولية تقتل الحرية والنهضة، بينما يتآكل الاستقلال ويزداد العجز. استاذ العلوم السياسية، رئيس الجامعة الاميركية في الكويت.