حين يكتب مؤرخ الفنون التشكيلية في العراق تاريخ هذه الحركة فإنه سيذكر هذا التاريخ الحافل، الذي بدأ منذ أكثر من مئة عام، مع إشارة منه إلى أن هذه"الحركة"على زخم عطائها وتعدد ينابيعها لم تحظ بما هي جديرة به من دراسة ونقد. فباستثناء الكتابات النقدية والتنظيرية، الجادة والمهمة، التي وضعها كل من جبرا ابراهيم جبرا وشاكر حسن آل سعيد، فإننا لا نعثر على شيء كبير ذي أهمية نقدية أو تنظيرية تتصل بهذا الفن في اتجاهاته الفنية المتعددة. في هذا السياق يأتي كتاب الرسام والباحث عاصم عبد الأمير:"الرسم العراقي حداثة تكييف"، الصادر حديثاًً عن"دار الشؤون الثقافية"بغداد... فهو كتاب يتناول الحركة التشكيلية في العراق من خلال النظر في منجزها موضوعاً في بعدين، يتمثل الأول منهما في حال"تأصيل"مفهوم الحداثة التي ينظر من خلالها إلى هذا الفن في معطياته التجديدية - التي تمتد إلى أكثر من نصف قرن - في حين ينصرف في البعد الآخر إلى وضع هذا المنجز في اطار هذا المفهوم مفهوم الحداثة ناظراً إليه نقدياً في تحققاته في تجارب فناني هذه الحركة، بدءاً من التأسيس لهذه الحداثة - كما تمثلت عند كل من جواد سليم، وفائق حسن، وشاكر حسن آل سعيد - وصولاً إلى"جيل الستينات"الذي سيتمثل -بحسب المؤلف -"تجليات أخرى للحداثة"... وصولاً إلى تجارب ما بعد الستينات، سواء ما جاء منها في صورة توجهات فنية أو ما تحقق منجزاً فنياً - بالقياس إلى ما للحركة ككل من تطور... أراد المؤلف لدراسته هذه أن"تأخذ على عاتقها الخوض في انشغالات الحداثة"ضمن محاولة منه في أن يغطي هذا الجانب نقدياً من خلال الكشف عن عرى التواصل بين هذا الفن و"مظاهر الحداثة عند الآخر"، سواء جاء هذا التواصل في طريقة واعية، أم جاء تحققها في صورة من صور الاشتباك مع"حداثة الآخر"- ممثلاً على ذلك بالفنانين جواد سليم، وفائق حسن... ويرى ان لكل منهما كمؤسسين فعليين لفن عراقي حديث"فهمه المضاد للحداثة"، ذلك ان جواد - كما يتمثله من خلال عمله الفني، رسماً ونحتاً - قد"عني بتجديد الأشكال التصويرية ذات المرجعية الحضارية". في حين يرى أن فائق حسن، بمواصفات عمله"الاسلوبية"جاءت أعماله"متراوحة بين الواقعية والتجريدية والرمزية والتسجيلية". فإذا كان جواد نقل الاهتمام"إلى داخل الخطاب"كذا، فإن فائق"راهن على الجماليات ذات الجذر الموضوعي". ويضع بين هذين الفنانين فناناً آخر هو: شاكر حسن آل سعيد الذي يجده، من بعد جواد، قد"أظهر عزماً في اختيار مداخل جمالية تسمح بقراءة المحيط بالشكل الذي يتضاد مع جواد نفسه، وبالضرورة مع مجايليه ممن ركبهم هوس الحوار مع البيئة الحضارية في شتى أنساقها"... إلا أنه يجده مثلهما"منشغلاً في وضع حلول لإشكالية العلاقة"بين"الذات"و"الآخر- الأوروبي"، في الوقت نفسه الذي كان مفارقاً لهما في نمط استسلامه لمرجعياته. وإذا ما جاء إلى"الستينيين"- الذين شكلوا حركة لا تقل أهمية فنية وفكرية عن سابقيهم، فكراً ومنجزاً فنياً - فإن ما يجدهم قد أخذوا به أنفسهم، من حيث البداية، هو"تفجير ممكنات الوعي الجمالي، وقراءة الظواهر على أساس من تكريس الأساليب ذات النسق الفردي"، فإذا كانت"جماعة المجددين"- التي ظهرت أواسط ستينات القرن الماضي- بلورت اطروحتها"ضمن اطار المزاوجة بين الشكل والمضمون"مسهمة"في زيادة شقة الخلاف مع الرسم الخمسيني ذي الوجهة الواقعية"، وموغلين، في الوقت ذاته،"في العناية بالوسائط التقنية"... فإن جماعة"الرؤية الجديدة"التي ستعلن عن تشكلها أواخر الستينات - وقد ضمت فنانين معروفين اليوم بأهميتهم الفنية ضياء العزاوي، رافع الناصري، محمد مهر الدين، اسماعيل فتاح، هاشم سمرجي، صالح الجميعي ? حققت خطوات مهمة في التجريب، مكرسة"مفهوم الاسلوبية"، وقد اختط فنانوها"مداخل تعبيرية وجدوا فيها فرصتهم للقطيعة مع كل ما سبق". وسيجد لهذا الجيل امتداده في السبعينات وهمينته عليها، فلا يدل ظهور فنانين آخرين حتى الثمانينات - وهي الحقبة التي ينتمي إليها المؤلف فناناً - مما سيشكل"جيلاً آخر"يجد"حداثته حداثة تفجّر لا تموضع، حداثة توازن بين النسيان والتذكر". ويجد في حداثتهم هذه خلفية لهم مضت بهم"نحو التاريخ"في ما كانت تظللهم الخسائر. وفي هذا، واستخلاصاً منه، يرى ان من"مآثرهم"أنهم بنوا على تلك الخسائر"كياناً ابداعياً مخلخلاً لطرز ادائية سابقة"، كما"أنهم أحاطوا بالفهم المشوش للأسلوبية"، واضعاً في هذا الاطار عدداً من الفنانين - الذين وجدهم يمثلون هذا"الجيل الجديد"في الفن العراقي الحديث، يخلص من هذا العرض النقدي - التاريخي إلى جملة من النتائج، أهمها"أن الرسم العراقي قد أظهر بوادر الوعي بمقولات الحداثة يوم سارع إلى تقليص الهوة مع الآخر"، وان"جماعة بغداد للفن الحديث"التي التفت حول الفنان جواد سليم 1951 كانت"بؤرة التفجّر للحوار مع الآخر"، وكان لعدد من الفنانين الرواد"الشأن في تكريس مظاهر الوعي بالحداثة بالمعنى الذي جعل من الرسم العراقي سائراً في ركاب العصر". وفي سياق تطور حركة هذا الفن يجد ان"العلاقة بين المعطى الخمسيني والستيني في الرسم العراقي"بدت"من النوع القائم على إعادة انتاج للخطابات"، ولم تكن"علاقة تغييب أو اقصاء"، إذ كشف الستينيون"عن رهان النصر للحداثة"، و"لم تعد مقولة التراث وحدها كافية لتوسيع أفق النظر لمقولة الهوية". وإذا كانت جماعتا"المجددين"و"الرؤية الجديدة"أكدتا"خطاباً تصويرياً جديداً في حقبة كانت تغلي بالصراع الحضاري"، فإن الجيل الذي جاء بعدهما - كما يرى المؤلف - كان"أكثر تعبيرية وتراجيدية من سواه"، كما مثلت رسوم العقدين الثمانيني والتسعيني أنموذجاً لمعنى المتحول في الرسم العراقي.