من المفارقات الغريبة أن تبحث قمة الجزائر العربية أمرين متناقضين أولهما تطوير وإصلاح الجامعة العربية، إذ ساهمت معظم الدول العربية بأفكارها وتمنياتها في هذا الصدد، والامر الثانى هو التجاوب مع الغزو الديبلوماسي الاسرائيلي، والفصل بين العلاقات العربية الاسرائيلية، وبين مستقبل التسوية في فلسطين والاراضي السورية. ذلك انه خلال حديث السيد عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية في برنامج"مقال"لقناة دبي الفضائية في الأسبوع الثالث من آذار مارس 2005، سأله مقدم البرنامج هل تنوي أو أنت مفوض بإحاطة قمة الجزائر بمدى التقدم في تنفيذ قرارات وبرامج الإصلاح في الدول العربية التي اتخذتها في قمة تونس، فأوضح الأمين العام أن ثماني دول أرسلت للأمانة العامة تقارير حول الإجراءات التي اتخذتها، وأنه سيقدم تقريراً بذلك إلى قمة الجزائر. وعندما سأله مقدم البرنامج عما إذا كان ينوي أن يستخدم هذا التقرير لحث الولاياتالمتحدة وغيرها للتوقف عن الضغط على النظم العربية من أجل إجراء الاصلاحات الديموقراطية، وإظهار أن هذه النظم تقوم بواجبها مما يتطلب الكف عن ملاحقتها, قال الأمين العام أنه يقوم بالفعل بذلك، وأنه سيضمن تقريره إلى القمة عدداً من الملاحظات والتوصيات. والحق أن هذا الحوار يثير أزمة الجامعة العربية من زوايا متعددة, وبشكل خاص من زاويتين: الزاوية الأولى: موقف الجامعة العربية من قضية الديموقراطية والاصلاح السياسي داخل الدول العربية، حيث يلتزم الأمين العام بما يصدر عن أجهزة الجامعة، خاصة في هذه القضية الحساسة. ورغم أن صدور قرارات من القمة العربية حول قضايا الاصلاح لا علاقة له بإرادة الإصلاح داخل كل دولة، لأن الإصلاح ينصب على ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي قضية داخلية صرف، فإن الواضح أن تطور الاتجاهات الديموقراطية في العالم العربي يقلل من حساسية هذه القضية، ويجعلها شأناً عاماً بعد أن كان الحديث عنها يدور همساً خوفاً من الأجهزة الأمنية الحاكمة، كما يجعل تناول هذه القضية - من ناحية أخرى - لا يتصف بالإلحاح، خاصة إذا صح الاعتقاد بأن تناول هذه القضية علناً وعلى مستوى القمم قصد به أن يحقق هدفين لا علاقة لهما بالإصلاح أصلاً وهما، القفز فوق الاستحقاقات الوطنية وتمييع القضية، لأن الحديث عن الإصلاح العربي يفسح المجال للجميع للنقد من دون تحديد أو تجريح، فيضيع دم الإصلاح بين القبائل العربية. وأما الهدف الثاني فهو إيهام الولاياتالمتحدة والعالم أن النظم العربية تتجرع السم بنفسها ولا حاجة إلى أجنبي يقدمه لها، وهو ما يمثل محاولة للإفلات من الضغوط الدولية. وفي كل الأحوال، فإن الجامعة العربية ما كان لها أن تكون ساحة للحديث عن قضية الإصلاح، بل إن الجامعة منذ أن نشأت وهى تجسد سوءات النظم العربية، ومرآة عاكسة لسلبياتها، وشاهد على دوران هذه النظم فى حلقة مفرغة. فالجامعة قد اتهمت بأنها نشأت أصلاً لتكريس طابع تحالف النظم ضد رغبات الشعوب في الوحدة فيما بينها، والحرية لأوطانها ومواطنيها. فإذا كانت الجامعة تكريساً لعجز النظم العربية في الداخل والخارج، فإن النتيجة المنطقية هي ضرورة بحث وضع الجامعة ودورها إذا أصبحت النظم الديموقراطية هي الممثلة للدول العربية في الجامعة. لا شك أن وصول العالم العربي إلى هذا الوضع يتطلب جامعة جديدة في حده الأقصى، ولكنه يحدث في حده الأقصى ثورة في إدارة الجامعة، وذلك كله يتوقف على موقف النظم الديموقراطية العربية من الفكر والعمل القوميين. اعتقد أنه في مثل هذا الغرض، فإن الساحة يجب أن تخلو من محترفي الفكر القومي المنغلق الذي استخدم طوال الخمسين عاماً الماضية العربية الاستبداد والبطش والتدخل العربي في الشؤون الداخلية العربية، بل واحتلال الدول العربية الأخرى كما حدث في حالة احتلال العراق للكويت. بل إن هذه النظم المستبدة التي ضيّعت شعوبها وتلاعبت بمستقبل بلادها، قد جلبت عليها الاحتلال والإذلال من جانب القوى المتربصة بالمنطقة. لا خلاف على أن الفكر القومي بحاجة إلى تنقية العقل العربي من الشوائب الماضية، ولابد من البحث عن مضمون عصري وايجابي يعكس ثقافة العمل المشترك من أجل الصالح العام. وفي هذه الحالة، فإن التجربة الأوروبية يمكن أن تكون نبعاً للفائدة والاسترشاد الذي يراعي الفوارق السوسيولوجية في المجتمعات، ولا يقع في وهم التعميم، فاعتناق الديموقراطية كنظام سياسي لا يمكن أن يكون أساساً لنتيجة مطلقةً، فنتوقع ما حققه الأوروبيون، لأن تطور المجتمعات العربية سوف يحتاج إلى عقود من المحاولات الجادة في ظل نظم ديموقراطية حقيقية، واحترام صارم للقانون والشرعية الحقيقية، بعد أن أسيء استخدام كلمة القانون والشرعية فى ممارسات النظم المستبدة العربية. فاستخدم القانون أداة لقهر الشعوب ومصادرة مستقبلها لصالح استقرار موهوم وسكوت لا يختلف عن سكوت المقابر، فقدت فيه الشعوب حيويتها، واستسلمت لأقدارها التعسة. وخلاصة القول في هذه النقطة، إن استمرار الحركة الديموقراطية في العالم العربي تتطلب تغييراً كاملاً في هياكل ومضامين مؤسسات العمل العربي المشترك، بدءًا بالجامعة العربية الحالية، ولكن المشكلة هي أن الدفع بهذه التيارات الديموقراطية من الخارج يمكن أن يفرض هيمنته على النظم الديموقراطية الجديدة، فتصبح ديموقراطية الاستسلام للرغبات الأجنبية، فتصادر مرة أخرى حق الشعوب العربية في الاختيار والقرار. ولذلك لا يجوز التضحية بالجامعة العربية الحالية، وإنما يجب النظر منذ الآن في تطويرها على الأسس والأفكار السالفة. أما الزاوية الثانية، فهي وضع الجامعة العربية إذا نجحت إسرائيل في غزوها الديبلوماسي للعالم العربي. فقد قلل الأمين العام من أهمية تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي الذي أكد فيه أن هناك مشاورات مع الدول العربية لتطبيع العلاقات الديبلوماسية معها، بحيث لن يقل عدد الدول التي تتجاوب مع إسرائيل حتى نهاية عام 2005 عن عشر دول، فإذا أضيف هذا العدد إلى الدول الأخرى المتقاربة من إسرائيل، وهي فلسطين وقطر وعمان وتونس والمغرب لكان معنى ذلك أن العالم العربى كله قد قبل تطبيع العلاقات مع إسرائيل دون أن تقدم إسرائيل المقابل، وهو إعادة الأراضي والحقوق العربية إلى أصحابها. ومن الواضح أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل أو توثيق العلاقات معها يحدث تقرباً من واشنطن, خشية منها أوطمعاً في أن تخفف ضغطها الديموقراطي، أكثر من كونه حباً في إسرائيل، أو اقتناعاً بموقفها أو حتى أملاً في التوصل إلى تسوية عادلة. وربما تذرعت هذه الدول بأن تقديم الجزرة لإسرائيل يغريها بفوائد التجاوب مع طلبات التسوية العادلة، بعد أن فشلت هذه الدول في إرغام إسرائيل على تحقيق ذلك. ولا يخفى أن فترات ازدهار الجامعة العمل العربي المشترك قد تزامن وارتبط بفواجع المواجهات العربية الإسرائيلية، فأصبح للجامعة وظيفة واحدة هي أن تكون إطاراً لتوحيد المواقف العربية ضد إسرائيل لصالح الحقوق العربية. فهذا الانطباع الذي يؤيده الواقع، يثار من جانب إسرائيل والولاياتالمتحدة بدوافع أخرى تثير مسألة تتعلق بمستقبل الجامعة العربية في ظل السلام العربي الإسرائيلي، أو بعبارة أدق في ظل الانصراف العربي الفردي عن قرارات الجامعة القديمة في مجال العلاقات مع إسرائيل. هذه القضية يجب أن تدرس في إطار جهود تطوير الجامعة العربية، حيث لا يجوز أن تبذل هذه الجهود بمعزل عن التحولات الكبرى في المنطقة العربية وكلها ترجع إلى توحش القوة الأميركية الناجم عن خلل تركيبة النظام الدولي من ناحية، واستيلاء إسرائيل على العقل والقوة الأميركيتين من ناحية ثانية، وتسليط هذه القوة الأميركية لتبديد كل عناصر القوة العربية من ناحية ثالثة. لقد كانت الجامعة تحتج على أي تقارب إسرائيلي عربي ما دام التعنت الإسرائيلى مستمراً، فإذا بالدول العربية ترغم على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بصرف النظر عن مدى تعاون إسرائيل وتفهمها للسلام الحقيقي. وهذا الوضع يؤشر على وصول العالم العربي إلى آفاق سحيقة من التدهور، بينما هو في الطرف الآخر يمثل قمة المجد الإسرائيلى في عهد شارون. فهل ستظل الجامعة العربية رغم غياب مبرر وجودها التاريخى، وهو أساساً الصراع مع إسرائيل؟ وهل تنجح المنطقة في المواءمة بين الروح الديموقراطية، والانسجام مع فكرة القومية والعروبة، وأن يتم نقل هذه الفكرة من طابعها القبلي إلى طابع عصري؟ هذا هو التحدي الحقيقي للمنطقة. إن أسوأ ما ينتظر الجامعة العربية بعد التراجع العربي المستمر على جميع الجبهات، هو أن تتحول من ساحة لمقاومة التطبيع مع إسرائيل قبل أن تفي إسرائيل باستحقاقات السلام العادل إلى ساحة لتشجيع الدول العربية على قيام كل دولة بتحديد موقفها من إسرائيل على ضوء مصالحها، بل والإشراف على تطبيع العلاقات العربية معها، أي أن تتحول الجامعة العربية من قلعة للدفاع إلى عكس ما قامت من أجله، رغم تسليمنا بأنها تاريخياً لم تقم أصلاً لمواجهة إسرائيل، لأن ميلادها سبق ميلاد إسرائيل، بعدة سنوات ولكن الواقع جعلها مركزاً للمواجهة السياسية والدبلوماسية بين العرب وإسرائيل. وأذكر أنه في أوائل التسيعنات وبعد مؤتمر مدريد للسلام 1991، بدأ البحث في مؤتمرات وندوات في إطار الأممالمتحدة، من بينها مؤتمر بمدينة غراتز بالقرب من فيينا حضرته ضمن مؤتمرات نزع السلاح في هذه القضية. وقد انشغلت المؤتمرات جميعاً بكيفية التوفيق بين الاتجاهات القومية ورموزها المؤسسية في العالم العربي، وبين السلام الجديد في المنطقة. وتبلور البحث حول ما إذا كانت الجامعة العربية تستطيع أن تتحول من أداة في المواجهة إلى أداة لزرع الثقة المتبادلة والوئام بين إسرائيل والعالم العربي، وكانت تلك مهمة شاقة. فهل تصبح الجامعة العربية عقبة في سبيل التغيير الديموقراطي، وأن تصبح في نفس الوقت أداة لتسهيل التطبيع مع إسرائيل؟ * كاتب مصري.