تحددت معالم قضية الانسحاب السوري بجدولة واضحة خلال زيارة نائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى موسكو. فقد صدر بيان عن الدولتين يؤكد الانسحاب وأن جدوله سريع. وكلف وزير خارجية روسيا نفسه نقل الصورة الى ممثلي دول الاتحاد الأوروبي. لقد عادت روسيا الى واجهة محاولات معالجة قضايا الشرق الأوسط بقوة، وعاد صوتها مسموعاً. وكان البرهان في اجتماع الرئيس فلاديمير بوتين مع الرئيس جورج بوش. واجهت روسيا عام 1998 أزمة مالية وانهياراً لسعر الروبل وتشكيكاً دونياً في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها. وأصبح الدين الروسي يسوق ب30 في المئة من قيمته الاسمية. وتكاثرت التعليقات بأن روسيا ما هي إلا دولة من دول العالم الثالث بسكانها البالغ عددهم 145 مليوناً مقارنة بسكان الولاياتالمتحدة الذي يقرب عددهم من 280 مليون نسمة. تولى بوتين رئاسة روسيا عام 1999 ووضع نصب عينيه استعادة بلاده دورها في المجتمع الدولي وحقق نجاحات أصبحت بارزة لكل مراقب، تمظهرت في الاحصاءات الآتية: - خلال السنوات من 1999 وحتى نهاية 2004 حققت روسيا ثاني أعلى معدل للدخل سنوياً بمعدل وسطي يساوي سبعة في المئة في مقابل تسعة في المئة حققتها الصين خلال هذه السنوات وقبلها. - انخفضت نسبة الدين العام الروسي الى الدخل القومي من 130 في المئة الى 28 في المئة، وارتفع احتياط البنك المركزي من 15 بليون دولار الى 85 بليون دولار. - ارتفعت مداخيل الأفراد بمعدل 12 في المئة سنوياً على مدى الأعوام المنقضية منذ عام 1999. وأصبح معدل دخل الفرد في روسيا قياساً الى القدرة الشرائية نحو تسعة آلاف دولار سنوياً. كما ارتفع معدل الاستثمار في المنشآت الانتاجية ب10 في المئة سنوياً خلال هذه الفترة. - احتلت روسيا مكان الصدراة بين الدول المصدرة للنفط والغاز، وهي تزود أوروبا الغربية 60 في المئة من حاجاتها من الغاز، وحققت روسيا منافع ملحوظة من ارتفاع أسعار النفط والغاز. - استعاد بوتين ملكية شركات نفطية وغازية ضخمة من براثن قراصنة استلاب الثروات العامة مثل ابراموفيتش وخودوركوفسكي. وهؤلاء استولوا على ثروات طبيعية تقدر بعشرات بلايين الدولارات في مقابل توظيفات استثمارية لم تتخط عشرات ملايين الدولارات. وعلى رغم اتهام بوتين بأنه يمارس سياسة اعادة سيطرة الدولة على الاقتصاد، لم يلجأ هو وفريقه الى التأثير في استثمارات شركات النفط الغربية الكبرى كشركة النفط البريطانية ممن حازت على عقود للتنقيب والانتاج بحسب قواعد متعارف عليها لا غبن فيها للدولة ولا شك في صحة المفاوضات في شأنها. - ارتفعت صادرات روسيا سنوياً الى ما يفوق ال40 بليون دولار في مقابل مستوردات لا تزيد على 70 بليون دولار. وشركاء روسيا الأساسيون في مجال التجارة الخارجية يشملون الدول الأوروبية الرئيسة كما الولاياتالمتحدة، وفائض ميزان التجارة الخارجية عزز احتياط روسيا وأسهم في ثبات سعر النقد وارتفاع القيم. - حققت روسيا نجاحات ملحوظة في مجال اطلاق الصواريخ والاتصال بالمحطات الفضائية. وقد توصلت الى سد فراغ نتج من إيقاف برنامج الفضاء الأميركي لمدة سنتين بسبب حوادث تعرض لها. وخلال عام 2004 أعلنت روسيا أن لديها صواريخ تستطيع اختراق كل انظمة الدفاع الجوي المعروفة في العالم بما فيها صواريخ برنامج حرب النجوم الاميركية التي كان الرئيس رونالد ريغان أصر على انجازها، وبالتالي احتلت روسيا في برامج الفضاء المكان الأول بين الدول الصناعية المتقدمة وأصبح قادة هذه الدول يسعون الى التعاون معها بدلاً من تهديدها. في مقابل هذه الانجازات الضخمة ما زالت روسيا تواجه تحديات كبيرة على صعيد تحديث منشآتها الصناعية وتنويع صادراتها بحيث تتجاوز الاعتماد على صادرات النفط والغاز والألماس والذهب والأخشاب والكيماويات، وعمليات التحديث تستوجب استثمارات ضخمة وتقنيات متنوعة قد لا تتوافر بالسهولة والكثافة المطلوبة. إضافة الى التجهيزات المادية وآلات التصنيع والانتاج تحتاج روسيا الى تطوير وسائل التسويق وتسهيل الاستثمارات وتحديث التشريعات التي تؤمن الحماية للمستثمرين لقاء أكلاف معقولة. وروسيا عانت من الأحداث الإرهابية الأمر الذي دفعها الى التقارب مع الدول الغربية الساعية لضبط الإرهاب واستئصاله، ولعل هذا التوجه هو ما يفسر التقارب بين الدول الغربية خصوصاً الولاياتالمتحدة وفرنسا وألمانيا، من جهة وروسيا من جهة اخرى. ان هذه الخلفية التي تكونت خلال السنوات الخمس المنصرمة دفعت روسيا الى احتلال موقع بالغ الأهمية لحل مشكلات منطقة الشرق الأوسط. فروسيا لها مصالح متقاربة مع دول النفط وتشارك الدول الغربية الاهتمام بكبح الإرهاب واستئصال جذوره، وفي الوقت نفسه يتمتع الروس بحس قوي لمواطنيتهم واعتزاز بقدراتهم التقنية، ولهذا السبب بالذات كشفوا الستار عن امكاناتهم الفضائية والصاروخية وكفايتهم في صناعة الطائرات، المقاتلة منها أو الخاصة بالاستعمال المدني. روسيا الدولة العضو في مجلس الأمن والمتمتعة بحق الفيتو استعادت القدرة على فرض دورها الديبلوماسي عن سبيل اعتماد سياسات انفتاحية على الغرب مع الحفاظ على خصائص الدولة الكبرى في مجالات التكنولوجيا المتطورة. استناداً الى كل ذلك توجهت سورية الى روسيا من أجل تأمين جسر اتصال موثوق منه مع الدول الصناعية، المتشددة تجاه سورية. وهذا الدور مطلوب لفترة وليس فقط حتى تاريخ الانسحاب السوري من لبنان قريباً. مستشار اقتصادي