ما يجري على أرض لبنان من أحداث أعقبت جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري أدى إلى تصاعد الضغوط الدولية على سورية لا سيما من جانب الولاياتالمتحدة, ودول الاتحاد الأوروبي ومطالبتها بتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 1559 الذي يطالبها بالانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية وعدم التدخل في شؤونه الداخلية, كل ذلك أثار قلق الذين يحبون هذا القطر العربي وأهله، الفريد في تكوينه ونظامه الديموقراطي, وهم يحرصون على أن يبقى دائماً آمناً مستقراً واحداً، فهو وجه العرب الحضاري أمام العالم, وأن تظل علاقاته بشقيقته سورية قائمة على المحبة والاخوة والاحترام المتبادل النابعة من العلاقات التاريخية بين الشعبين, والمصالح المشتركة التي تربط بين البلدين في الماضي والحاضر والمستقبل. فلبنان مثلما قال أديب فلسطين اسعاف النشاشيبي"قلب عربي وعقل أوروبي"، وفي هذه الأزدواجية الحضارية فائدة كبيرة لكل الأقطار العربية وشعوبها. فقد كانت المحافظة على لبنان حراً مستقلاً واحداً من أبرز أهداف الدول العربية في كل الأحوال وفي كل الأزمات التي مرت بالمنطقة العربية, لأن التجربة الحضارية اللبنانية تخدم القضايا العربية في المحافل الدولية وفي مقدمها قضية فلسطين, فهي تثبت للعالم أن العرب أمة متحضرة تتعايش فيها مختلف الأديان والثقافات والحضارات. ولبنان يمثل نموذجاً حياً للتعايش السلمي في عالمنا العربي بينها جميعاً, تحققت في ظله الأخوة الحضارية التي تجمع بين كل اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والطائفية والسياسية, والوحدة الوطنية والديموقراطية هما القاعدتان اللتان يقوم عليهما نظامه السياسي الذي صمد طويلاً في وجه الأزمات العاصفة التي تعرض لها. وأثبت اللبنانيون جميعاً أنهم قادرون على التغلب على خلافاتهم من خلال لغة الحوار الديموقراطي وأن ينتصروا على أنفسهم، ويقدموا مصلحة الوطن على مصالحهم الخاصة من أجل أن يستمر وطناً واحداً, دولة واحدة لشعب واحد. وبفضل هذه الروح والنضوج السياسي استطاعوا في ظل هذا التعايش والوحدة والديموقراطية, أن يحققوا تقدماً اقتصادياً يُعتد به وآثاره واضحة في علاقاتهم العربية والدولية, على رغم ضيق مساحة وطنهم, وقلة موارده الطبيعية. وللبنان أياد بيضاء كثيرة على أمته فقد قدم عددًا لا يحصى من المبدعين في مختلف فروع العلم والمعرفة والأدب الذين ساهموا بإنتاج عقولهم في النهضة العربية الحديثة. وكفى للبنان فخراً أن من ابنائه أحد أكبر الفقهاء المجتهدين في الإسلام الإمام الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو أمام أهل الشام من دون منازع. مثل هذا الشعب الذي له هذا التراث الحضاري العريق، وأنجب هؤلاء الرجال الأعلام, لا تنال منه الخطوب, ولا تهزه العواصف مهما اشتدت ولا تفصم عُرى وحدته الأزمات والخلافات. كاتب فلسطيني, استاذ للعلوم السياسية.