تدفق مئات الآلاف من اللبنانيين الى قلب بيروت أمس تلبية لدعوة"تيار المستقبل"وأحزاب المعارضة في ذكرى مرور شهر على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وطالب المتظاهرون الذين قدّرت عددهم وكالات الأنباء العالمية بنحو مليون شخص بكشف الحقيقة في اغتيال الحريري وبمحاسبة المسؤولين الأمنيين. كما طالبوا بالخروج الكامل للقوات السورية واستخباراتها من لبنان. وألقى عدد من نواب المعارضة وشخصياتها كلمات في المناسبة كان أبرزها كلمة النائبة بهية الحريري راجع ص 3 وكلمة النائب مروان حمادة هذه الصفحة. وأجمع المتحدثون على إدانة أسلوب تعاطي السلطة مع الجريمة والمطالبة بإقالة رؤساء الأجهزة الأمنية. عند الثالثة ظهراً، غطى المتظاهرون المناطق المحيطة بوسط بيروت وساحة رياض الصلح المجاورة، فيما توقف السير في مداخل: الدورة، الحازمية، المدينة الرياضية، المرفأ وغيرها بفعل المشاركة الكثيفة. كما اضطر المشاركون من منطقة البترون إلى استخدام الزوارق البحرية للوصول إلى العاصمة. ومنذ العاشرة، كانت الساحة تستعد إلى حدث سيشهد كثيرون انه الأضخم في تاريخ لبنان. اتخذ الأمنيون إجراءات اعتادوا عليها منذ شهر مضى، وحمل الشبان والشابات الذين علقوا أعمالهم ودراستهم ليوم آخر أعلام لبنان وصور الرئيس الشهيد، متوجهين إلى ساحة يرتادها كثيرون منهم في شكل يومي. "كلنا 100 % لبنانيي"، كُتب على اللافتة الأكثر انتشاراً في المكان. يمكن تمييز الشعارات المنتشرة وسماع الهتافات بسهولة. لا شيء من هذا سيغدو واضحاً بعد ساعات قليلة."المعتصمون هم لبنانيون فقط"، كتب على لافتة أخرى، لكن ما هو سر إصرار المتظاهرين على تأكيد لبنانيتهم؟ "اللبنانيون الحقيقيون وحدهم يستحقون هذا اللقب، ومعظمهم موجود هنا اليوم لانتزاع استقلال بلدهم وكرامة عيشه، فهذه ليست تظاهرة، هي انتفاضة الاستقلال"، يقول جاد. كثيرون من طلاب المدارس والجامعات عقدوا لقاءات في هذه الساحة أمس. بعضهم يسكن ويدرس في العاصمة، وبعضهم الآخر قصدها من مكان بعيد، ف"الحريري رجل لكل الوطن، وحرام يضيع حقه"، بحسب ريما التي جاءت من قرية بريتال البقاعية مع رفاقها في المدرسة للمشاركة في التظاهرة. مدرسة ريما لم تقفل أبوابها أمس، لكن"اتفقنا مع الأساتذة على عدم الحضور للمشاركة في التظاهرة، فتجاوب كثيرون منهم مع مطلبنا"، تضيف. في الحديقة غير المنجزة الفاصلة بين جانبي الطريق في ساحة الشهداء، تقف العجوز. ترفع مظلة سوداء كتب عليها"نريد أن نعرف الحقيقة"، وتوزع باليد الأخرى شموعاً على الشبان المجاورين، طالبة منهم إضاءتها قرب الضريح. العجوز التي تقيم في الجنوب كانت تتمنى المشاركة في مسيرة التشييع، ولم تشارك في التظاهرات السابقة التي دعت إليها تيارات المعارضة،"كنت انتظر أن تدعو عائلة الحريري إلى تظاهرة حتى أشارك"، تضيف. المنطقة المحيطة بتمثال الشهداء أقفلت بحواجز حديد منذ ليل أول من أمس. عزلت الخيم الملونة والمعتصمون داخلها عن الخارج، وتحولت الباحة الصغيرة إلى غرفة طوارئ: بالونات حمر وبيض، قارورات هواء، زجاجات مياه، واعلام تنتظر إلصاقها بالعصي الخشب لترفرف عالياً بعد وقت قليل. مدخل التمثال الذي يحظر دخوله إلا على الصحافيين وبعض المنظمين هو الوحيد المؤدي إلى المنصة حيث سيتحدث السياسيون الكثر. من جانب المنصة يمكن مشاهدة الأعداد تتضاعف في أوقات قياسية. تغص الساحة بالمشاركين، فيصعد بعضهم إلى سطوح الأبنية المجاورة ومسجد محمد الأمين. عريف الحفل يهتف بالمشاركين مزوداً إياهم بآخر التطورات الأمنية، وبهوية آخر الوافدين وأعدادهم، ويطلب منهم تسهيل مرور سيارت الصليب الأحمر."تشير الساعة إلى الواحدة إلا خمس دقائق"، يقول. يطغى على الساحة صمت مرتقب لدقيقتين من الزمن، ثم يصدح النشيد الوطني عالياً، ويلف المنظمون تمثال الشهداء بقماشة زرقاء، رمز الحقيقة. بين الواحدة والثالثة لم يتغير شيء في الصورة غير أعداد المشاركين المتضاعفة. الهتافات والشعارات تضيع بين الحشود. سورية بدورها لم تغب عن الحدث، وان لم تشهد تظاهرة الأمس هتافات عنصرية بالكميات السابقة نفسها. الرئيس رفيق الحريري، كان الحاضر الأكبر في تظاهرة الأمس."هديتك لنا في عيد العشاق. علمتنا كم تحبنا"، ترفعها الشابة عالياً، وقد غطت رأسها بعلم لبنان كتب على طرفه كلمة"لعيونك". و"سامحنا عرفناك لما فقدناك"، كتبت على البالون الأبيض الكبير الذي أطلق فوق رؤوس المتظاهرين. في الفسحة الصغيرة المواجهة للمنصة، تجلس سيدة على كرسي منحها إياه المعتصمون في الخيم."سنشارك في كل تحرك للمعارضة، لأن هذا يتعلق بمستقبل أولادنا"، تقول. السيدة تخطت الأربعين من العمر، لن تقبل"المزيد من الذل، نحن عشنا الذل على مدى سنوات طويلة. سنبقى هنا حتى نعرف الحقيقة. ولو لم نكن هنا منذ البداية لما تحرك أحد منهم"، تضيف."الحقيقة والاستقلال"، هما مطلب سيدة أخرى"كي نرتاح". السيدة ليست أما لأي ولد، لكن"كل الشبان المتواجدين هنا كأولادي، جئت ادعمهم، وأعطيهم معنويات حتى يكملوا ما بدأوا به". السترات الحمر وكلمات: الحقيقة، لأجل لبنان، و05 انتفاضة الاستقلال، تنتشر بكثرة في المكان. فالمنظمون كثر،"اكثر من 1250 شاباً من التيارات المعارضة كلها"، يقول عضو"الحزب التقدمي الاشتراكي"زياد شيا. تقترب الساعة من الثالثة، ويصبح التحرك في المكان مستحيلاً. يستقطب أربعة شبان مكبلي الأيدي ومكممي الأفواه انتباه الكاميرات الكثيرة، فيما تغص المنصة بحركة الفنانين الكثيرين في المكان، تمهيداً لصعود السياسيين. يطيّر المنظمون الأعلام والبالونات الملونة والأقمشة الزرق، وينشغل المتظاهرون في الاستماع لكلمات السياسيين والرد عليها تبعاً لمحتواها. عند الثالثة ظهر أمس، شغل كثير من المتظاهرين في تأمين كميات من الهواء، خيل إليهم أنها اختفت بفعل الضغط الكثيف الذي أحدثه الزحام. عند الثالثة ظهر امس، كان رفيق الحريري كعادته الجديدة مستلقياً على بعد خطوات قليلة من مناصريه، يسمع عريف الاحتفال وهو يطلب من المتظاهرين الصلاة عن روح الرئيس كل بحسب ديانته. ثمة أوقات لا تصدق فيها أن رفيق الحريري لم يعد موجوداً.