تشعر معظم قيادات السنّة العرب في العراق بالاحباط والعجز لعدم قدرتها على اتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المناسبة، وحاجتها الى تبني استراتيجيات عمل تضمن لها الرؤية الموضوعية لما يحيط بها من أحداث ومتغيرات، ولافتقارها الى الثقة بنفسها والى المهارات اللازمة لإحداث تحول نوعي في أدائها السياسي. وهذه الجوانب السلبية وغيرها هي التي طبعت تحركها منذ لحظة سقوط نظام صدام حسين الذي كان يمنحها نوعاً من الحماية والرعاية بعدما ضمن ولاءها. وهي، في البداية، لم تكن مدركة لطبيعة التغييرات العاصفة التي ستحدث في حال سقوط النظام، بل كانت تمني نفسها بقدرته على الخروج من المأزق وبقائه سالماً معافى الى حد ما. وكانت تزكي هذا التوجه وتغذيه كوادر الحزب وضباط أجهزة الاستخبارات والأمن ورجال الحرس الجمهوري وكبار ضباط الجيش، وهؤلاء في معظمهم محسوبون على طائفة السنّة أو متماهون معها بحكم الارتباطات القرابية والجغرافية. لذلك شكلت لحظة الانعطاف الكبير في 9 نيسان ابريل 2003 مفاجأة غير محسوبة لتلك القيادات، ودفعت بها الى اتخاذ قرارات خاطئة وتبني خطوات مرتجلة. وبدلاً من أن تعمد الى القراءة الصحيحة لما حدث ويحدث، نراها تركن الى ردود الأفعال العصبية والمتشنجة، وبعضها يتجه الى ممارسة جلد الذات أو الانتحار المعنوي أو تغييب نفسه والاختفاء ليس من الساحة السياسية فحسب، بل من ميدان القيادة الدينية ايضاً. وإذا كانت القيادات الشيعية، وربما بحكم القمع الموجه إليها من قبل النظام السابق، قد تفوقت بأساليب عملها ونوعيته، وكذلك بخبراتها وقدرتها على اتخاذ القرار، فإن القيادات السنّية ظلت تراوح في مكانها، فكرياً وتنظيمياً. وهذا ما يتصل ببعض صفحات العهد السابق. فقد فرضت التركيبة التي جاءت الى السلطة بعد 17 تموز يوليو 1968 وضمت كوادر حزبية وعسكرية من الوسط نوعاً من التحالف الضمني للنظام مع الطائفة السنّية، وجذّر هذا التحالف وقوّاه لجوء النظام في سنواته اللاحقة الى الاعتماد على أبناء مدن معينة لملء المواقع والمراكز المهمة، خاصة منها العسكرية والأمنية، والحزبية أيضاً، إضافة الى أن قيام الحرب مع إيران والحملة التي شنها النظام على الحركات الشيعية وقياداتها، أعطيا رجال الدين السنّة زخماً أكبر للتحرك والنشاط، ولكن في الحدود التي يرسمها النظام نفسه. وفي عقد التسعينات بدأت سنوات"أكثر عسلاً"في علاقة القيادات السنّية بالحكم، مع إقدام صدام على غزو الكويت، وطغيان مسحة دينية على الخطاب السياسي للسلطة. وفي منتصف التسعينات سعى بعض رجال الدين السنّة وبدعم من صدام نفسه لانشاء حزب اسلامي سنّي يقوده الشيخ عبداللطيف الحاج أهميم وجماعة"البنك الإسلامي"، وصدرت جريدة"الرأي"الأسبوعية لتروج لهذا الاتجاه، إلا أن المحاولة فشلت وهي في المهد بسبب شكوك الكثيرين بالأهداف التي تكمن وراءها. وفي الوقت نفسه انتعشت المجموعات السنّية من مريدي الطرق الصوفية وحلقات الذكر النبوي، وأعطيت الدعم المادي والمعنوي كما انضم اليها بعض رجالات الدولة، وفي مقدمهم عزة إبراهيم نائب الرئيس. وعلى النقيض من ذلك، واجهت بعض العناصر السلفية المتشددة حملة قمع واعتقال واتهمت بالعمل على تقويض النظام، وأخضعت بعض مساجد السنّة لمراقبة شديدة، إلا أن هذه الاجراءات لم تدم طويلاً. أما بالنسبة الى"حركة الاخوان المسلمين"التي أسس فرعيها في العراق منتصف خمسينات القرن الماضي الشيخ محمد محمود الصواف، واجتذبت الكثير من شباب السنّة في حينها، ثم أسست"الحزب الاسلامي"كواجهة لها، فقد تراجع دورها بعدما انفض عنها في العقود اللاحقة الكثير من أنصارها ومؤيديها، ولم تعد لها قيادات قادرة على تطوير وضعها التنظيمي والسياسي. وقد اقتصر مجال عملها، أثناء حكم صدام، على العمل الخيري التطوعي واحياء المناسبات الدينية تحت واجهة جمعيتي"التربية الاسلامية"و"الشبان المسلمين"الخيريتين والمجازتين قانوناً. وبعد سقوط النظام سعى بعض كوادرها الى بعث الروح في"الحزب الإسلامي"، وكان أن انشق الحزب الى مجموعتين: القيادات التقليدية وعلى رأسها مفتي الديار العراقية الشيخ عبدالكريم المدرس، والقيادات الجديدة ويقودها الدكتور محسن عبدالحميد، وهو استاذ جامعي. واستطاعت الأخيرة السيطرة على الحزب، وشاركت في السلطة التي أقامها الاحتلال، حيث عيّن عبدالحميد عضواً في مجلس الحكم، لكنه رفض المشاركة في حكومة اياد علاوي لاحقاً. وخلق انتهاء"سنوات العسل"مع سقوط نظام صدام حالة ارباك لقيادات السنة العرب، وانتابتهم المخاوف من احتمال"سيطرة الشيعة"على السلطة. وزاد في سؤ الأمور تشتت تلك القيادات تحت أكثر من لافتة، وعدم وجود زعامات معتبرة تمتلك النفوذ داخل الطائفة نفسها، ثم اقدام بعض تلك القيادات على اتخاذ مواقف متسرعة وغير مدروسة، منها الزج بنفسها في"عمليات مقاومة"من دون ان يكون لها مشروعها السياسي الخاص بها. وهذا ما جعلها تنكفى، في الكثير من الحالات، أمام جهات أقوى منها خبرة واكثر دراية ولها حسابات قد لا تتفق معها، مثل جماعات العنف القادمة من الخارج أو المجموعات المرتبطة بالنظام السابق أو المتضررة من سقوطه، وكذلك محاولة البعض لعب ورقة"الاختطاف وقطع الرؤوس"أو الترويج للارهاب الذي استهدف الأبرياء والمؤسسات العامة ودور العبادة للطوائف الأخرى تحت ذريعة"مقاومة المتعاونين مع الاحتلال"من دون ان يلقي ذلك رادعاً من قيادات السنة نفسها، مما أجج مشاعر النقمة والغضب لدى الكثيرين. يضاف الى ذلك كله ردود الأفعال على تداعيات العملية السياسية الجارية، وهي ردود اتسمت بطابع الارتجال والتناقض لدرجة ان المراقبين المحايدين لم يعودوا في وارد تفسير ما يمكن ان يؤدي اليه تصريح ما لأحد قادة السنة باعتبار ان هناك احتمالاً بأن يرد بما ينقضه! هكذا جرى التأكيد في البداية، من قبل أطراف سنية عدة، على"أهمية المشاركة في الانتخابات"ثم على ضرورة"الانسحاب منها ومقاطعتها"، ومن ثم"اعطاء خيار التصويت أو عدمه لكل مواطن"واعتبار الانتخابات في ما بعد"غير شرعية"أو"ناقصة الشرعية"والتعامل معها على هذا الأساس و"اعتبار الحكومة التي ستنبثق عنها حكومة تصريف اعمال"، وصولاً الى اعلان الرغبة في"المشاركة في لجان وضع الدستور"والمطالبة ب"مقاعد في الجمعية الوطنية"، وكذلك المطالبة ب"جدول زمني لانسحاب القوات الاجنبية"و"الاعتراف بالمقاومة المسلحة وحقها المشروع في الدفاع عن بلدها"، ثم دعوة أطراف متطرفة محسوبة على السنة ل"القطيعة التامة مع العملية السياسية ... واتباع طريق المقاومة المسلحة"، وأخيراً وليس آخراً، الدعوة الى الحوار والنظر في مسألة المشاركة في الحكومة المقبلة... الخ. سلسلة المواقف الملتبسة هذه وعدم القدرة على بلورة استراتيجية واضحة للعمل أوشك ان يدخل السنة في نفق العزلة والانكفاء، لولا ظهور ملامح على السطح توحي بيقظة قيادات سنية ووعيها على ما يمكن ان تؤدي اليه المواقف الملتبسة. وقد أقدمت هذه على بلورة مشروع عمل اعتبر"أساساً لقيام مصالحة وطنية ومشاركة السنة في العملية السياسية الجارية بما في ذلك كتابة الدستور"، كما فتح الباب أمام تفاوض وحوار ممكنين سواء مع قوات الاحتلال والحكومة أو مع القوى والأحزاب التي شاركت في العملية السياسية منذ سقوط النظام السابق. ومشروع العمل هذا قدمته"هيئة علماء المسلمين"، وهي المرجعية السنية العليا التي تشكلت في خضم المواجهات الصعبة التي عاشتها البلاد أخيراً، الى مؤتمر عقد في"مسجد أم القرى"في بغداد منتصف شباط فبراير الماضي، وضم ممثلين عن قوى وأحزاب وشخصيات مستقلة، وتضمن سبع نقاط هي: 1- المطالبة بجدولة واضحة ومحددة وملتزم بها وفق ضمانات دولية لانسحاب قوات الاحتلال من العراق بجميع مظاهرها واشكالها. 2- الغاء مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية والاثنية واعتماد مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات. 3- الاعتراف بالمقاومة العراقية وحقها المشروع في الدفاع عن بلدها، ورفض الارهاب الذي يستهدف الأبرياء والمنشآت والمؤسسات ذات النفع العام ودور العبادة من مساجد وحسينيات وكنائس وجميع الأماكن المقدسة. 4- اعتبار الانتخابات ناقصة الشرعية. 5- اعتماد الديموقراطية والانتخاب خياراً وحيداً لتداول السلطة والعمل على تهيئة الاجواء والقوانين التي من شأنها اجراء العملية السياسية في أجواء نزيهة وشفافة وبإشراف دولي محايد. 6- اطلاق سراح المعتقلين والمحتجزين في سجون الاحتلال والحكومة الموقتة وايقاف عمليات الدهم المستمرة وانتهاكات حقوق الانسان. 7- اعمار المدن العراقية المخربة وتعويض أهلها تعويضاً عادلاً ومنصفاً. إن مسؤولية الأطراف الأخرى، سنية وشيعية وغيرها، ان تستقبل هذه المبادرة بروح ايجابية، كما ان مسؤولية الأطراف صاحبة المبادرة ان تضاعف جهدها كي يكون لها وعاؤها التنظيمي الأقدر على التعاطي مع المتغيرات وعلى اعتماد خطاب سياسي موحد. صحافي ومراقب عراقي