لم تخرج النشاطات الثقافية التي جاءت في سياق الدورة الجديدة للمهرجان الوطني للتراث والثقافة"الجنادرية"، واختتمت قبل أيام، عن السياق الذي اعتاده المثقفون في السعودية، خلال السنوات القليلة المنصرمة. فلا جديد تمكن ملاحظته على صعيد نشاط ثقافي أكثر عمقاً، والتصاقاً بهموم المثقف السعودي. فعدا ندوة"تكريم شخصية سعودية"التي شارك فيها عدد من النقاد والأدباء، ناقشوا خلالها بعض النواحي الفنية المهمة، في التجربة الشعرية والشخصية للشاعر عبدالله الجشي 1926، الذي كرمه المهرجان بصفته شخصية العام الثقافية، لم يتضمن برنامج النشاطات أي موضوع أدبي أو ثقافي. فالندوة الرئيسة كانت عن"المعرفة والتنمية"ولم تشهد جلساتها جمهوراً كبيراً، بل اقتصر الحضور على الضيوف أنفسهم، وعدد من المتخصصين في المعلومات واقتصاديات المعرفة، إضافة إلى محاضرة عن"النظرية السياسية للدولة الإسلامية"ألقاها وزير الشؤون الإسلامية صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، وأخرى عن"حقوق غير المسلمين في الإسلام"ألقاها رئيس مجلس الشورى، صالح بن حميد، ومحاضرة ثالثة عن"صورة الإسلام في مناهج التعليم الغربي"لمجموعة من الباحثين. وإذا كان نصيب الشعر الشعبي من برنامج المهرجان أمسيتين، شاركت فيهما مجموعة من الشعراء، فإن نصيب الشعر الفصيح أمسية واحدة، ولشاعر عراقي تكرر اسمه مرات عدة، خلال سنوات قليلة، هو الشاعر يحيى السماوي، الذي يخاطب شعره الشريحة المحافظة، من جمهور الشعر في السعودية. وبدا لكثير من المتابعين أن مهرجان"الجنادرية"، الذي احتفل أخيراً بعامه العشرين، غير قادر على التجدد، على رغم الإمكانات الكبيرة التي تتاح له، والجهود الجبارة التي يبذلها القائمون عليه، في مؤسسة الحرس الوطني التي تنظمه سنوياً. وكأن السنوات التي تألق فيها المهرجان، الذي انطلق عام 1985، بإقامة قرية للتراث السعودي في"الجنادرية"، وبنشاط وحيد هو سباق الهجن، ثم تطور لاحقاً ليشتمل على نشاط ثقافي منبري، غاية في التميز، خصوصاً مع دعوة عدد كبير من الأسماء الثقافية والفكرية، من داخل الوطن العربي وخارجه، وكانت أكثر جذباً لجمهور المثقفين على اختلاف اهتماماتهم، لن تعود مجدداً. في تلك الدورات كان الفندق الذي يقيم فيه الضيوف، يتحول منبراً حراً للنقاش، ومعالجة قضايا أدبية وفكرية مهمة، فضلاً عن الخيمة الثقافية التي تجتذب أطيافاً من المثقفين، وكان المهرجان في تلك الفترة الزمنية أسهم في شكل كبير، في تصحيح الصورة الخاطئة عن المجتمع السعودي، وشكل من جهة أخرى، مناسبة رائعة لالتقاء المثقفين السعوديين ببعضهم مع بعض، حين يأتون إلى العاصمة من المدن الأخرى. ولكن في السنوات الأخيرة، راح المهرجان يفقد الكثير من ألقه وحيويته، وكف الأدباء والمثقفون شيئاً فشيئاً عن حضور النشاطات، أو الذهاب إلى الفندق لرؤية الضيوف. وما فتئ هؤلاء يعبرون عن عدم رضاهم، عما آلت إليه حال المهرجان، من نمطية في موضوعات ندواته الرئيسة، وتكرار بعض أسماء الضيوف، إلى غياب مشاركة الأدباء السعوديين. ففي المؤتمر الصحافي الذي عقده نائب رئيس اللجنة العليا للمهرجان، الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز، قبيل انطلاق الفاعليات، تطرق الصحافيون وبعض المثقفين إلى تراجع الاهتمام بمتابعة النشاطات، التي يتضمنها برنامج المهرجان، وإلى غياب"النجوم"عن قائمة المدعوين، وتحدثوا عن"لجنة المشورة"التي تستعين بها الجهة المنظمة، لتحديد موضوع الندوة، واختيار الأسماء المشاركة والضيوف من الأدباء والمثقفين من الداخل والخارج، وعن انسحاب بعض الأعضاء منها، لعدم الأخذ باقتراحاتهم التي غالباً ما تعبر عن اهتمامات تيار الحداثة، فهم يواجهون بحسب ما عبر عدد منهم صعوبة في تمرير اقتراحات بعينها، وهي الاقتراحات والأسماء التي تبناها المثقفون، ويرددونها في كل مناسبة، أي توجيه الدعوة إلى الجيل الجديد من المبدعين والمبدعات العربيات، وعقد ورش للسرد يلتقي خلالها جيل الشباب، من الكتاب والكاتبات في السعودية، بأسماء لها حضورها القوي والمؤثر في المشهد الإبداعي العربي، وأن تكون هناك ليال للشعر تمثل مختلف الأذواق، وأن يدعى أدباء عالميون إلى الحضور والمشاركة في برامج ثقافية محددة، وأن تناقش الموضوعات التي تلامس قضايا المثقفين. ولم تعد ملاحظة الضعف الذي يعتري أنشطة المهرجان، دورة تلو أخرى، مسألة تقتصر على المثقف السعودي، بل تخطته إلى بعض المثقفين العرب، سواء الذين يأتون للمرة الأولى أو من تتكرر دعوتهم. فالمفكر طيب تيزيني يقول إن المهرجان:"لا يكفي في وضعيته الراهنة... إذ ينبغي تطوير"الجنادرية"عمقاً وسطحاً، بحيث يصبح ملتقى فاعلاً بامتياز...". ويرى المحلل السياسي بلال الحسن أن"السير على المنوال نفسه في إدارة العملية الثقافية، التي كانت جيدة وايجابية في السنوات السابقة، قد تصبح غير ايجابية عندما تتكرر كثيراً، ولا بد من تبديلها وتغييرها وتطويرها، ولا بد من وضع قواعد لعمل الندوات، بحيث تصبح أكثر عمقاً وأكثر فائدة...". القاص السعودي مبارك الخالدي، يلاحظ أن النشاط الأدبي المحلي"باهت وضئيل جداً، فكنت مثلاً أتمنى أن تكون هناك أمسية للقصة، مقارنة بأمسيات الشعر الشعبي، وأمسية للقصيدة الحديثة ولشعراء مختلفين، من حيث الأطياف الشعرية". وكان الناقد سعد البازعي ذكر في تعليق له على مستوى المهرجان، لإحدى الصحف المحلية، أن هناك رأياً أحادياً:"يطغى على البرامج الثقافية لمهرجان الجنادرية". مؤكداً أن الفاعليات:"لم تعد بذلك الوهج الذي كانت عليه، وأعتقد أن القضية ليست قضية ما الموضوع، فالمواضيع كثيرة ومهمة، لكن القضية من الذي سيناقش هذا الموضوع أو ذاك، ففي يوم ما كنا نستمع إلى محمد عابد الجابري وعبدالوهاب المسيري وأحمد عبدالمعطي حجازي، وإلى مفكرين جاؤوا من مختلف أنحاء العالم، لكني أرى أن التعددية التي يمثلها الجنادرية آنذاك لم تعد كما كانت... تغير المسار إلى صبغة معينة من الاتجاه الواحد والتفكير الواحد، بدلاً من الاستفادة من كل الأفكار والتيارات". عروض مسرحية من جهة أخرى، وخارج الأنشطة المنبرية لمهرجان الجنادرية، كانت العروض المسرحية التي تقدم على مسارح مختلفة، تابعة لمؤسسات ثقافية وتعليمية، هي الأكثر جذباً للجمهور. واللافت أن هذه العروض وعلى رغم أنها تعد نشاطاً أساسياً في برامج المهرجان، إلا أنه لا يدعى إليها ضيوف الجنادرية، كما لا يلاحظ اهتمام خاص بدعوة عدد من المسرحيين العرب، للحضور أو مشاهدة هذه العروض وتقويمها، لتستفيد الفرق المسرحية المشاركة، والتي تحرص على تطوير رؤاها وأدواتها، خصوصاً تلك التي سبق أن شاركت في مهرجانات عربية، وحازت جوائز عربية مهمة، لذلك أصبح الاهتمام بالنشاط المسرحي، شأن المسرحيين السعوديين وحدهم. في هذه الدورة عبرت بعض العروض المتميزة، عن طموح مسرحي كبير، مثل مسرحية"الدمى"لشادي عاشور، و"جبا يا هو"لمحمد السحيمي، و"يوشك أن ينفجر"لعبدالعزيز عسيري وفهد الحارثي، و"العزلة"للزميل إبراهيم بادي وجلواح الجلواح، وسواها. اجتهدت هذه العروض في طرح أسئلتها الخاصة، التي هي اسئلة المسرح السعودي في حقبته الراهنة، وعبر رؤية مسرحية مركبة إلى حد كبير، واستثمار لمعطيات فنية متنوعة. وإذا كانت لجنة المسرح، اشترطت أن تكون العروض لهذا العام باللهجة المحلية، فإن الكتاب والمخرجين حاولوا تجاوز هذا الشرط، ليقدموا عروضاً حفلت بمشهدية بصرية تجاوزت اللهجة، بتحويلها مجرد عنصر ضمن عناصر عدة، مثلت قوام العرض المسرحي. ورأى بعض المشتغلين في المسرح، كتاباً ومخرجين، كمحمد العثيم وفهد رده وإبراهيم بادي وعبدالعزيز السماعيل وسواهم، أن شرط اللهجة المحلية قد يدفع :"إلى تقديم عروض محلية ذات قيمة فنية عالية، ورؤية مبتكرة، ليست تقليدية، وبعيداً من تلك العروض الضعيفة السائدة في السعودية، خصوصاً أن معظم المسرحيين الذين تعد عروضهم"نخبوية"و"تجريبية"، يقدمونها بالفصحى". أخيراً وعلى رغم النمطية والتكرار، وتراجع الاهتمام، إلا أن هناك كثراً من المثقفين السعوديين، لديهم قناعة تامة بأن إدارة المهرجان قادرة، في حال رغبت، على أن تعيد الألق والحيوية، إلى البرنامج الثقافي... وإذا كان ذلك صحيحاً، ما الذي يمنع هذه الإدارة من فعل ذلك، ليعود المهرجان كما كان قبل سنوات عدة، فسحة ثقافية وفكرية فريدة من نوعها، في السعودية؟