عرف العراقيون خلال سبعينات القرن الماضي وثمانيناته بارتفاع مؤشرات الاستهلاك، وهو ما كان انعكاساً لتحسن مطرد في مداخليهم. غير أن"ضربة قاصمة"وجهت الى نزعتهم الاستهلاكية مع الإيقاع الثقيل للحصار الذي بات مع سنواته الثلاث عشرة طارداً لملامح الرخاء من بيوت غالبية العراقيين. وبات منظر التسوق محدداً بالبحث عن المواد الغذائية الرئيسة، فيما كانت فئة قليلة من"تجار الحروب والحصار"تقيم نظامها الاستهلاكي الخاص عبر أسواق ومطاعم وكازينوات كان عموم الناس ينظرون إليها كألغاز وأسرار عصية على الفهم. ففيما وصل معدل الأجر الشهري للمواطن العراقي إلى ما يعادل ثلاثة دولارات، كان هناك من يبذخ في المأكل والمشرب والملبس واستيراد السيارات الحديثة. اليوم يعود الروح في شكل تدريجي إلى الطبقة الوسطى التي أصابتها حروب العراق بمقتل حقيقي وأجهزت سنوات الحصار عليها تماماً. و"عودة الروح"هذه تتمثل بتصاعد معدل أجور العاملين في مؤسسات الدولة نحو مليون ونصف مليون موظف. وسجلت أجور أساتذة الجامعات ارتفاعاً جعلها أعلى مما هي عليه في بلدان مجاورة كان يلجأ إليها الأكاديميون العراقيون للعمل في جامعاتها ومعاهدها، بينما زادت أجور المعلمين والأطباء والموظفين بين خمسين إلى مئة مرة عما كانت عليه قبل سقوط نظام الرئيس صدام حسين. أحدث الأجهزة مع هذه الزيادة بات من الطبيعي أن تغرق أسواق البلاد ببضائع اختفت من بيوت العراقيين وحياتهم. فالأرصفة في شوارع بغداد والمحافظات اكتظت بأحدث الأجهزة الكهربائية المنزلية بعدما ضاقت مساحات المحال والمعارض بملايين الأجهزة التي باتت البيوت العراقية عطشى إليها. كما تم استيراد نحو نصف مليون سيارة جديدة ومستعملة بعد عام من نهاية نظام أفقر العراقيين في شكل منهجي. وظهرت لاحقاً أنماط من تشجيع المواطنين على الشراء بعدما بدا المعروض اكبر من الطلب. فكانت ظاهرة البيع بالأقساط بعد فرض زيادة معينة على سعر البضاعة المعروضة للبيع نقداً. أمل الموظفة المتقاعدة ترسم جواً من التفاؤل وهي تصور كيف تمكنت وزوجها الموظف المستمر في الخدمة من استعادة أجهزة منزلية كانا باعاها خلال الحصار لضمان شراء أغذية وأدوية وملابس وأشياء ضرورية أخرى. وأتت هذه الأشياء على حساب غسالة الملابس والثلاجة التي يسميها العراقيون"المجمدة"والتي كانت عادة تكتظ بأنواع كثيرة من الأغذية أيام رخاء نسبي تميزت به حياتهم قبل الحصار، وعلى حساب التلفزيون الملون الكبير الحجم والفيديو أو أجهزة التسجيل الموسيقية. أمل تغالب اليوم سنواتها الخمسين من اجل أن تبدو مبتهجة مع تمكنها من شراء غسالة ملابس جديدة، متذكرة بحزن سنوات طويلة مضنية من غسل الملابس يدوياً، وتلفزيون جديد وكالعادة جهاز لاقط للبث الفضائي الذي كان اقتناؤه ممنوعاً في عراق صدام حسين. وفيما تنظر إلى زوجها بفرح مشوب بذكريات حزينة عن سنوات باعا خلالها طقم جلوس فاخراً في غرفة استقبال الضيوف، فإنها وبناتها الثلاث يبدين سعيدات وهن يستبدلن ستائر البيت القديمة الكالحة الألوان بأخرى جديدة. لكن سعادة أمل كانت اكبر حينما حمل إليها زوجها في"عيد زواجهما"ماكينة خياطة كانت باعت مثيلتها في سنوات الحصار. ميسون تمكنت من تكوين بيت جديد مكون من أثاث فاخر بكلفة لا تبدو عالية إذا ما قورنت البضاعة التي اختارتها بمثيلاتها في الدول المجاورة. وتشير إلى أن عدم فرض ضرائب وجمارك على البضائع المستوردة جعل أسعارها معتدلة وفي متناول غالبية العاملين، معتبرة أنّ سياسة الانفتاح الاقتصادي الحالية ساعدت في رفع وتيرة النزعة الاستهلاكية التي لا تراها مرتبطة بمؤشرات سلبية في العراق مثلما هي في مجتمعات تعيش استقراراً نسبياً وظروفاً طبيعية. وميسون التي تعمل مديرة علاقات في إحدى الصحف اليومية الصادرة في بغداد تقول:"تحتاج بيوت العراقيين إلى أن تستعيد توازنها وتعوض ما خسرته من أثاث وحاجات ضرورية". وتلفت إلى وجود ما تسميه نوعاً من التوازن في النزعات الاستهلاكية لدى المواطن العراقي مؤكدة انه"من الصعب على العائلة العراقية أن تعود إلى مؤشرات البذخ الاستهلاكي والعشوائي السابقة بعد أن تعلمت أساليب التقتير وتنظيم الصرف وتقنينه خلال الحصار". مثل هذه الفكرة يؤكدها الخبير الاقتصادي عبدالله الجبوري الذي يقول إن"مؤشرات الاستهلاك في العراق حتى نهاية العقد الحالي ستتجه إلى قضايا لا تبدو عبئاً على اقتصاديات البلاد. فثمة حاجة إلى ملايين الوحدات السكنية وهو ما يعني اتجاه الناس إلى تأمين متطلبات السكن وتحسين مستويات العيش". وترى وزارة التخطيط العراقية أنّ مهمة مماثلة تتطلب نحو مئة بليون دولار يتوقع أن يساهم القطاع الخاص في نصفها، أي أن مصاريف ضخمة في عمليات إعادة الإعمار ستتولى مداخيل المواطنين تأمينها. كما أن توجه الحكومة إلى رفع دعمها تدريجياً للأغذية الأساسية سيجعل مؤشرات الاستهلاك تتعرض إلى ضغط وضبط وتنظيم، على رغم ان البلاد سجلت معدلات قياسية خلال العامين الماضيين في استيراد الأجهزة المنزلية والاثاث والملابس والسجاد والسيارات.