بعد إعلان نتائج الانتخابات العراقية، تستمر المداولات السياسية التي ستفضي الى تشكيل حكومة منتخبة ستواجه تحديات جساماً لتجاوز الإرث الثقيل للماضي، ناهيك عن التعامل مع الوجود الأجنبي على الأرض العراقية. ولن يُكتَب للحكومة المرتقبة النجاح إذا ما أفلحت فقط في صوغ الدستور ونجحت بإيجاد صيغ توافقية لممارسة السلطة السياسية، بل سيرتهن نجاحها أيضاً بما يأتي: - قدرتها على الحفاظ على الأمن الاقتصادي والاجتماعي الأمن الليِّن والحفاظ على حياة المواطن وحريته من التجاوزات والضرر المتعمدين الأمن الحاد" - مهارتها في تجاوز المحدِّدات الخارجية على استقلالية القرار الوطني وتوظيف قدراتها التفاوضية بما يُنجِزُ للعراق حيِّزاً مهماً في تعاملاته الخارجية" - قدرتها على إنجاز مهمات إعادة إعمار الاقتصاد المدمَّر بما يضمن سرعة البناء" - بقدراتها في الشروع في إصلاح الأجهزة الإدارية والقضائية والأمنية بما يضمن استقامتها وشفافية تعاملاتها. ونركِّز هنا على الجانب الاقتصادي/الاجتماعي مرتأين ضرورة الإسراع في معالجة تحديات أساسية تلكَّأت في معالجتها، مما أضعف الأمن الليِّن للبلاد فأفضى إلى مشكلات خطرة ليس أقلها وجود ما لا يقل عن 3.2 مليون عاطل. وأفضى ربع القرن الماضي من الحروب، إضافة الى الحظر الدولي، إلى إضعاف قدرات العراق التنافسية. فأمسى الاقتصاد متخلفاً. وجاءت الإجراءات الاقتصادية لأيلول سبتمبر 2003 والمفرطة في انفتاحها في ظل الاحتلال لتزيل أي عقبات حمائية تاركة أبواب الاقتصاد مشرَّعة أمام غزو السلع الأجنبية. وأسفر هذا الانفتاح الفجائي، مع ضعف البنى التقنية، عن هزة قوية طاولت ليس الصناعة، فحسب بل الأهم من ذلك قدرات الاقتصاد التشغيلية. وأضاف حل مؤسسات الجيش والأمن إلى أعداد العاطلين فوجاً من الذين تدهورت مستوياتهم المعيشية بانقطاع مصادر دخولهم من دون تعويض ملحوظ. من جهة أخرى، أسهم الاستيراد غير المنضبط للسيارات بزيادة حادة في طلب المشتقات النفطية، ففاقم أزمة المعروض منها وزاد من أعباء استيرادها. وجاءت الضربات المتكررة للمرافق البترولية لتفاقم أزمة المحروقات ولتشل المرافق الاقتصادية وتزيد البطالة. إن مسألة التشغيل من أهم التحديات الملحة أمام الحكومة المرتقبة، إذ يرتبط بالتشغيل دعم القدرة الشرائية للمواطنين الذين تعتمد نسبة غير قليلة منهم على ما تحصل عليه من مواد غذائية وغيرها ضمن الحصة التموينية. وهذه الأخيرة تمتص ما لا يقل عن 35 في المئة من إيرادات الدولة لتُحرم قطاعات الإنتاج والاستثمار من تمويل ضروري. لذا، سينبغي على الحكومة المنتخبة المسارعة الى إعداد استراتيجية وطنية للتشغيل ومكافحة الفقر ترتكز على تسريع معدلات النمو الاقتصادي، كما تعالج مواطن تركُّز البطالة في البلاد بغية إيجاد سياسات فرعية وموجهة مناطقياً لامتصاصها. وفي هذا الوقت بالذات لا بد من سياسات فاعلة لتحفيز النمو الاقتصادي السريع في القطاعين الكثيفي العمل، الإسكان والزراعة، بغية امتصاص البطالة. إن ثاني المهمات الملحة هي إعادة تأهيل قطاع النفط، وحماية منشآته إضافة إلى توسيع طاقات إنتاجه مما يضمن للمالية العامة إيرادات أكبر. وفي هذا الشأن، ستوفر حماية منشآت النفط فرصاً للعمل، كما ستحد من الخسائر المالية الكبيرة التي يتركها تخريبها. وهناك ضرورة ملحة لتوسيع قدرات التكرير لمنع أزمات وقود المركبات التي تكلف البلاد استيراداً مكلفاً وتعطلاً في قطاع النقل. ثالثاً، سينبغي لاتفاقية نادي باريس أن تُرفق بمفاوضات عاجلة لتقليص الديون التجارية للبلدان العربية، إذ لا ينبغي التلكؤ في حل مشكلة الديون المتبقية والتي قد تزيد على 80 بليون دولار ونسبتها من أعلى النسب إلى إجمالي الناتج المحلي. رابعاً، يكتسب تحديث القطاع المصرفي عموماً وتوسيع قدراته الإقراضية أهمية بالغة في الظروف الحالية. إذ أدى التضخم الجامح لتلاشي رأس ماله الحقيقي، ما أوهن قدرات تمويل النشاطات الاستثمارية والتشغيلية. ومن أهم النشاطات التي ينبغي التوسع في تمويلها الإسكان والصناعة والزراعة وذلك بتمويل ميسَّر ولفترات طويلة نسبياً وبأسعار فائدة منخفضة أربعة إلى خمسة في المئة. أما الاستثمار الصناعي فسيستلزم إقراضاً طويل الأجل لن تستطيع المصارف التجارية الضعيفة حالياً توفيره. لذلك لا بد من إعادة تنشيط كل من المصرف العقاري والصناعي والزراعي بإعادة رسملتها تعويضاً عن سنوات الانهيار المالي. وفي الوقت نفسه، لا بد للسياسة النقدية من التوجه، لا لهدف تحجيم التضخم فحسب، بل أيضاً لضرورات تيسير التمويل الاستثماري بقروض طويلة الأجل وبأسعار فائدة منخفضة. خامساً، إن المهمة الملحة الأخرى هي إعادة تأهيل البنى التحتية، خصوصاً الكهرباء، والاتصالات، ومياه الشرب. فمن دون الزيادة السريعة لطاقات توليد الكهرباء سيستمر تعطُّل المصانع والمدارس والمستشفيات ووسائل الاتصال، كما ستتفاقم معاناة الناس وتذمُّرهم. كذلك، فإن تلوث المياه وانقطاعها من مسببات المعاناة. وفي الشهور المقبلة، يُرتأى القيام بترسيخ ثقة المواطن بحكومته وبأطرها التشريعية والقانونية، علاوة على تعزيز قدرات أجهزتها في ترسيخ الأمن والتعامل مع الجريمة المنظَّمة التي أدت إلى ضعف ثقة المستثمرين. وضعف الثقة هذا صار محفِّزاً لهروب الرساميل إلى الخارج في حين تستقطب بلدان مجاورة رؤوس الأموال العراقية. إن معالجة المشكلة الأمنية في شكل فاعل وهي معالجة تتطلب حلولاً سياسية واقتصادية واجتماعية تزيد من الشعور بالمشاركة كما تعزز إمكانات التشغيل وتوليد الدخل لتحد من مغريات الولوغ في العنف نتيجة الفقر. لذا لا بد من معالجة قضية الفقر في شكل عاجل وبالتلازم مع توفير فرص عمل، ولليافعين خصوصاً، بغية إشعارهم بوجود "ضوء في نهاية النفق" ينير آفاق حياتهم ويفتح أبواب مشاركتهم في البناء الاجتماعي. ولا مناص هنا أمام الحكومة الجديدة من السعي الحثيث الى تسريع معدلات الاستثمار. إن القطاع الخاص، في ظل الظروف الأمنية السائدة، لن يكون رائداً للاستثمار وبالتالي على الدولة التوجه الى الاستثمار أو إلى ضمان تمويله في القطاع الخاص. كذلك، عانت محافظات عدة من انحسار الاهتمام بشؤونها الاجتماعية والاقتصادية ولأسباب سياسية منها التركُّز المفرط في السلطة. وآن الأوان لإرساء مبدأ تحقيق المزيد من التكافؤ في التنمية الإقليمية لتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين الأكثر حرماناً. إن تسارع الاستثمار في المحافظات الكردية الثلاث بعد استقرارها يُعدُّ نموذجاً يُحتذى به في محافظات الجنوب. ونرجح أن تعالج التنمية الأكثر تكافؤاً بؤر البطالة، لتقلِّل من مسبِّبات الهجرة نحو المدن الكبرى وبغداد بما انطوت عليه هذه الأخيرة من مشكلات عدة بعدما أهملت الأبعاد التنموية لاستقرار البلاد. رئيس قسم التحليل الاقتصادي، الأممالمتحدة/اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا. الآراء المعبر عنها في هذه المقالة شخصية ولا تعكس بالضرورة الآراء الرسمية للأمم المتحدة.