وفي اليوم السادس والعشرين لا تزال الجدة تجلس على كنبتها الجلسة نفسها امام الشاشة الصغيرة، تحمل بيد سبّحتها، وباليد الأخرى الريموت كونترول. تتابع البرامج باهتمام وإصغاء كبيرين يشوبهما تعليق من هنا وانفعال من هناك. برامجها المفضلة؟ لا. هذه المرة كسرت القاعدة فلا تشاهد الا البرامج السياسية. السياسة فقط لا غير. من يعرف الجدّة، يعرف تماماً ان في الأمر سوءاً ما. فلطالما كانت تمقت السياسة والسياسيين، والأمر بدوره ينسحب على البرامج التلفزيونية، طبعاً السياسية منها."لكن هل يعقل أن نقف غير عابئين بما يجري من حولنا والبلاد تعيش مرحلة مفصلية دقيقة وخطيرة؟"تسأل الجدة نفسها وتتابع:"حتى أنني لم أعد"أطيق"البرامج الترفيهية". قبل أيام حينما قصدتها مجموعة من الشباب اللبناني الذين يجولون على الأحياء ويرفعون علم بلادهم على كل الشرفات، وجدوها على كنبتها تتنقّل بين المحطات، من نشرة أخبار محلية الى أخرى فضائية، من برنامج سجالي الى آخر"توك شو". تعيش في قلب الأحداث وتتمنى لو تتمكن من مشاركة اللبنانيين"انتفاضة الاستقلال". استقبلتهم والدموع تملأ عينيها. فاجأتهم بوعيها الكامل. وبحديثها الذي لا يشوبه أي خطأ أو ارتباك على رغم تقدمها في السن. شعرت نحوهم بالخجل. أخبرتهم ان"صحتها على قدها"ولهذا لم تنزل الى ساحة الحرية وتشاركهم في تحركهم... كأن أحداً يعتب عليها على أي حال!."لكنني معكم لحظة بلحظة، والفضل لهذه الآلة الغريبة العجيبة التي ترونها أمامي، التلفزيون". الجلسة مع الجدة مغرية. فهي متحدثة لبقة. ومن يجلس معها، يرغب في أن تطول الجلسة أكثر واكثر. حتى الدقائق تمرّ بسرعة، وعلى الشباب عمل طويل يتابعونه، ومع هذا سرقوا بضع دقائق أخرى، ثم استودعوها، طالبين منها الدعاء لنصرة قضيتهم. من يصنع السياسة؟ في تلك الجلسة السريعة لم تنس الجدة التكلم عن أهمية التلفزيون ودوره في التأثير على العقول. أعطتهم مثل mtv، المحطة التي أقفلتها الدولة قبل سنوات لأسباب سياسية كما يؤكد كثيرون. راحت تشكرهم على الصورة الحضارية التي يظهرون بها على شاشات العالم، بشعاراتهم الواحدة وأعلامهم الموحدة، نصحتهم بألا يستهينوا بدور التلفزيون،"فهو الذي يصنع السياسة"، كما تقول"لا العكس"... لعلها سمعت هذه الجملة من أحد ضيوف البرامج السياسية، وعلقت في ذهنها، أو ربما تكون قد شاهدت أحد الأفلام التي تدور حول هذه الفكرة، هي التي كانت تعشق الأفلام قبل 14 شباط فبراير 2005، ثم تغير كل شيء... حتى أن شغفها بكل فيديو كليب جديد تبثه الفضائيات، استعاضت عنه بالأغنيات الوطنية. الأغنيات الوطنية التي تخرج عبر مكبّر الصوت من ساحة الاعتصام وتثير قشعريرتها... ذات اثنين، وهي تتابع أحوال التظاهرة، تعرّفت الجدة الى أحد الوجوه بين الحشود. انه حفيدها المحامي طارق، لابسا رداء المحاماة الأسود، محاولاً خرق طوق الجيش الذي كان على أي حال متساهلاً مع الشباب في التظاهرة وملاقاة الحشود الى الساحة. طارق نزل مع أعضاء وفد نقابة المحامين الى مركز الاعتصام، بزيهم الأسود التقليدي للوقوف مع الشعب اللبناني، والمطالبة بالحقيقة، الحقيقة الكاملة. أخذته الكاميرا لدقائق ثم ابتعدت عنه. كبُر قلب الجدة واحسّت بانتصار ما. غيّرت المحطة علّها تلمحه من جديد... تساءلت عن أصحاب الرداء الأبيض.. وفد نقابة الأطباء. لعلّ بينهم دكتور زياد. لمَ لا، فهو أصلا مسيّس أكثر من أخيه؟ وانتظرت. فكّرت بجيرانها. تمنت أن يكونوا قد شاهدوا طارق... ثم دقّ الباب. ابتعدت عن الشاشة. فتحت الباب. وجدت جارتها عليا منعجقة."دكتور زياد، دكتور زياد على"المستقبل"أسرعي". أسرعت الجدة. حملت الريموت كونترول. أرادت أن تغير المحطة. ثم اكتشفت انها تشاهد أصلا"المستقبل"وكيف لم تره؟ أتراها سهت عيناها بعض الشيء؟. فاتها مشاهدة دكتور زياد. لامت نفسها... لكن... لو لم يدق الباب؟ في احدى ليالي الاعتصام، كان المعارضون يخطبون بالشعب. للمرة الأولى تتنبه الجدة الى الميكروفون الذي يحملونه في أيديهم. لا هو ميكروفون المستقبل، ولا ميكروفون lbc او أي محطة أخرى قد تخطر في بالك. إنه ميكروفون mtv. أمعنت الجدة في النظر. دققت أكثر وأكثر. لا، عيناها لا تخونانها، انه فعلاً ميكرو mtv. أتراهم فتحوها من جديد؟ طبعاً لا، والا لكانت عرفت بالأمر. فحفيدتها رلى كانت من طاقم عملها قبل أن تُقفلها الدولة ويُصرف موظفوها الثلاثمئة، هذا إذا ما زالت ذاكرة الجدة جيدة؟ مكتب وحنين مارسيل غانم بات اليوم من مذيعي الجدة المفضلين. حرفيته وجهوده أثارت إعجابها. هي تعرف انه يفكّر مثلها، لكنه نظراً لمهنيته المتميزة يلعب اليوم دور محامي الشيطان. اوليس هذا من شروط العمل الاعلامي؟ كم احبته في المقابلة مع وليد جنبلاط التي نقلتها lbc من مكتب الزعيم اللبناني في بلدة المختارة. شعرت بسحر المكان. وبحنين الى فترة ماضية. فكرت لو عرفته قبلاً وهي شابة، لكانت توجهت اليه وغمرته غمرة قوية ولما افلتته ابداً، لكن ما نفع ذلك اليوم؟! شعرت بتواطؤ ما بين الرجلين. مارسيل كان متفوقاً كعادته في رأيها، وجنبلاط بدا لها رجلاً ذا كاريزما خاصة لا يمكن انكارها! أثارت ليلى كرم دموعها في مقابلتها مع ريتا خوري! جعلتها تعرف الكثير عن الشهيد الذي كان في حياته يساعد أهل الفن ويدعمهم. الجدة لم تكن تعرف هذا عن الراحل. كما انها لم تكن تعرف عنه أيضاً حكاية براميل الزيت ومعوناته للناجين من مجزرة قانا، ووو... فقط لو عرفت قبلاً كل ما يُحكى اليوم في"يوميات" وغيره من البرامج على لسان اشخاص عرفوا الحريري عن قرب، لكانت...! زافين في"سيرة وانفتحت"ارعبها بالتحليلات النفسية، وتعليقات الأطباء والمحللين... أحبته باللحية. وجدته أكثر رجولة، هي التي كانت تأخذ عليه أنوثة ما. في المقابل أرعب الجدة منظر الأشباح باللباس الأبيض، حين راحوا يظهرون وسط ليل بيروت وشوارعها يسيرون بهدوء وكبرياء. خافت. فكرت انها صارت في الجنة. ثم سرعان ما عرفت ان هذه الصور ما هي الا مشاهد في فيديو كليب جديد صوّر تحية للشهيد، بطلته مغنية جديدة ذات عينين ساحرتين تدعى ميكائيلا، كانت من اول من وضع أغنية عن الشهيد الراحل، باتت تتنافس اليوم على استقطاب المتفرجين مع كليب آخر صور في ال بي سي لأغنية:"لأ ما خلصت الحكاية". حين استوعبت الجدة هذين الكليبين صرخت بحماسة، وقالت:"يا هكذا يكون الفن والا بلا"... اليوم باتت الجدة تتابع جيزيل خوري على"العربية"بشغف كبير، خصوصاً بعدما سمعت عن المقال الذي نشر قبل أسبوع في عدد"نيويورك تايمز"عن أهم ثماني نساء إعلاميات في العالم، ورد بينهن إسم جيزيل خوري, في المرتبة السابعة, هي الإعلامية العربية الوحيدة التي تصدّر إسمها في هذه اللائحة. الجدة تثق بالصحافة الغربية، وتثق ان لبنان سيقف من جديد على رجليه، كيف لا وانظار العالم كله موجّهة اليه؟ على أي حال جيزيل لم تخيب ابداً أمل الجدة في الماضي، ولكنها لم تكن تنبهت الى انها انتقلت الى"العربية"منذ زمن بعيد. حتى أنها تصرّ وتؤكد أنها كانت تشاهدها دائماً مساء كل احد على شاشة"ال بي سي"اتراها اعتادت الخلط بينها وبين شذا، التي صار لها على هذه الشاشة برنامج تتابعه الجدة اليوم بكل شغف... وترى، على بساطتها، وحماستها، انه يُفهمها مجرى الأمور أكثر من أي برنامج آخر...؟