زعيمان كبيران في تاريخ الجزائر الحديث، سطع نجمهما قبل الثورة التحريرية وبعدها، مثَّلا إلى حدّ كبير مظاهر الصراع الحاصل اليوم بين كبرى المشاريع السياسية على الساحة الجزائرية"أولهما الإمام محمد البشير الإبراهيمي الذي انتهت إليه رئاسة جمعية العلماء المسلمين عقب وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس، هذه الجمعية التي كان لها الفضل في تأسيس الفكر الثوري للشعب الجزائري من خلال نشرها للثقافة الإسلامية واللغة العربية في زمن كانت تسمّى الجزائر فرنسيةً. والرجل الثاني هو الزعيم الوطني هوّاري بومدين، الذي حكم البلاد بعد انقلابه على أحمد بن بلَّة في 19 حزيران يونيو 1965، واستمرت رئاسته حتى وفاته عام 1979. شخصيتان حالمتان بمستقبل زاهر لبلد لم يعرف طعم الاستقرار طيلة تاريخه القديم والحديث. كان بومدين يرى في الجزائر مطلع القرن الواحد والعشرين قاطرة لإفريقيا، نظراً لما تمتلكه من رصيد تاريخي وثقافي وسياسي واقتصادي جدير به أن يجعلها في مصافّ الأمم المتقدمة"فتوسَّلَ لذلك، طيلة حكمه في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، سياسات اقتصادية واجتماعية استوحاها من الاتحاد السوفياتي، ركّزت على تشييد المشاريع الضخمة، وتثبيت ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، وأغدق على الشعب ما يلامس حياته اليومية من دعم للمواد الأساسية ومجانية للتعليم والصحة والسكن، مستفيداً في ذلك كله، ممّا تدرّه أنابيب النفط والغاز من عملة صعبة ملأت خزينة الدولة باحتياط قُدِّر بعشرات البلايين. وكادت هذه البحبوحة من العيش الرغيد أن تغري أهلها بالمزيد، لولا السنون العجاف التي عصفت بالجزائر الفتية، التي لم تجاوز العشرين من عمر استقلالها"لتبدي لنا الثمانينات والتسعينات ترهّل الشركات الوطنية الكبرى بسبب الإفلاس المتمادي المعمّى عليه بالاحتياط الهائل من العملة الصعبة في الخزينة الوطنية، والاختلاس الشنيع الذي بلغ سبعاً وعشرين بليوناً من الدولارات، كما صرّح بذلك رئيس الحكومة الأسبق الدكتور عبد الحميد الإبراهيمي. وفوق ذلك كله استنكاف شعبي عارم من جدوى الأنظمة الاشتراكية، التي علّمت الناس الكسل والتواكل، وأبعدتهم عن آمالهم المرجوة منذ بيان أول تشرين الثاني نوفمبر، تاريخ تفجّر الثورة الجزائرية. والذي نصّ على قيام دولة ديمقراطية في ظل المبادئ الإسلامية. إن هذه المفارقة التاريخية الكارثية بين النشأة والمآل، هي التي دفعت برمز الإصلاح الوطني الجزائري الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كي يطلق كلمةً صارخة ضد الانحراف العقائدي والسياسي، في 16 نيسان أبريل 1964 ذكرى وفاة ابن باديس الرابعة والعشرين، عندما قال:"إن وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة، ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل، ولكن المسؤولين ? في ما يبدو- لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية لا من مذاهب أجنبية". لم يبق في ظل هيمنة الحزب الواحد على الحكم طيلة ثلاثة عقود من الزمن من مشاريع سياسة يتنفّس الشعب من خلالها غير مشروع وطني تقوده ثلّة من العسكريين، استفادت من التناقضات الدولية إبان الحرب الباردة لتحكم باسم الشرعية الثورية فتدفع بجبهة التحرير الوطني إلى الواجهة وتدير الأمور من ورائها لتحكم باسمها ولتتحكّم فيها، ممرِّرة مشاريع استعمارية مشبوهة أدت بالبلاد إلى الانفجار في 1988، وزجت بالعباد في اقتتال دامٍ بعد انقلاب مشؤوم عام 1992"لتحصد من أجل ذلك عدداً من السنين تطيل بقاءها في سدّة الحكم. أفرز دستور 1989 في عهد الرئيس المقال الشاذلي بن جديد تيارات عدة على الساحة الجزائرية، حملت على تنوعها مشاريع سياسية ثلاثة كبرى: إسلامية وديمقراطية ووطنية"فرأى الإسلاميون في الإسلام أساساً للحكم، وفي الشورى أداة للتداول على السلطة، واستمدّوا من بيان أول نوفمبر الشرعية الفكرية، ومن التاريخ الإسلامي النموذج المجسّد لهذا المشروع. يحمل هذا الطرح الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ذات الغالبية والمغيّبة عن الساحة السياسية حتى الآن، وحركة مجتمع السلم حمس ذات الميول الإخوانية، وحركة النهضة، وحزب الإصلاح الوطني. وهذه التشكيلة الرباعية أقانيم لا تختلف جوهرياً في طروحاتها. وعلى رغم أن الإسلام يدعو إلى الوحدة والتعاون برزت بين هذه التيارات عوامل الفرقة والتنابذ، وتزاحموا على مقاعد السلطة حاملين برامج غير ناضجة لإسلامية السياسة والحكم. ولم تشأ الظروف القاسية التي مرّت بها الحركة الإسلامية في الجزائر، منذ إقصاء جبهة الإنقاذ عن الحكم، ولا توجيهات رمز الإصلاح المعاصر المرحوم الشيخ أحمد سحنون أن توحّد هؤلاء في مشروع واضح المعالم واعٍ وحكيم، بل تقدّم الجميع فرادى إلى الرهانات الانتخابية ليحصلوا على شيء من المقاعد في هذه الدورة، وعلى مقعد أو لا شيء في تلك الدورة. وذاق هؤلاء الإسلاميون لذة السلطان فسعوا إلى البقاء بشتى السبل، بدءاً بولاء المشبوهين المتنفذين من العسكريين، ومروراً بالاشتراك في لعبة فرّق تسد التي استغلها النظام لكسر شوكة كل حزب يشتم منه رائحة القوة والعنفوان، كما حصل مع جبهة الإنقاذ وكما حدث لحركة النهضة، وما يُبيَّت للإصلاح عقب انتصارها في آخر الانتخابات التشريعية ليس عن هذا ببعيد. إن هذه النفعية البادية في توجهات الأحزاب الإسلامية أغرت بهم الناس فاتهموهم ب"الإسلاموية"، التي تعني أدلجةَ الإسلام كمقدس وثابت من ثوابت الأمة، وجعله شعاراً بين هاتيك الشعارات التي يعبث بها هواة السياسة ومحترفوها. ولعل هذا ما دعا الدكتور عباسي مدني ليقول في مقابلة له مع مجلة"المجلة"في عددها 1233 بأن جبهة الإنقاذ مسلمة وليست إسلاموية. وفي ظل غياب أرضية مشتركة ورؤية موحدة لمستقبل الجزائر يبقى الإسلاميون قوى مفتتة لا تحمل أدبيات واضحة المعالم للدولة الحديثة التي تنشدها الغالبية الساحقة من الجزائريين، بل إن السائد من تلك الأدبيات بحاجة إلى تنظير وتدبير يرقى بها رقيّ القوانين الدستورية في الدول المتقدمة، وأقله تقديراً الجانب التنظيمي منها. وفي قبالة هذا المشروع السياسي البارز يتخندق مشروع ديمقراطي يستمدّ آيديولوجيته من الديمقراطيات الحديثة في الغرب، ويغالي بعضه كالتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ليطرح فكرة الدولة اللاّئكية، مقصياً بذلك كل التوجهات الرامية لبناء دولة الإسلام رغم حضورها الشعبي الطاغي. بل إنّ هذا الحزب ما فتئ يدعو إلى تعميم الثقافة الآمازيغية ذات الأهواء الرومانية، تمهيداً منه لتحقيق حلم يراود مناضليه في انفصال بلاد القبائل عن الجزائر لترتبط بفرنسا، الأمّ الحنون، المغذية لهذه النزعة منذ أيام الاحتلال. وأمعن هذا الحزب في التمكين لتوجهاته الاستغرابية ولو على حساب ثوابت الأمة الجزائرية الإسلام والعربية والأمازيغية، التي اختزلها ابن باديس الصنهاجي الأصل في قولته المشهورة:"نحن أمازيغ عرّبنا الإسلام"، فراح يشجع التنصير في بلاد القبائل، ويدعو إلى رموزية"التّافناغ"كي تحلَّ محل الحرف العربي في كتابة لغة بني مازيغ، ووجد في مخابر الجامعات الفرنسية أنسب مكان لأنشطتة الأكاديمية، التي تحمل لواء التنظير الألسني لهاته اللغة. ويعاضد هذا الحزب الجهوي حزب جبهة القوى الاشتركية الذي يمتلك رصيداً شعبياً أكثر بكثير من حزب التجمع، نظراً لوطنيته ونضاله المستميت، منذ الاستقلال، ضد الدكتاتوريات والدولة البوليسية كما يسمّيها. غير أن هذا الحزب، كسالفه، خانته"ديمقراطيته"يوماً ما عندما نال المرتبة الثانية بعد جبهة الإنقاذ في الانتخابات، رغم مجيئها بإرادة شعبية أقر بها الجميع. تلك المسيرة التي وجد فيها الانقلابيون صدى شعبياً لشرعنة إيقاف المسار الديمقراطي، الذي أطل فجأة في تاريخ الجزائر المعاصرة ثم سرعان ما توارى عن الأنظار. يضاف إلى هذين التيارين"الديمقراطيين"حزب التجمع الوطني الديمقراطي, أو حزب زروال، كما كان ينادى، وهو حزب لا تلمس فيه إلاّ روح الاستئصال وكراهية المشروع الإسلامي العروبي. ويُعتبر وزير الحكومة الحالي أحمد أويحيى من أكبر رموزه السياسيين. لست أدري هل كان لتعاسة الديمقراطية في الجزائر أم لسعادتها أن يتمثلها هؤلاء؟ وهل درى هؤلاء أي مأساة يلحقونها بالشعب لمّا يروّجون لأيديولوجيات لم تثمر في تاريخ الجزائر المستقلة غير التردي والهدم، وهم، على رغم نفوذهم في مؤسسات الدولة إن إرثاً من الاستعمار أو مناولة من السلطان، واهمون في جدوى فلاح أي أطروحة لا تستمدّ جذوتها من الثوابت الوطنية، التي اجتمع عليها الجميع، لا سيما إذا كانت أطاريحهم تلك مناقضة لهذه الثوابت، التي يرتكز عليها الشعب في وجوده وأحلامه. ويبقى المشروع الوطني، الذي يلعب على حباله كثيرون. وهو مشروع لا يختلف كثيراً عن طروحات الأحزاب الحاكمة في كثير من الدول: فالتنمية، والولاء للدولة القطرية، والمشاركة الشعبية في البناء، وتقزيم المعارضة، والسعي للبقاء في السلطة… وما إلى ذلك من شعارات روّجت لها جبهة التحرير الوطني في عقود حكمها السابقة. ولا أظن أن أمثال هؤلاء الوطنيين يمتلكون تجارب ناجحة في تاريخهم، ولا مشاريع ناضجة لمستقبلهم"فتراهم في أحسن الأحوال يعزفون على أوتار الميول الشعبية المتقلبة، ويركبون الموجة تلو الأخرى فتلقي بهم حيث يريدون حيناً، وحيثما لا يبغون أحياناً أخرى. وهم على حالتهم تلك أحسن حالاً من"الديمقراطيين"، الذين تكاد تعدم في سلوكهم وتصورهم روح الديمقراطية، الرامية إلى قبول الآخر والرضا بحكم الغالبية. ولا يكاد القوميون يجدون لهم منبراً بين أبناء الجزائر، نظراً لبعد الشمال الإفريقي عن تأثيرات المدّ القومي في الشرق. وربما كان لإيمان البربر بأنهم أمازيغ عرّبهم الإسلام أكبر الأثر في ممانعة تعريبهم رغماً عنهم"لأنهم، كما يقولون، عروبيون أكثر من العرب، إذا تعلّق الأمر بقضايا الإسلام والمسلمين. وهذا الشعور الطافح كان سبباً يضاف إلى جملة أسباب أخرى أقصت حزب البعث العربي الاشتراكي من نيل الترخيص. ولا يزال المشروع المهيمن على الجميع حتى الآن، مشروع العسكر ذوي الميول"الفرونكوفيلية الذين يحملون الروح الفرنسية قلباً وقالباً لا الناطقين بها لساناً. ومشروعهم الاستبدادي يفرض على الشعب فرضاً، ويمرّر بمنطق القوة لا بقوة المنطق، وعليه تتحطم كل المشاريع السياسية: إسلامية كانت أم ديمقراطية، وطنية كانت أم قومية. ونقاط الضعف في مشروع العسكر اثنتان: شرعية البقاء والوعي المتنامي في أوساط الشعب، الذي شهد عشرية من التيه، لم يفقه منها سوى أنها مرحلة ولّت وتلاشى ظلها، ولم يعد لديه منها إلاّ أن تُذكر فلا تُعاد. تُرى، هل تستطيع وعود الرئيس الجديد في المصالحة الوطنية أن تجمع هذه التناقضات من دون إفراط أو تفريط، وماذا عساه فاعلاً وبذور الشقاق والصراع بين هذه المشاريع السياسية هي سرّ وجودها وتجدّدها؟ باحث جزائري.